غالباً ما تُشكّل الايديولوجيا عبئاً على أصحابها، بخاصة الذين منهم يُغلّبون التمنيات على الواقع، ولا يعتبرون الأفكار مستمدة منه، وعلى الأخص لدى الذين يسحبون الأفكار على الحقائق، ويعتبرون أنها ما ينبغي لها أن تكون إلا انعكاساً لما في ذاتهم؛ وهذه هي مآل اللبنانيين بمختلف أطيافهم بل طوائفهم، لأن الأطياف حدودها الطوائف لا غير.
في ايديولوجيا اللبنانيين تحتل مقولات الايديولوجيا مكان العقل، الذي يُلغى عمله لمصلحة ما يُعتبر أنه حقيقة لصاحبها. ومن ذلك مقولات الزمن الجميل، والعيش المشترك، والملكية الخاصة والفردية، وعقدات الاضهاد والحرب والسلم، والمقاومة، التي صارت طوطماً أي عبادة ومؤدياتها فوق منال التحليل أو التشبيه، وحتى المجاز.
التعددية في لبنان أدت الى تنوّع الايديولوجيات وخلافاتها، وما كان ذلك عن قصد كي يمكن احتواؤها، بل هي نوع من الانفلاش التلقائي، إذ لا يوجد ضوابط تصدر عن الدولة أو انتظام المجتمع.
تطابق مرحلة “الزمن الجميل” فترة “الثلاثين المجيدة” في الغرب، والتي تلت الحرب العالمية الثانية حتى أوائل السبعينيات أو أواخر الستينيات الماضية، وانتهت بفك الدولار عن الذهب وإلغاء اتفاق “بريتون وودز” الذي ثبّت أونصة الذهب بخمسة وثلاثين دولاراً أميركياً، وصار الدولار كأنه ذهب آخر أو ما سمي بالعملة الصعبة. تلا ذلك مرحلة تصاعد التضخم المالي وارتفاع أسعار السلع وأدّت هذه المرحلة بدورها إلى النيوليبرالية.
هل كان الزمن الجميل جميلاً فعلاً لكل اللبنانيين أم اقتصر على نخبة أو طبقة ارتبطت بنظام الحكم وسيطرة طائفة على الطوائف الأخرى؟ ألم تفضي هذه المرحلة، بسبب التناقضات الداخلية، إلى حرب أهلية اعتبرها قسم كبير من اللبنانيين “حرب الآخرين” على أرض لبنان، كي يدينوا المقاومة الفلسطينية التي تمركزت في لبنان عقب “أيلول الأسود” في الأردن، بما أدى إلى شرخ كبير بين نصف اللبنانيين والفلسطينيين، وإلى انقسام اللبنانيين في ما بينهم إلى أن صارت المقاومة الفلسطينية عبئاً على الفريق الذي كان يُؤيّدها، والذي اضطر للرضوخ إلى سوء ممارساتها حتى إخراجها من لبنان إلى تونس في صيف العام 1982؟
استمرت الحرب الأهلية بين اللبنانيين طوال 14 سنة إلى أن وُلدَ إتفاق الطائف، الذي كانت وظيفته تعديل تركيبة وتوازنات السلطة. لقد صار اتفاق الطائف في صلب الدستور ولا أحد يجرؤ بالمجاهرة في معارضته، برغم رفض فئة وازنة من اللبنانيين له، لكن الدستور لم يُطبّق إلا ببنوده الداخلية، خصوصاً بعد ظهور تركيبة طائفية جديدة تعكس رؤية ترفض الدولة فتبقى سدة رئاسة الجمهورية غائبة لأكثر من عامين، واللبنانيون ما زالوا يعتبرون أنفسهم براء مما يصيبهم، إذ أن المكنون يتفوّق على ظاهر الخطاب.
أما العيش المشترك فإنه يستدعي التساؤل عن معنىاه كمفهوم، سواء بصيغته القديمة أم الجديدة، في غياب مفهوم الدولة الذي من دونه لا تتحقق وحدة المجتمع السياسية، والتي يؤدي غيابها إلى تفكيك المجتمع، من دون أن يعرف أحد ما هي المعارضة أو الموالاة، وهما اللتان من دونهما لا يمكن تأمين الانتظام السياسي في أي مجتمع. نادراً ما يجاهر أحدٌ من النخب السياسية بمكنون الحقد الطائفي، وإذا تجرّأ أحدٌ على ذلك تقوم الدنيا ولا تقعد إلا بعد معاقبة المُجاهِر، وتبقى حزازات النفوس كما هي. والاندمال يكون عادة على زغل. وقد برع اللبنانيون في النفاق الطائفي و”المسكنة” تجاه الطوائف الأخرى. وقد قيل شعراً بهذا الصدد:
قد ينبت المرعى على دمن الثرى/ وتبقى حزازات النفوس كما هيا
لا تخلو طائفة لبنانية من عقدة الاضطهاد الطائفي حاضراً أو ماضياً، وهذه الفكرة هي في جوهر مقولة “لبنان بلد الأقليات”. فما من أقلية إلا وتعتبر نفسها مضطهدة، وبذلك يكون لبنان مجمعاً لجماعات أقلوية ذات ثأر على الدولة وبقية المجتمع، والعنف تبعاً لذلك يبقى كامناً ويتفجر في بعض الأحيان، فما تاريخ لبنان المعاصر إلا حرباً أهلية مستترة بل مضمرة النوايا، لا يجري الإفصاح عنها إلا عند اللزوم، وللتحشيد غالباً. تشل عقدة الاضطهاد اللبنانيين في الداخل، لكنهم عندما يغتربون يتحررون منها، فيصير الإبداع في الخارج حيث لا قيود تُفرض كما في الداخل، بينما الخارج يجعل تلك العقدة بلا جدوى أو معنى.
أما النظام الحر، فهو من مقدّسات اللبنانيين بمختلف أطيافهم، وكان منذ عقود يتعلق بالشأن الإقتصادي (إلى أن دخل الجانب السياسي)، وأساسه الملكية الخاصة الفردية. لكن الطبقة الحاكمة وعلى رأسها أرباب المصارف صادرت أموال الناس، وصارت الملكية أنواعاً ثلاثة: (1) أموال مصادرة؛ (2) عقارات مبنية وغير مبنية، وهي عصية على المصادرة والنهب؛ (3) أموال نقدية مُخبّأة في البيوت. كان التهريب وتبييض الأموال يُشكّلان جزءاً هاماً من الإقتصاد اللبناني الذي تقاسمه الشرعي واللاشرعي بنسب لا نعرفها أو هي تتغيّر مع الأيام، لكن اللاشرعي تفوق على الشرعي، بخاصة ما يتعلّق بالمصارف والايداعات فيها، تبعاً للمصادرة الشرعية لملكية الناس المودعة فيها، إلى أن فاق اللاشرعي ما عداه مع انهيار الدولة والمضي في تدميرها. وهل تكون الشرعية إلا قياسا لوجود الدولة؟
أما مسألة الحرب (والسلم)، فمن اللبنانيين من يرفض الحرب، وكأن غيرهم يريدها. ولا تساعد مفاهيم وحدة الساحات (العربية) في فهم الموضوع. لا يتواضع اللبنانيون، من مختلف الانتماءات الحزبية والطائفية، كي يعترفوا بأن قرار الحرب ليس بيد أي فريق منهم ولا بيد ما تبقى من الدولة اللبنانية. فهو من قبل هذا الزمان وفي الآن الحاضر بيد إسرائيل. هي التي تُقرّر الحرب بداية وفي مسارها، بينما لبنان الذي تجعله ايديولوجيا البعض موئلاً للحرب، سواء الخارجية أو الداخلية، هو بلد المهرجانات والملاهي، ما أدى ويؤدي إلى شرخ ثقافي قابل للإزدياد. فالثقافة السائدة ثقافتان، والشرخ يتعدى الانقسام السياسي. فما يُقرّر مصير لبنان واللبنانيين ليس قرارهم وحقهم في تقرير مصيرهم، بل هو الخارج سواء كانت رياحه غربية أم شرقية.
تبعاً لكل ذلك، تكون الحرية (ولدى اللبنانيين الكثير منها) معاكسة لجوهر النظام اللبناني، فما كسبوه منها على الصعيد الفردي يخسرونه على الصعيد الطائفي. ويعود الشخص مقيداً بجماعة ما. فالشخص هو في الواقع لا شخصية له. شخصيته متعلقة بالطائفة التي صادرته منذ أن ولد. فكيف نتحدث عن الحرية ونحن مصادرون؟
لهذا السبب يكون التحوّل الدائم من الحرية إلى اللاحرية حيث يطغى الاستبداد السياسي. لكن ما يستبد بالفرد هو نظام المجتمع والطائفة. فيعيش الفرد شخصاً مفعماً بشعور لذيذ يعتقد من خلاله أنه هو الغاية، بينما حقيقة الأمر هي أنه أداة لماكينة العصبية والذوبان في جماعة ما، سواء كانت طائفة أو عشيرة أو ناحية جغرافية ما.
برغم ذلك، يتمتع اللبنانيون بقدرة هائلة على التكيّف، مما يجعل لديهم ميلاً دائماً للتفاؤل الذي يحسدهم عليه بقية العرب الذين تسودهم حالة الاستبداد السياسي وقيود الدين السياسي في المشرق والمغرب الكبير. ونقول إن ما ينقصنا هو الدولة لكننا نخلط بينها وبين السلطة، وهذه الأخيرة تُخيفنا دائماً. أما أنواع السلطة الأخرى والمجتمعة، فهي تخضع لاعتبارات غير سياسية. ونحمد الله أن لا سياسة عندنا.
للدين من يحرسه، أما السياسة فليس من يديرها، ونضع وراء ظهورنا تعريف الماوردي للسلطة (التي سمّاها الإمامة)، إذ يقول: “هي موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا”. عندنا دنيا دون سياسة. اختلف فقهاء التفكير في تراثنا العربي حول العدم: هل هو شغور أو خلو من الوجود، أم أن ما يبدو خلاء هو مملوء بشيء ما؟
برغم كل ما أصابنا ويصيبنا، يبقى ضجيجنا مالئاً فراغ الدنيا. والمقاومة صارت بمثابة الطوطم. فهي في الأصل مقاومة أضيفت إليها أل التعريف لتصير إسما علماً. فكأن المقاومات الأخرى لا قيمة لها. وصُبِغت بقداسة أدت إلى منطق “إما معنا أو علينا” لدى أصحابها. وهذا برغم فقدان التحليل حول قضية المقاومة التي كان يفترض بها أن تكون دفاعية (مهمة التحرير) لكنها تحولت هجومية، وأحيانا يكون غير معروف هي ضد من، وإذا كانت لتحرير فلسطين أم لإحداث ترتيبات مع إسرائيل، التي هكذا يتم الاعتراف بها واقعياً. وقد انسحبت إسرائيل من لبنان في عام 2000. وهذا الأمر هو مدعاة فخر لدى كل اللبنانيين. لكن وحدة الدين السياسي الشيعي، وهو ما يُعبّر عنه بمصطلح “وحدة الساحات”، صار أمراً مخيفاً للبنانيين من الطوائف الأخرى، خصوصاً أن مفهوم الدولة غائب، وأن المطلوب بناء الدولة على يد الآخرين. فكأنها لا تستحق أن تكون الوعاء الذي يشمل جميع الأطراف، ويستوعب كل التناقضات دون إلغائها. كما يغيب مفهوم التنمية الذي يعني تنوّع أشكال المقاومة، وربما كان الأهم هو أن تكون على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي، لإنتاج مجتمع منتج متماسك؛ برغم تعدديته؛ مقاومة تكون متمكنة لدى جميع اللبنانيين، لا لدى فريق واحد. عندها تزول الضرورة لشعار مثل “الوفاء للمقاومة”. إذ تصير المقاومة لكل اللبنانيين. ويصير الانتماء للدولة هو الوحيد الذي يستحق الاعتبار. والقول الشائع “لا شكر على واجب” يعني بأنه عندما يقوم فريق من الناس بواجبهم لا يعود للوفاء أو الشكر من معنى.
يبقى تحليل المصطلحات وشرحها، بالأحرى ترجمتها هو المنقذ من سيطرة الأوهام والشعارات التي لا يكون مُؤداها سوى مجرد أوهام ايديولوجية. يعاني اللبنانيون وهم يترنحون تحت عبء الايديولوجيات والأوهام. ما يدعو إليه العقل هو التريّث واستخدام التحليل. تكاد الخطابات الرنّانة تُسكت صوت التفكير الواقعي.