ليست مبالغة أن يُقال إن البطريرك الماروني الكاردينال نصر الله بطرس صفير يتصدى لمهمة تاريخية جليلة، تتجاوز في خطورتها لبنان الكيان ودور المسيحيين، وبالتحديد الموارنة منهم فيه، لتطاول صورة المشرق في حاضره مباشرة، وفي مستقبله على وجه الخصوص.
إنها مهمة تتجاوز موضوع التوافق على مرشح تزكية أو إجماع أو أكثرية مطلقة لرئاسة الجمهورية.
إنها مهمة تتصل بالجمهورية ذاتها وبالموقع المسيحي الممتاز فيها… أي إنها تتصل بالكيان السياسي ودوره، بل وموجبات الضرورة فيه، ومن ثم بموقع المسيحيين في هذا المشرق ، وهو دور حيوي وله أهمية استثنائية، تتجاوز موضوع أعدادهم وبالتالي تحديد حصتهم في السلطة بالقياس إلى نسبتهم إلى أعداد إخوانهم المسلمين بطوائفهم جميعاً.
فالرئيس المسيحي ديناً، الماروني طائفة، هو نقطة ارتكاز جوهرية ليس للنظام الطوائفي في لبنان فحسب، بل للأنظمة في عموم المشرق. وهذا الامتياز الذي يحظى به الموارنة في لبنان ليس منّة من الأكثرية المسلمة ، بل هو ضرورة تعبّر عن حاجة هذه الأكثرية إلى التوازن النفسي وإثبات جدارتها بأن تكون أمة لا تغمط غالبيتها الأقليات حقوقها في مواطنيتها وبالتالي في أن تكون شريكة في الحكم، وفي تحمّل المسؤولية عن الوطن . إنه تغليب للشراكة الوطنية ووحدة المصير والمساواة في الحقوق والواجبات، على المشاعر الدينية أو تغليب العدد في مجتمع يتوزع شعبه على أكثر من دين، وداخل الدين الواحد على أكثر من طائفة ومذهب..
ليس تخصيص الموارنة بموقع الرئاسة في لبنان امتيازاً أعطاه الأجنبي لهذه الطائفة، غصباً عن أهله، لقد أقرّ اللبنانيون من غير الموارنة بهذا الامتياز، وسلّم به العرب جميعاً… ومنذ الاستقلال، خصوصاً، لم تعد ضماناته أجنبية، بل تأكدت طبيعتها وطنياً، في الداخل، وعربياً عبر المحيط العربي، بمشرقه ومغربه جميعاً.
وإذا كانت قد لحقت بهذا الموقع الامتياز أضرار أو إساءات إلى مكانته، بل إلى حصانته، فإن الطائفة، برموزها السياسية أساساً، هي التي يمكن أن تسأل عمّا أصاب الموقع من تهشيم ولحق به من أذى، كاد يطرح في لحظات التأزم التي غالباً ما ارتبطت بالمواسم الرئاسية، جدارة الطائفة بهذا الموقع الممتاز.
وليس سراً أن أوساطاً واسعة داخل الموارنة بدأت منذ بعض الوقت تتساءل عمّا إذا كان هذا الامتياز ما زال نعمة أو أنه تحوّل إلى نقمة وإلى مصدر أذى للطائفة، خصوصاً أن ثمة من يربط بين ممارسات الرئيس وبين أزمات النظام التي توالت فأضرت بالبلاد والعباد، فصار على الطائفة كاملة أن تدفع ضريبة فشل الرئيس من مكانتها وجدارتها بالحكم… وبالمقابل صار على الشعب عموماً أن يدفع، من دمائه، أحياناً، ثمن الصراعات داخل الطائفة على الرئاسة.
ثم إن مواسم الانتخابات الرئاسية بالصراعات بين المرشحين التي كثيراً ما تجاوزت أصول المخاصمة، وكثيراً ما وفرت الفرصة لتدخل الخارج، بل أكثر من خارج، أسهمت في الإساءة إلى صورة الطائفة وموقعها، إذ لقد تبدى في حالات انتخابية عديدة أن الصوت الخارجي (عربياً، أو دولياً أو مزيجاً من الاثنين) بات هو المرجّح… بل صار من قواعد اللعبة أن يسعى العديد من المرشحين في طلب هذا الصوت الذهبي، وأحياناً على حساب كرامة الرئاسة، والطائفة، ومن ثم الوطن .
[ [ [
لا شك بالكفاءة المرجعية التي يتحلى بها البطريرك صفير.
ولا شك بقدرته على التحليل وقراءة التحولات التي تعيشها المنطقة عموماً، ولبنان من ضمنها، لا هو خارجها ولا هي تعرف الاستقرار (النفسي قبل السياسي) إذا ما استشرى الخلل فضرب التوازن الدقيق جداً الذي يقوم عليه الكيان ومن ثم الحكم في لبنان، وهو توازن تفتقده المنطقة في هذه اللحظات المصيرية حيث تعصف الصراعات الدولية والإقليمية، بالثوابت التقليدية!
والبطريرك صفير يعرف أن صراعات المرشحين على الموقع الممتاز تذهب بهيبة الموقع، والأخطر أنها تطرح جدارة أبناء الطائفة به، خصوصاً أن التنافس في ما بين المرشحين غالباً ما يستخدم أسلحة محرّمة.. وطنياً، تؤذي الطائفة وتؤذي المنصب الممتاز وتفتح الباب واسعاً أمام التدخل الخارجي، بما يزيد من خطورة الصراع الذي يتخذ من الرئاسة عنواناً، فإذا به يلامس التوازنات الدقيقة التي يقوم عليها النظام ومن ثم الدولة بما ينذر بتجدد الحرب الأهلية التي جمرها تحت الرماد، دائماً، لأسباب عديدة لا يستعصي فهمها على أي متبصّر في شؤون المنطقة في ظل المخاطر المصيرية التي تستولدها الاحتلالات (أميركية في العراق وما حوله، وإسرائيلية في فلسطين)، والتي تستخدم حالياً لتبرّر إعادة النظر في الكيانات القائمة.
[ [ [
يبقى أن نقول، باختصار شديد ما يمكن تفصيله لاحقاً، إن اللبنانيين عموماً، والمسلمين منهم على وجه الخصوص، يتطلعون إلى بكركي متمنين أن ينجح البطريرك صفير في مهمته الصعبة (والبعض يراها مستحيلة)، لأن نجاحه مطلب إسلامي ملح، في ظل التوتر الذي يحكم العلاقات الداخلية بين المسلمين أنفسهم قبل أن يكون مطلباً مسيحياً، ومارونياً على وجه التحديد، بسبب الخلافات الانتخابية في ما بينهم..
ولا نملك إلا أن نردد، والكلام موجّه إلى البطريرك الذي له عقل فيلسوف ودهاء الحكيم العارف بشؤون طائفته (بل وبلده) وكفاءات رجالاتها كما عيوبهم: بارِك يا سيد!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
What's Hot
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان