الجنازة لإسحق رابين. والقبر لإسحق رابين. ومن دفن فيه هو اسحق رابين فعلاً. ولكن، هل الميت هو هو اسحق رابين؟!
لقد تهاطلت ألقاب البطولة والصفات الحسنى وأوسمة الشرف على اسحق رابين بعد سقوطه قتيلاً برصاص ذلك اليهودي الموتور، حتى ليلتبس الأمر على السامع او القارئ او المشاهد (العربي بالذات) فيكاد يجزم بأن الفقيد المعني بكل قصائد الرثاء التي لما تتوقف، لا يمكن ان يكون رئيس الحكومة الاسرائيلية حتى لحظة اغتياله ليلة السبت الواقع فيه الرابع من تشرين الثاني 1995.
هل يستطيع الموت وحده، ولو اغتيالاً، ان يبدل صورة انسان الى هذا الحد، فيكاد »الجنرال« ينقلب الى »نبي«، ويتحول محطم عظام الاطفال الى داعية سلام عز نظيره في هذا الكون، وترسم من حول رأس رابين هالة من القداسة لا تتسق لا مع سيرته الشخصية ولا مع ممارسته سواء كجندي او كزعيم سياسي، لفئة من الاسرائيليين الذين فرض عليهم الذعر ان يبدوا »معتدلين«؟!
إن الغرب يهجم على العرب، بصورة رابين ميتاً بوصفه بطلاً فريداً للسلام… ولولا صراحة القاتل ووضوح الجريمة لاتُهم العرب بها تخطيطاً وتدريباً وتنفيذاً.
لقد ابتزت الولايات المتحدة العرب مرة من اجل رابين المرشح وضمان فوزه في الانتخابات، ثم ابتزتهم به حاكماً مهدداً بالسقوط ان لم يتنازلوا له بما لا يجوز التنازل عنه، حتى يبقى فلا يجيء خصمه »اليميني المتشدد«!!
وها هي تبتزهم به ميتاً لكي توفر مزيداً من الحماية لإسرائيل.
أي ان عليهم ان يظهروا بل ان يثبتوا انهم ضعفاء، ضعفاء، ضعفاء، وعاجزون وتافهون و»أيتام« مثل اولئك الحزانى من الاسرائيليين الذين »استفاقوا صبيحة الأحد (غداة الاغتيال) فوجدوا انفسهم في بلد آخر«!
من لا يمشي في الجنازة، او يمتنع عن تقديم واجب العزاء، او يستنكف عن ادانة الجريمة والاشادة بالفقيد الكبير هو عدو المجتمع الدولي والارادة الدولية، عدو الكون اجمع والخارج على نظمه وقيمه وليس عدو السلام فحسب.
والكل يسعى الى ادانة الاغتيال حتى لا يتهم بإعلان الحرب على العالم.
لا عذر لأي تخلف، فالامتناع عن الاستنكار يعني ادانة الذات.
من يمتنع يحكم على نفسه بالاعدام: وهكذا صدع الكل للأمر، من الكويت الى السعودية ومعظم الخليج وشمالي افريقيا، فمن لم يمش في الجنازة عليه ان يعلن توبته علناً وببيان رسمي!
* * *
القاتل، إيغال عمير، يميني متطرف وعضو في شبكة او في تنظيم يهودي ارهابي.
بهذا المعنى يغدو القتيل »يسارياً«، لم يكن متطرفاً في اي يوم، ولا كان عضواً في تنظيم ارهابي… وأداة التعريف انه »زعيم حزب العمل«، والحزب اشتراكي!
إنه تزوير آخر.
أي يسار هو هذا الذي يمكن ان يُنبت مثل اسحق رابين؟!
لا القاتل هو اليمين ولا القتيل هو اليسار.
اليسار خارج المسرح كله. لا هو القاتل ولا القتيل. انه تماماً مثل العربي المقتول مرتين: مرة بيد القتيل ومرة ثانية بيد القاتل!
وطريف هو الحديث المتزايد الآن داخل اسرائيل وخارجها عن »ضرب اليمين« او »تراجع اليمين« في اسرائيل، بينما كل »يمين« الدنيا يبكي »بطله« اسحق رابين من ادارة بيل كلينتون الاميركية الى قيادة كول الالمانية الى حكومة شيراك الفرنسية الخ،
الأطرف ان الباكين والمتباكين العرب على اسحق رابين، بالمشاركين منهم في جنازته والمتمنّين لأنفسهم مصيره، هم اعتى رموز يمين اليمين، بأي تصنيف عقائدي كلاسيكي، وبينهم »امير المؤمنين« وملك هاشمي لم يقدر ان يكون »خليفة« فصار »سيدنا«، ومشايخ نفط وطغاة ومشاريع طغاة كان من ضمن مبرراتهم في اللجوء الى »السلام الاسرائيلي« خوفهم من اليسار (اي من الوطنية) ولو كاحتمال!
* * *
لا دهر العداء او الصراع التاريخي بدأ برابين ولا هو سينتهي مع رحيله،
ولا »السلام« صناعة يدوية لا يتقنها احد الا اسحق رابين وهي ستنقرض بغيابه،
أما المواطن العربي، فلم يحضر الجنازة الا كمتفرج اتيح له اخيراً ان يمد بصره الى »بطن اسرائيل«، فيعرف ولو جزئياً بعض ما يهمه عن ذلك المجتمع الشديد التعقيد، الشديد التطرف، الشديد الانغلاق على عنصريته.
والعنصرية لم تلد السلام في اي زمان او مكان.. لا لنفسها ولا للغير خصوصاً.
وهذا »المتفرج العربي« لا يصل به التعاطف الى حد اعتبار اسحق رابين شهيداً للسلام، مع رفضه المبدئي للاغتيال، ولا تصل به الشماتة الى حد »التحالف« مع القاتل الذي زرع رصاصاته الدمدم في صدر رابين وظهره لأنه توهم ان »زعيمه« قد تنازل فأعطى العرب حق التنفس من هواء بلادهم!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان