إبادة متلفزة. يباد شعب والصور تظهر على الشاشات. تُستخدم أحدث وسائل التكنولوجيا للقتل والتجويع والتهجير، ويصفق الغرب. وهو الأكثر تقدماً في العالم. مبتهجاً بنجاح آلة الحرب التي قضى عقوداً يدعمها ويُموّلها ضد شعب يُقتلع من أرضه أو يُقتل فيها.
في قلب التقدم الغربي وحش تتضاءل لديه الأخلاق بمقدار حداثته. الحروب العالمية للقرن العشرين تتوالى في القرن الواحد والعشرين بشراستها والقدرة المتزايدة على القتل والتدمير بوسائل أكثر فاعلية، وإن كانت هذه الحروب أكثر موضوعية، لكن ما يحدث في فلسطين حرب عالمية من نوع آخر بين قوى غير متكافئة.
ليست إبادة شعب مسألة حق أو باطل، فلا تخضع لمعايير الحق والعدل والظلم. كل شعب يُباد أو يتعرض للإبادة هو مظلوم حكماً إذ أن وجوده معرض للزوال. مهما كانت القضية عند إسرائيل والغرب، فإنها ليست حجة للإبادة. أمن إسرائيل ليس قدس الأقداس. يزعمون أنها تدافع عن نفسها ولها الحق في ذلك، بينما هي تُمارس الهجوم اليومي، وعلى مدار الساعة دون مراعاة للضحايا. لن نبكي النساء والأطفال فقط، فكأن من هم في سن القتال مسموح أخلاقياً قتلهم. الحقيقة أننا نبكي ثقافة الغرب وانزياحاته ضد شعب فلسطيني لاحقه الظلم منذ عقود.
لو بقي في الغرب ضمير أخلاقي سوى عند قلة من غير الحكام لوجب عليهم النظر في ثقافتهم السياسة والأخلاقية، وإعادة النظر والبحث عما يعيب؛ التخلص من مكامن الروح التي ما زالت تتغذى على العدوان وابتزاز العالم. لم تتحسن الروح الغربية أخلاقياً بعد التطوّر التقني الهائل بل بقيت في مكنوناتها على ما كان يضمره الاستعمار. لم نكن نتوقع أقل مما يحدث في غزة منذ اللحظة الأولى في 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكن أحداً، حتى عتاة التعصّب اليميني والمعادي للعرب في الغرب، لم يكونوا يدركون أن نفوسهم تفيض بهذا القدر من الحقد والكراهية. أن نقول أنهم لا يفقهون ثقافتنا فهذا غير صحيح. لقد تعلمنا في مدراسهم الثانوية والجامعية وهم، الى حد كبير، علمونا ثقافتنا التي ربما كانوا يعرفونها وتاريخها أكثر منا وأكثر من مثقفينا.
لم يكن الخلاف بيننا، إذا صحت تسميتنا بالمثقفين العرب، حول تكنولوجيا الغرب. الكل يستهلكون هذه التكنولوجيا، والحاجة إليها كبيرة وملحة. لكن خلافاتنا كانت حول ثقافة الغرب التي اعتبرناها الثقافة العليا في العالم، واعتبرنا أن من الواجب تبنّيها لما فيها من لياقات أخلاقية وإنسانية. فإذا بنا نكتشف أن هذه اللياقات قشرة رقيقة تخفي روحاً وحشية لا تحترم إلا ما هو غربي، أو إسرائيل صنيعة الغرب.
سيحصل نقاش حول العالم، وفي ما بيننا، حول ما إذا كان موقف الغرب من حرب الإبادة في غزة يُعبّر عن انحدار أخلاقي لمجتمعات غربية، لم تكن كذلك وصارت فجأة أسوأ مما نظن، وحول ما إذا كانت هذه الوحشية أصيلة في الروح الغربية، وحول ما إذا كانت تحيزاتنا الغربية، وحتى الماركسية، تُعمينا عن ذلك. لا نستطيع إلا الاستنتاج مما نرى من الواقع الذي تُصوّره محطات التلفزيون من مواقف القوى الفاعلة الغربية بأن الكولونيالية الغربية ما زالت هي المُحرّك، وهي تزداد عمقاً وليس العكس.
السقوط الثقافي للغرب هو في جوهره سقوط أخلاقي. هم يعرفون أن إسرائيل تأسست على جملة من الأكاذيب ساهم الغربيون فيها. وهم يعرفون أن مؤدى هذه الأكاذيب اقتلاع شعب عربي من أرضه، أو إبادته، لإسكان مجموعات أوروبية صهيونية تجمعت من مختلف نواحي العالم، وهم سوف يدركون، أو لا يدركون، والأمر سيّان، أن هذه الأكاذيب سوف تنخر في عظام الثقافة الغربية. بدأت الأكاذيب في ادعاء أرض موعودة موضوعة في كتاب مقدس من أكثر من ألفي عام. الأكثر فداحة هو اعتبار أن إسرائيل ضحية تدافع عن نفسها في وقت تمارس استخدام أسلحة الغرب لقصف وتدمير واقتلاع أهل الأرض، وفي حين أن ما يفعله هؤلاء الأخيرون هو المطالبة بحقوقهم أو بالخروج من السجن الكبير. في المقابل، هناك من يعتبر أن أي تهديد لأمن إسرائيل إنما هو تهديد للروح الغربية. كولونيالية في ثوب جديد. لكن الأمر أكثر من ذلك. فهذا البعبع الصهيوني الذي اخترعه الغرب أصبح جوهر الروح الغربية التي يتآكل فيها ما كان مبهراً تحت تأثير هذا الكيان البعبع الذي يُخيفهم أكثر مما يخيفنا. الثقافة الغربية أصبحت ممسوكة من رقبتها بواسطة الاتهامات باللاسامية. كل من ينتقد إسرائيل يُتهم باللاسامية، وربما فقد عمله ومصدر رزقه. أما أهل الأرض الحقيقيون فهم الإرهاب مجسداً، سواء كان احتجاجهم في أرضهم أو في الدياسبورا. يتناسى الغرب أنه هو من اضطهد اليهود عبر التاريخ بينما هم لم يُعاملوا من قبل الشعوب العربية والإسلامية عموما، بأي شيء مما يشبه ما لاقوه في الغرب.
تآكل الثقافة والأخلاق في الغرب هو تهديد حقيقي لهما، ويكون ذلك بأن يصير الغرب ذا مصدر لما هو عليه من خارج ذاته. بفجاجة أكثر، يكون منقاداً لإسرائيل والأكاذيب التي أُسّست عليها، فتصير العلاقة مع العرب وإسرائيل عنصرية قائمة على الحقد والكره والاستعلاء، كما هو أمر إسرائيل اليوم مع العرب. لا يعني ذلك أنه ليس عند الغرب شيء من ذلك، أو الكثير منه. لكن مصدر هذه الأمور البشعة سيكون نابعاً من إسرائيل، متدفقاً الى الغرب، لا العكس، وسيكون الغرب منقاداً لإسرائيل عن طريق مكافحة اللاسامية وغيرها. يكفي أن تنتقد إسرائيل أو الصهيونية كي تتهم باللاسامية. في بعض البلدان الأوروبية يكفي أن تقول كلمة فلسطين كي تتهم باللاسامية، ناهيك عن الاتهامات لمن لا يليق لهم بالإرهاب. فالجعبة مليئة بالعديد من الاتهامات الجاهزة عن حق أو غير حق لاتهام أي كان بالخروج على “القانون”، حتى أن الجامعات كلّفت لجاناً للبحث عن أية لاسامية عند أي من الطلاب ومعاقبته، وذلك بضغط من الجماعات الصهيونية؛ وذلك مما يذكّر بمحاكم التفتيش القروسطية.
مباحُ للمرء انتقاد أي بلد غربي لكنه عندما ينتقد الصهيونية أو إسرائيل، تُوجّه إليه تهمة اللاسامية أو تهمة الإرهاب. الذعر الغربي من الخروج على “اللياقة السياسية” يُعرّض صاحبه للاضطهاد كما في بلدان الاستبداد. بذلك يصير المرء مضطراً للقمع الذاتي أو الانقماع الذاتي. ليعود الضمير إلى محبسه، فكأنك في سجن كبير. تساهم في القمع السلطات السياسية والأكاديمية والاقتصادية والمالية الغربية. تفرض إسرائيل على الغرب حدود الضمير الأخلاقي والعقل، فيعيش الناس في حالة دائمة من الخوف أو الرعب من إتيان الخطأ. يراقب كل إمرئ نفسه حسب شروط تفرضها ضرورات عدم إزعاج الجماعات الصهيونية ومؤيديها سواء كانوا من اليهود أو المسيحيين الصهاينة أو غيرهم ممن يبحث عن رؤوس يصطادها.
خرج الغرب من الحرب العالمية منتصراً أخلاقياً وثقافياً. لكنه سيخرج من هذه الحرب منخلعاً نفسياً وروحياً مهما كانت المكتسبات المادية له ولإسرائيل. وبذلك يمكن القول إن الغرب أنهى أسطورته عن تفوّق الرجل الأبيض.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق