منذ زمن بعيد اتخذ ابراهيم بيضون قراره الشجاع: أن يسافر عكس الروايات الرسمية عائداً إلى منبع التاريخ.
بهدوئه المستفز، وبشاعريته المرهفة، وبدقته المظللة بالنظارتين الرماديتين، باشر الرحلة من بلدته بنت جبيل عائداً عبر جبل عامل، فلسطين وسائر سوريا و»السواد« العراقي بالفتنة الكبرى وحروب الخوارج إلى »الردة« في فجر الاسلام إلى »الرسالة« و»الرسول« والفجر الجديد الذي ازاح الجاهلية ليبني في هذه الأرض دولة العرب الاسلامية او دولة الاسلام العربية التي لم نعرفها في زماننا إلا اشلاء مبعثرة يصعب التعرف في ثناياها على الاسلام كما على العروبة والعرب في حين غارت »الدولة« عائدة إلى مهجع الاحلام…
من يدخل التاريخ دارساً يصعب عليه الخروج منه، وسيكون عليه ان يخوض وحيداً معركة شرسة ضد كل كتاب السلطان الذين طالما زوروا او لفقوا او اجتزأوا او شوهوا في الوقائع ليخرج سيدهم منتصراً، او لتبرير هزيمته ولو على حساب الحقيقة والناس الذين سفحت دماؤهم من اجل ما اعتقدوا انه الحق.
وها هو ابراهيم بيضون يختتم ربع قرنه الاول في البحث والتنقيب والتمحيص والمقارنة، منذ ان انجز رسالة الدكتوراه في التاريخ الاسلامي في جامعة غرينوبل بفرنسا وحتى كتابه الاخير الصادر قبل ايام »مسائل المنهج في الكتابة التاريخية العربية«.
في الطريق بين الأمس واليوم تسنى لابراهيم بيضون الدارس ان يعيد كتابة بعض الصفحات من تاريخنا مصححاً (تاريخ العرب السياسي، من فجر الاسلام حتى سقوط بغداد) او ان يكتشف بعض الظواهر او ان يعيد الاعتبار إلى بعض الثوار الذين شوهتهم الروايات الرسمية (التوابون)، او ان يعيد تظهير بعض الاتجاهات السياسية في بدايات الدولة الاسلامية (من دولة عمر إلى دولة عبد الملك)، او ان يرصد المعارضات بنزاهة وبغير تجن او تشويه.
كل ذلك من دون ان يغفل وهو الشاعر ابن ارض الشعراء مسيرة الشعر داخل الدولة وداخل الحكام والمعارضين، ولا سيما في الاندلس (دراسة في ادب السلطة الامراء الامويون الشعراء في الاندلس).
المؤرخ كالنملة، لا يملك ان يتوقف. ان حبة القمح تقود إلى السنبلة، والسنبلة إلى الحقل، والحقل إلى البيدر، والبيدر إلى بيت الفلاح، وبيت الفلاح إلى التاجر، والتاجر إلى السوق، والسوق إلى الضريبة والجابي، والضريبة إلى نظام الحكم، ونظام الحكم إلى العلاقة بين الدين والحياة…
لا توقف اذن. لا محطة نهائية. الجزئيات فضاء بلا نهايات وعليك اعادة تجميع المتماثل والمتناقض لتكوين صورة او صور تعيد تجسيد اللحظة والنظام.
وما بين الواقعة والروايات عنها مسافة من الشك يلعب ضمنها المتضرر والمستفيد فينسحب المعارض المقهور تدريجياً إلى الاسطورة المغلفة بالقداسة بينما يفرض الحاكم خرافته المحصنة بالسيف، وتبقى الحقيقة صريعة مضرجة بدمها على الأرض لا تجد من ينجدها.
***
من الكتاب الجديد لابراهيم بيضون »مسائل المنهج في الكتابة التاريخية العربية«، الصادر عن »دار المؤرخ العربي«، نقتطع هنا فقرات من كتاب »فتوح الشام« للبلاذري احد اهم المؤرخين العرب وادقهم تتصل ببعض المروَّج والمعمَّم في لبنان حول »الجراجمة« و»المردة«، الذين يراهم البعض »ابطال تحرير«، ويقدمهم آخرون على انهم الاساس في »كيان لبنان«، ويصنفهم بعض غلاة الموارنة على انهم مؤسسو هذا المذهب وحماته، وبالتالي »مؤسسو لبنان«.
يقول ابراهيم بيضون في كتابه الجديد: »ان ادراج البلاذري للجراجمة ضمن »فتوحه« جاء في معرض غزو المسلمين لبلدتهم الجرجومة بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري الذي صالح اهلها »على ان يكونوا للمسلمين عيوناً ومسالح في جبال اللكام وان لا يؤخذوا بالجزية«. ولم يحدد البلاذري تاريخ هذه الغزوة، وان كان قد جعلها بعيد فتح أبي عبيدة لانطاكية، وهو ما يؤكده ابن الاثير الذي جعلها سنة خمس عشرة، حيث يقول: وكان بجبل اللكام مدينة يقال لها جرجومة واهلها يقال لهم الجراجمة، فسار حبيب بن مسلمة إليها من انطاكية فافتتحها صلحاً على ان يكونوا اعواناً للمسلمين«. ويستنتج من ذلك ان المسلمين بعد اخراجهم البيزنطيين من الشام، اخذوا يهتمون بالمواقع المتاخمة لهؤلاء مما جعلهم يساومون الجراجمة المقيمين في جبل اللكام على الجزية، مقابل اتخاذهم عيوناً على البيزنطيين في تلك المنطقة.
ولعل البلاذري يبدد هنا اللبس الذي يقع فيه معظم المؤرخين، عندما يخلطون بين الجراجمة والمردة، ويعتبرونهم المجموعة نفسها التي استخدمتها الدولة البيزنطية، لاثارة المتاعب ضد المسلمين خلال حروبهم الداخلية. فقد كان البلاذري واضحاً في روايته عن الجراجمة الذين دانوا بالمسيحية على المذهب اليعقوبي واتخذوا مقرهم في شمال بلاد الشام، حيث كان هؤلاء »يستقيمون للولاة مرة ويعرجون اخرى فيكاتبون الروم ويمالئونهم«. ومن هنا، فإن هذه المجموعة الحدودية كانت عرضة للتقلب في مواقفها واستخدامها في الاغراض البيزنطية، إلى جانب فئات اخرى مرتزقة، ربما كانت شامية ايضا، ولكنها لم تشكل بأجمعها القوة الاساسية التي قامت بتلك العمليات ضد الامويين، على نحو يشبه ما يعرف ب»حرب العصابات« في العهود الحديثة.
ولعل هذه المسألة، تتكامل مع المعلومة التالية التي انفرد بها البلاذري، في إشارته الى المردة بأنهم خيل للروم، او ما يرادف الكتيبة او الفرسان في اللغة العربية، موردا عن »مشايخ أهل انطاكية« بأنه بعد تولي عبد الملك الخلافة »واستعداده للشخوص الى العراق لمحاربة المصعب بن الزبير، خرجت خيل الروم إلى جبل اللكام، وعليها قائد من قوادهم ثم صارت إلى لبنان وقد ضوت إليها جماعة كثيرة من الجراجمة وانباط وعبيد أباق من عبيد المسلمين، فاضطر عبد الملك إلى ان صالحهم على ألف دينار في كل جمعة، وصالح طاغية الروم على مال يؤديه إليه لشغله عن محاربته وتخوفه ان يخرج الى الشام فيغلب عليه«. ثم تتابع الرواية: »فتفرق الجراجمة بقرى حمص ودمشق ورجع اكثرهم الى مدينتهم باللكام واتى الانباط قراهم فرجع العبيد إلى مواليهم«. وهكذا فإن تفرق المجموعة التي »انضوت« مع »خيل الروم« وقائدها، يقتضي عودة هذه الاخيرة إلى بلادها، بعد انتهاء مهمتها ومصالحة الامبراطور على مبلغ من المال لقاء سحب هذه الكتيبة او الفرقة. ويتوافق ما جاء لدى البلاذري مع نص المؤرخ البيزنطي المعروف »ثيوفانس« الذي يسمي هذه الاخيرة »المرادئيين«، او »المردة« كما ورد في الكتابات العربية، حيث يشير إلى خروج هذه المجموعة من الجبل الاسود لتنفيذ مهمة عسكرية، مستخدما عبارة »دخلوا« في معرض الاشارة إلى اشتراك هؤلاء في العملية السالفة الذكر، من دون ان يكون لدورهم اي مضمون عصياني، ادى الى اكتسابهم صفة التمرد، كونهم من خارج المنطقة، مما يرجح ما اورده تيوفانس والذي يتطابق بدوره مع رواية البلاذري.
وكان من الطبيعي ان تلفت مسألة الجراجمة وما رافقها من »حرب العصابات« التي غذتها الدولة البيزنطية بفرق من جيشها متعاطفة معها من الداخل الشامي، انظار الامويين الى خطر هذا النوع من التحرك العسكري، مما دفع الخليفة عبد الملك الى الاهتمام بالثغور وتسيير غزوات دورية او ما عرف بنظام الصوافي، وذلك بعد القضاء على حركة ابن الزبير وعودة الوحدة السياسية الكاملة للدولة، حيث انعقدت اكثرية هذه الصوافري لاخي الخليفة (محمد) وابنه (مسلمة)«.
***
هل يبقي التعصب شيئاً من العقل للحقيقة، او للواقعة التاريخية، ام ترى سنظل نعيش في الخرافة لانها تنعش الغريزة وتبرر السلطة، ام نخرج منها فنخرج من النظام؟!
هذا سؤال لم يطرحه ابراهيم بيضون، لكن الجواب قد يكون تاريخاً جديداً صادقاً ونظيفاً ككتابات ابن بنت جبيل المسافر عكس الزمن ليلتقي بذاته ذاتنا التي شوهها التزوير.
رسائل الى الضمير المتصل
يأتيني منك الصباح، فأتلقفه قطر ندى، ويأخذني إليك الوقت ما بين الشمسين فيصنع أيامي وأفكاري، وانظر حياتي في عينيها وقد ملكت صلابة اليقين وشجاعة الحمقى وهوس الشعراء.
ادور من حولك جماداً أخرس فتصطنع لي شمسك نهاراتي وأتصدق ببعض شعاعك على المساكين الذين اخطأتهم عاصفة الحب فظلوا يرتجفون في عراء الخيبة.
أهم بأن ابدأ حواراً فتفاجئينني بالاجابة على آخر الاسئلة، ويكون علي ان ادور كحجر الطاحونة بين السؤال الذي لم يطرح والجواب الاقوى من سامعه.
كلما تحادثنا تباعدنا. كأنما السؤال يقسمنا نصفين، فبعضي، يجيب بعضي وتبقى علامة الاستفهام في الافق تنتظر تحديد التخوم بين بعضك وبعضك حيث تخيم روحي وتستكين.
تأخذنا الحيرة إلى الصمت، في الصمت نتقارب مجدداً لانه يرجعنا إلى المشترك: إلى الالحاح على الاستحالة بالمستحيل.
أنا احاول تلمس البدايات وأنت تستوطنين النهايات فكيف السبيل إلى حوار؟!
لو أنك تصغين…
لو انك تقول!.
لكم اخافك. ليس اعظم من خوفي الا حبك،
خوفك مثل حبك، انانية، لذا تظلم نفسك وتظلمني. اذا رأيتني الغيت نفسك، فاذا ما تذكرت حالك الغيتني. لا اندماج بين المضمرين المتصل والمنفصل.
كيف يكون الضمير منفصلاً؟!
وكيف يتصل الضدان؟!
كاتصال الليل والنهار، ليس »الغد« لقيطاً لا أب له ولا أم.
وليس التاريخ يوماً واحداً متصلاً من الفجر وإلى الغياب،
ولكني كثيرا ما حاولت ان احررك مني. اعرف انني لست زمنك.
كلما حاولت اغويتني واستدرجتني فاحتويتني واستعبدتني اكثر. يستحقني قربك، ويلغيني بعدك. عليّ ان ادخلك ألف مرة في اليوم لانفصل عنك. لكنك تطاردني في كل امكنتي، في كل ازمنتي، في كل اخيلتي. يتكدس الحب جبالاً من الكراهية والقسوة. لكم اتشهى ان اتشرد في صحراء البغض، ثم اجدني عائدة مثل قطة عمياء إلى حضنك، ابكي وألعنك وأتوب إليك واتمنى لو انك لم تكن قط.
ولكنك انت الازمنة وكل الامكنة. اسافر مبتعداً بزوارق بلا اشرعة، يأخذني الموج إلى جزر مجهولة، ويرميني إلى عرائس الجن المسحورة، فيسحبنني إلى دهاليز خلفها دهاليز، حتى إذا ما اغلقن عليّ آخر باب بالمزلاج الغليظ، في قعر البحر، خرجتِ إليّ تحاسبينني على هربي منك.
قرأت في عينيك شعراً لجنية اللازورد.
طفر الشعر شوقاً إلى ملامحك. كانت عيناها منك. كانتا وسيعتين إلى ما بعد البحر، تستحم فيهما السماء فيشعل وهجمها الزرقة الباهتة بربيع مبكر، وتطلين عبر شجيرات الياسمين ابتسامة ساخرة تهزأ من جهولتي المتصابية، وتتباهين بأنك تملأين عليّ الامكنة والأزقة، ثم تصرخين شاكية ظلمي كسجان…
الآن تجعله شعراً فيّ، وانت المهووس بالجمال تتبعه كناسك يعبد حتى اذا استملته واستكان إليك اخذك الاعجاب بنفسك بعيداً عني، بل لطالما انكرتني في لحظات النشوة.
اكره أن تزوري نفسك. اكره ان تهجري الحب إلى الغيرة. اكره ان تصيري أمسي وانت غدي.
لستَ أمسي ولستُ غدك…
ألا نهاية لرحلة الشقاء هذه؟ اتمزقين وجهك لتخرجيني منه أم افقأ عيني حتى لا تطالعك صورتك فيهما؟!
هل اغضبتك؟!
لا يغضبني إلا عجزي عن أن أحبك أكثر..
ها قد بدأت تغضبني. أتريدني أن أموت اختناقاً في الأكثر! ارحمني أرجوك. خذ من حبك ما يكفل لي أن أتبيّن اسمي وصورتي. انسحب مني لكي أعرف نفسي. دعني أتنفس غير اسمك…
كل الأسماء اسمك.
لو أنك ترحل بعيداً، لو أنك تجيء إليَّ…
لو أنكِ تأتين، إذن لافترقنا.
ها قد اتصل الضمير بالمضمر. ها قد انعدمت المسافة. ها قد سقط الوجه في العين. ها قد أغلقت العيون أبوابها وأمحى الزمان. الى اللقاء.
بعد آهتين من مظفر يصل العراق..
الليل والشعر وأرجوجة الحزن العراقي المفتوح كباب الديان تأخذنا من الوجع إلى الوجع وتعود فتشلحنا في عتمة الأعمار الشقية التي انصرمت من قبل أن يطل القمر ونسيم الصبا ويتفتح وعد المقهورين حباًدافقاً كالفراتين،
الجرح أفصل من »المحاضر«، والوجع أبلغ من طبيبه الشارح.
سعدي الحديثي يقول بنظارتي الأستاذ الزائر، بيدي المعلم في الصف وأوراقه والدفاتر أمامه، يلجأ إليها فلا تعينه، بل تغيبه والعراق.
تربت كف مظفر النواب على كتفي، ويهدر صوت محمد مهدي الجواهري في أذني والقاعة ثم تترامى أصداؤه خارج المسرح إلى المدينة، إلى البلاد جميعاً، يملأ الريح والفضاء والزمان: أنا العراق!
يتفجر مظفر النواب مجلجلاً كالعاصفة. يمخر »الريل« السهول والسهوب والأهوار، يمزق القبائل وأحقاد التاريخ وغضب الآلهة، ثم تهزه رفة جفن فيهدأ، ويبتلع صوته لينساب فوق القضبان كالنسمة مخلياً الأفق للحب وهو يرفع عقيرته بالغناء.
يتهادى الصوت رجراجاً، عفياً، ثم يرق همساً مندى، ثم يهسهس قبلات مخطوفة مع انعطافة الخصر الهارب من اليد الراعشة إلى الحضن الطافح بأماني الزمن الغارب.
العراق لا يكون هادئاً إلا في القحط والسياب.
كل يوم يبنون أسواراً جديدة من حول النهر. يطوّقونه بالدبابات والنوايا السوداء. يقصفونه بالطيران والبغض. يحتجزونه في »الموقف الرقم واحد«. يريدونه أن يصمت. يريدونه أن يتجمد فلا يجري. يريدونه أن يهتف باسم الصنم.
لا ينطق النهر. يهدم الأسوار، يقلب الدبابات، يطوق الظالم فيحجزه، ويكمل رحلته »الريل« وقصة الحب التي كلما قاربت الاكتمال أبعد »الغزاة« الخاتمة، وعاد الحبيب يستكشف الزمان الجديد لحبيبه بالآهات.
خلف آهتين وتصل.
بعد قصيدتين من مظفر النواب ويكون العيد… ويعرف العراق أخيراً طعم الفرح، ويتلاقى الأحبة.