يتغيّر العالم بسرعة. لم يعد المحيط الاطلسي هو القلب والمركز. المحيطان الباسيفيكي والهندي صارا نقطة الجذب. لم يعد التنافس الإقتصادي الأميركي ـ الصيني هو العنوان، بل صارت أسيا ككل. والسؤال المطروح بإلحاح: هل يمكن للقارة الأكبر أن تقود العالم؟
مع كل خطوة على طريق الصعود، يشتد التنافس والتناحر أو التلاقي والتجمع. تتغير الأدوار. تتبدل الإتجاهات. تنقلب التحالفات. الملعب الآسيوي رحب جداً واللاعبون فيه كثر وطامحون. كلهم يبحث عن أدوار وحلفاء أو أصدقاء أو شركاء: الصين، اليابان، الهند، باكستان، إيران، تركيا، السعودية، وطبعاً روسيا التائهة بين نصفها الأوروبي ونصفها الآخر الآسيوي، بين إستعادة مجد سابق وقدرة إقتصادية محدودة. لعبة المصالح صعبة، والحسابات معقدة، والجغرافيا فيها قد تتفوق على السياسة والتاريخ والأيدولوجيا والمعتقدات.
في ذروة إحتدام المشهد العالمي، ثمة إنقلابات تحدث على المستوى الإقليمي. الشرق الأوسط وجنوب غرب أسيا في قلب الحدث. وكلما باعدت المصالح والسياسات بين السعودية وبين باكستان خطوة، كلما إقتربت إسلام أباد خطوتين من طهران “العدو الأول” للرياض. وكلما إقتربت باكستان من إيران خطوة، كلما ذهبت الرياض أبعد في إتجاه نيودلهي الغريمة اللدودة لإسلام أباد. وسط هذه التبدلات، لا بد من البحث عن إرتدادات التنافس الصيني الأميركي والصراع الإيراني الأميركي والتناحر الهندي الباكستاني وبطبيعة الحال العداء السعودي الإيراني في هذه المنطقة الحساسة من العالم.
قبل أيام نشر الزميل مصطفى شلش في موقع post180 تقريراً عن إفتتاح معبر حدودي جديد بين إيران وباكستان. يقع المعبر البري (ريمدان – جوادر) الجديد في موقع إستراتيجي بمقاطعة سيستان بلوشستان جنوب شرق إيران، المتاخمة لمقاطعة بلوشستان الباكستانية، ما يجعل الطريق الواصل بين البلدين الآن، أقصر طريق بري يربط ميناء جوادر بإيران. وهكذا سيتم ربط الأجزاء الجنوبية من إيران وباكستان للمرة الأولى منذ ما يقارب الـ70 عاماً.
هذا التطور من شأنه أيضاً أن يسهّل إنضمام إيران إلى مشروع الممر الإقتصادي الصيني – الباكستاني الذي يعد من أضخم المشاريع في قارة آسيا، وتالياً إحداث نوع من التوازن في إقتصاد إيران المتعثّر بحكم العقوبات الأميركية بالدرجة الأولى، علماً أن إسلام أباد لم تبد في السابق حماستها لمشروع كهذا رغبة منها في عدم إزعاج حليفيها التقليديين الرياض وواشنطن. السؤال المطروح حالياً، هل أن الإنفتاح الباكستاني على إيران هو تعبير عن إنزعاج مستجد من السعودية؟
لطالما كانت العلاقات السعودية الباكستانية ممتازة في العقود الأخيرة. والأهم من ذلك، أن الرياض إستثمرت كثيراً فى البرنامج النووي الباكستاني، وكانت تعتبر أن السلاح النووي الباكستاني يشكل مظلة حماية فعلية في مواجهة التهديدات الخارجية ولا سيما الإيرانية منها. كما تتمركز قوات باكستانية بشكل روتيني في السعودية لحراسة العائلة المالكة في الرياض وتدريب القوات السعودية.
بدأ التوتر في العلاقة بين إسلام أباد والرياض يظهر إلى العلن في كانون الأول/ ديسمبر 2019 عندما أرادت باكستان المشاركة في المؤتمر الإفتتاحي لمنظمة تعاون إسلامية جديدة إستضافتها بشكل مشترك ماليزيا وتركيا وقطر في كوالالمبور. وقتذاك، إعتبرت الرياض هذه المنظمة محاولة لإنشاء تجمع منافس لمنظمة التعاون الإسلامي (OIC)، التي تتخذ جدة مقراً لها. في النهاية، إستسلمت إسلام أباد لضغط الرياض بالتراجع في اللحظة الأخيرة. في الوقت نفسه، ظلّت باكستان غير راضية عن دور منظمة المؤتمر الإسلامي، لإحجامها عن تسليط الضوء على قضية كشمير بشكل كافٍ في مؤتمراتها. وفي المقابل، إعتبرت الرياض تحوّل إسلام أباد إلى المحور القطري التركي الماليزي الإيراني، إستهدافاً مباشراً لها، حتى أن زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في فبراير/ شباط الماضي، إلى إسلام أباد، بدعوة من رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان، والتي أثمرت اتفاقيات تعاون إستراتيجي بين البلدين، أحدثت نقزة كبيرة عند السعوديين.
قبل ذلك بسنوات، رفضت إسلام أباد في 2015 إرسال قوات للمشاركة في حرب السعودية في اليمن، وكان ذلك في عهد نواز شريف، الذي تُعتبر علاقته بالرياض أقوى من علاقة رئيس الوزراء الحالي عمران خان. في صيف العام 2017، التزمت الباكستان الحياد في مواجهة أزمة حصار قطر. كذلك، حافظت على موقفها الحيادي من برنامج إيران النووي، وأبقت قنواتها مفتوحة مع طهران، وصوّتت مرات عدة ضد مشاريع قرارات سعودية في الأمم المتحدة تدين إيران، وذهبت إلى حد إيفاد قائد جيشها إلى طهران وتقديم تطمينات للإيرانيين.
في الوقت نفسه، رفضت باكستان تطبيع العلاقات مع اسرائيل، برغم الإلحاح الأميركي والسعودي، وكشف عمران خان، في مقابلة تلفزيونية، أن الولايات المتحدة و”دولاً صديقة أخرى” تضغط على بلاده، من أجل الإعتراف بإسرائيل، في إشارة إلى السعودية.
وجاءت الضربة الأكبر للعلاقة بين الرياض وإسلام أباد، عندما إقتطعت السعودية “جيلجيت بالتستان” و”كشمير” من ضمن الحدود الباكستانية الموضحة فى خريطة العالم، على ظهر ورقة نقدية أصدرتها الرياض احتفالاً برئاستها قمة “مجموعة العشرين” في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020. قبل ذلك، هدّد وزير الخارجية الباكستاني شاه محمود قريشي، السعودية بأنها إذا لم تثر قضية كشمير في منظمة التعاون الإسلامي، فإن باكستان ستنضم إلى كتلة أخرى، في إشارة إلى الكتلة التى تقودها الصين، والتي تحتل فيها إيران مكانة بارزة.
لم “تبلع” الرياض هذا الموقف “غير الديبلوماسي” للوزير قريشي، فطالبت إسلام أباد بسداد مبلغ مليار دولار قدمته لها المملكة لدعم احتياطيها من النقد الأجنبي. وفي محاولة للجم التدهور، زار رئيس الأركان الباكستاني قمر جاويد باجوا الرياض. لكن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الحاكم الفعلى للمملكة، رفض الاستماع إلى ممثل رئيس الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك سلاحاً نووياً. فكانت هذه إهانة، لقائد الجيش الباكستاني لا يمكن إصلاحها.. علماً أن الصين أقرضت إسلام أباد المليار حتى تسدده للسعودية!
وزاد الطين بلة، قرار الرياض بتوطيد علاقتها مع “العدو” الأول لباكستان، أي الهند. إستقبل السعوديون بحفاوة رئيس أركان الجيش الهندي في زيارة هي الأولى من نوعها للرياض بهدف تطوير العلاقات العسكرية بين البلدين. قبل ذلك، كان محمد بن سلمان قد زار نيودلهي في فبراير/شباط 2019، وتعهد بتقديم إستثمارات سعودية كبيرة في قطاعات عدة بالهند، كما تم الإعلان عن اتفاق نفطي بين البلدين قيمته 15 مليار دولار في أغسطس/آب الماضي، أي بعد أيام فقط من إعلان الهند إلغاءها استقلال كشمير.
ومقابل تردي العلاقات السعودية ـ الباكستانية، كانت العلاقات بين السعودية والهند تشهد نمواً سريعاً، لا سيما في ظل وجود 2.7 مليون هندي يعملون ويعيشون في السعودية وفي ظل حجم تجارة متبادلة بلغ حجمها 27.5 مليار دولار، في العام 2018، حيث تعد السعودية رابع أكبر شريك تجاري للهند. وفي المقابل، جرى ترحيل عمالة باكستانية في العامين الماضيين من المملكة التي تستضيف قرابة مليوني باكستاني، تقدر تحويلاتهم من العملات الأجنبية بنحو 4.5 مليار دولار سنوياً.
تنبري أسئلة كثيرة:
-ما الذي تغير وما الذي أوصل إلى هذا الإنقلاب؟
-هل هو تغيُر السلطة في باكستان وتراجع دور حلفاء السعودية فيها مثل برويز مشرف لمصلحة شخصيات جديدة (عمران خان) لا تربطهم صلات قوية بالقيادة السعودية الجديدة بكل مقارباتها الجديدة سواء للداخل السعودي أم للجوار الخليجي والأسيوي؟
-هل وجدت المملكة غطاءً نووياً بديلاً للغطاء الباكستاني يتمثل بالتطبيع مع اسرائيل؟
-هل من شأن الإبتعاد السعودي عن باكستان تخفيف أكلاف مادية في ظل ظروف اقتصادية صعبة تعيشها المملكة بسبب حرب اليمن وإنخفاض أسعار النفط؟
-هل أن مغريات السوق الهندي الكبير تحتم هذا الإنقلاب في السياسات على حساب المعتقدات الدينية والروابط التاريخية؟
-هل أن شعار “آسيا أولاً” بات يفترض تحالفات جديدة وأصدقاء جدد، أم أن هناك ضرورات لتكتلات سياسية جديدة وأحلاف جديدة في مواجهة تكتلات وأحلاف باتت قائمة فعلاً؟
-هل وجدت باكستان في الصين ما تحتاجه من دعم سياسي وإقتصادي يعوّض عليها ما خسرته من السعودية؟
لا شك في أن إمكانات الصين أكبر وأقدر على توفير الدعم والإسناد لا سيما أنها تتشارك وإسلام أباد في نظرة عدائية واحدة إزاء نيودلهي المنافس الأبرز لبكين في أسيا. كما أن الصين تتمتع بحق “الفيتو” في مجلس الأمن، وتالياً ستقف إلى جانب باكستان دبلوماسياً أكثر مما تستطيع السعودية في شأن قضية كشمير التي صارت بالنسبة إلى الباكستانيين قدسهم الشريف وقدس أقداسهم.
ثمة إبتعاد سعودي واضح، لكأن المملكة إحتاجت إلى باكستان من أجل مصالح أمنية. عندما لم تتحقق الغايات السعودية، قررت الرياض الإبتعاد تدريجياً عن إسلام أباد. وبالمثل، إحتاجت باكستان إلى المملكة لأغراض سياسية ومالية. لكن عندما وجدت في بكين ما لم تجده في الرياض ابتعدت عن السعودية خطوة ثم خطوتين وربما اكثر.
لا يقتصر الأمر فقط على لغة المصالح مع أهميتها. تبعاً لموازين النظام العالمي، تقع باكستان في المدى الحيوي للنفوذ الصيني، بينما لا تستطيع المملكة أن تحيد قيد أنملة عن تموضعها في صلب النفوذ الأميركي. فضلاً عن ذلك، ترتبط إيران بتحالف مع الصين، وتبعاً لذلك فإن إقتراب إسلام أباد وطهران من بعضهما البعض، يعزّز تقاربهما مع بكين.
صحيح أن العلاقات الباكستانية الإيرانية مرّت بفترات حرجة، لكن الجغرافيا تحتم أحياناً ما لا ترضاه السياسة أو الأيدولوجيا. لباكستان خصم جبّار على حدودها الشرقية والشمالية الغربية. إنها الهند. لذلك، لا يمكنها تحمل خصم آخر على حدودها الغربية المقابلة، أي إيران. كما أن المشاكل الحدودية مشتركة بين الدولتين الجارتين. باكستان تعاني في بلوشستان وإيران تواجه مشكلة أمنية في سيستان بلوشستان. يحتاج كلا البلدين إلى توحيد جهودهما في مواجهة التهديد العرقي للبلوش. كذلك فان الإستقرار في أفغانستان ونفوذ طالبان وإتساع دائرة النشاط المستجد لتنظيم “داعش” يحتّم على الدولتين الحفاظ على التعاون الأمني المشترك. إضافة إلى ذلك، فإن الشيعة يشكّلون مكوناً رئيسياً من المكونات الباكستانية، وتالياً فإن التقارب مع إيران يساعد في ترسيخ الإستقرار الباكستاني، أي أنه يشكل حاجة باكستانية داخلية قبل أي شيء آخر.
لا يعني ذلك أن العلاقة السعودية الباكستانية مهددة. لن تنقطع العلاقة بين الرياض وإسلام أباد، أياً كانت الظروف، لكن من الواضح أنها لن تعود كما كانت “خاصة” و”مميزة” سابقاً. في المقابل، ثمة أسبابٌ تدعو إلى الإعتقاد أن التقارب الهندي السعودي ومن خلفه الهندي الخليجي، ليس مؤقتاً على الإطلاق. تقارب قد يعيد تعريف العلاقة بين شبه الجزيرة العربية وجنوب أسيا في المستقبل القريب. الأرقام المتعلقة بالعمالة والتعامل التجاري والإستثماري وحتى الأمني بين الطرفين تشير إلى أن الهند ستصبح في غضون سنوات قليلة أكبر شريك وحليف إستراتيجي للرياض في جنوب أسيا. على الارجح، لن تكون باكستان مصدر التحدي الحقيقي للحلف الخليجي الهندي الجديد، بل الصين.
في حال إحتدام المنافسة الإقليمية وتحوّلها إلى لعبة بين الكبار، كيف يحمي اللاعبون الصغار رقعتهم من الفيلة الذين تضيق ساحاتهم بهم أصلاً؟
ينشر بالتزامن مع موقع post180