“أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ”
..ولقد اتى الموت عبد الحليم خدام (88 عاما) في منفاه الباريسي الذي هرب اليه بعدما غاب حاميه الذي عمل له وفي خدمته لأكثر من ربع قرن، الرئيس الراحل حافظ الاسد.
ولان حافظ الاسد كان دقيقاً، ومتيقظاً، فقد “ارجأ” التقدم إلى موقع الرئاسة حتى وافى الأجل أخطر الرؤساء في تاريخ هذه الامة الرئيس جمال عبد الناصر، مع انتهاء القمة العربية الاستثنائية التي عقدت في القاهرة لإنقاذ ما يمكن انقاذه من قضية فلسطين (28/9/1970).. بعد الحرب التي أعلنها النظام الملكي الهاشمي في الاردن (الملك حسين) ضد المقاومة الفلسطينية التي كانت قد تعاظمت نفوذاً وقوة وصارت “شريكة” للملك تقاسمه نفوذه في الامارة التي انتزعت من ارض سوريا، قبل أن تحولها “النكبة” إلى مملكة، بعد منح الامير الضفة الغربية لنهر الاردن ليغدو ملكاً.
خلال فترة الاعداد والاستعداد لتسلم السلطة أعد حافظ الاسد، بدقة، وعلى مهل، “الرجال” الذين سيعتمد عليهم “عهده” بحيث يكونون “معاونيه” من دون التطلع إلى فوق، سواء اكانوا مدنيين او عسكريين.. ولقد كان من بين من اختارهم: حكمت الشهابي كرئيس للأركان الحربية، العائد بخبرات جيدة بتكتيكات جيش الاحتلال الاسرائيلي، من خلال عمله في الاستطلاع الحربي على الحدود مع فلسطين المحتلة، وابن حلب ـ الشهباء، لأسرة معروفة.. ثم عبد الحليم خدام المحامي والذي دخل السلطة كقائمقام في درعا، جنوبي سوريا. ولقد اهتم الرئيس الاسد بعبد الحليم خدام، ابن بانياس الساحلية والتي لا تبعد كثيراً عن بلدته “القرداحة”.
اما سائر الضباط ممن اسند إليهم حافظ الاسد بعض المهمات الاساسية في المخابرات والمواقع العسكرية العليا والحكومة، فقد كانوا ممن عرفهم عن قرب، واختبرهم في مهمات دقيقة.
نجح عبد الحليم خدام في اكتساب ثقة الرئيس حافظ الاسد بعد نجاح ملحوظ في التعامل مع “المسألة اللبنانية”، لا سيما بعد انتقال المقاومة الفلسطينية إلى البلد الصغير متعدد الطوائف، المفتوح امام عواصم القرار الدولي غرباً بعنوان الولايات المتحدة الاميركية، ومعها فرنسا التي كانت منتدبة على لبنان لأكثر من ربع قرن (1920- 1947)، وكذلك امام مصر بإرث عبد الناصر فيها، والسعودية بنفوذها المالي.
ومع انفجار الازمة اللبنانية شديدة التعقيد، كلف حافظ الاسد اللواء حكمت الشهابي مع عبد الحليم خدام بمتابعة الوضع المتدهور نحو الحرب الاهلية بما يورط المقاومة الفلسطينية التي صارت “طرفا” بحكم وجودها الثقيل، بقياداتها وسلاحها وتحالفاتها السياسية وخصوماتها والخلافات التي ضربت وحدتها ومكنت دولاً عدة من محاولة التأثير على قرارها سواء بالمال ام بالسلاح وحقول التدريب وتأمين منفذي العمليات الخاصة.
صار عبد الحليم خدام “نجماً”، لا سيما وان حكمت الشهابي كان يُخلي له مساحة الضوء، ونسج المناورات وتقريب الزعامات على حساب البعض الآخر.
مع الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف العام 1982، تراجع الدور العسكري لسوريا فيه، وانتقل التركيز إلى الدور السياسي.. خصوصا وقد برز “التحالف” بين “القوات اللبنانية” سليلة حزب الكتائب، بقيادة بشير الجميل، والقيادات العسكرية للعدو آرييل شارون ومن معه (ديفيد كمحي).
ولقد أمكن للسعودية أن ترتب مع الرئيس حافظ الاسد لقاء في الرياض بين عبد الحليم خدام وبشير الجميل.. وهناك تعرف بشير إلى معنى شهر رمضان المبارك بوصفه شهر الصيام عند المسلمين.
كانت الاخبار تصل إلى الرئيس الاسد عن ابناء عبد الحليم خدام وصفقاتهم التجارية، والتي اعتبرها البعض استغلالاً للنفوذ.. لكنه كان يحفظ لخدام انه تحمل كثيراً خلال قيامه بمهمته.. وانه تعرض لأكثر من محاولة اغتيال بينها واحدة خلال وجوده في مطار ابو ظبي.
ومع وصول رفيق الحريري إلى بيروت، عبر دمشق طبعاً، نشأت علاقة خاصة بين عبد الحليم خدام وهذا الموفد السعودي الذي سرعان ما صار رئيس الحكومة في لبنان، مكرسا التحالف السوري السعودي في الشأن اللبناني.. ومتصديا لعملية اعمار ما تهدم في البلد الجميل، مقصد العرب للسياحة والاصطياف والتمتع برقة الهواء وليالي الأنس..
توثقت العلاقة بين الرجلين، وتحولت إلى عائلية، وشابتها شبهة انتفاع عبد الحليم خدام بها… خصوصاً وان لبنان بؤرة صالحة لاستثمار مثل هذه العلاقة.
ومع تقدم حافظ الاسد بالعمر، وتزايد اللغط حول صحته، باشر الاهتمام بإعداد نجله باسل ليكون “خليفته” في حكم سوريا. لكن باسل توفي إثر حادث سير في العام 1994، وهو في سيارة يقودها مسرعة في اتجاه مطار دمشق.
وهكذا اختار حافظ الاسد نجله الثاني بشار ليكون “ولي العهد”..
ولم يكن الود طابع العلاقة بين الرجلين (خدام وبشار).. خصوصاً بعدما عُزلَ خدّام عن وزارة الخارجية التي سلمها حافظ الأسد لفاروق الشرع، مسبغاً على عبد الحليم منصب نيابة الرئاسة، التي لقبها اهم من صلاحياتها.
في خريف العام 2005، غادر عبد الحليم خدام دمشق، بذريعة الإشراف على اصدار كتاب يتضمن تجربته.. وأقام في بيت باريسي إشتراه له آل الحريري، عاش فيه معزولاً، يستعيد فصول تجربته الغنية التي سجلها في اكثر من كتاب.. ويبدو انه اساء في بعض صفحاتها إلى أبرز رفاق عمره حكمت الشهابي، فقاطعه.
رحم الله هذا السياسي السوري الذي لعب دوراً مهما في ظل أحد أبرز القادة العرب في القرن العشرين، ولعله قد افاد منه في امتداد تجربته الاستثنائية في البلد الذي يعيش قلقا دائماً لأسباب تتصل بالجغرافيا والتاريخ والمداخلات الدولية التي لا ترحم البلاد ضعيفة الامكانات حتى لو كان رئيسها عظيماً.
ومن اسف أن كثيرين ممن صنعهم “عبد الحليم خدام”، في ظل الرئيس حافظ الاسد قد تنكروا له وانقلبوا عليه وفتحوا له السجل الاسود بعدما تناسوا جميله عليهم.
في الاقوال المأثورة: “أن الانسان خطَّاء بطبعه”،
وفيها ايضاً: “ارحموا عزيز قوم ذل”.
تنشر بالتزامن مع موقع 180