ظهر البوركيني في المنتجعات البحرية في لبنان، خاصة في الشمال. كان رد الفعل ضعيفاً او تبريرياً. نادراً ما نوقشت المسألة في وسائل الاعلام. وعندما نوقشت كان ابراز الجانب الحقوقي الليبرالي هو الاساس، فكأن هناك نية بالاعتراض القانوني على هذا الأمر. لكل الحق بارتداء ما يريد من اللباس، لكن مقارنة اللباس الديني بلباس الغطاسين هو الخطأ بعينه. وتجاهل ان اللباس الديني يجيء ومعه سلاح دمار شامل هو الرمزية الدينية، هو الخطأ الأكبر.
لكل منا الحق في ما يرتديه في اي مكان. البوركيني تعبير عن حداثة او ما يعد حداثة تسويقية (دين/ وكأنه سلعة يسوّق نفسه). ومن حظنا ان الامور لم تصل الى حد ان لا يرتدي احد شيئاً. عندها سيكون اطار النقاش مختلفاً، والمشكلة ستكون أعوص.
الجدير مناقشته هنا هو المسألة السوسيو ـ بوليتيكية المتعلقة بذلك: وهي ان بضعة اشخاص ذوي وجهة نظر متشنجة يمكن ان يصادروا الحيز السياسي العام من دون ان يعترضهم احد، وربما تبعهم كثيرون من الليبراليين حسني النيات. نرى في هذا المجتمع العربي او ذاك جماعات تشكل اقليات محدودة العدد تستطيع جر المجتمع برمته الى موقف او مواقف اجتماعية عن طريق الرموز الدينية.
ان اللباس المعتمد في دول الخليج العربية هو خيار ديمقراطي! كذلك اللباس الذي يجيئنا به المجاهدون الدينيون من افغانستان وغيرها. كل ذلك يعبر عن خيارات سياسية تفسيرية الهدف منها مصادرة المجتمع والوعي السائد فيه. النقاش بأمر اللباس يمكن أن يجر الى امور اخرى تتعلق بأسلوب العيش بما فيه ممارسة الدين وطريقة المأكل والملبس وطريقة التفكير. ان فقدان سيطرة المجتمع على دينه يقود الى داعشية حتى ولو كان الاساس ليبرالياً وديمقراطياً.
عندما يفقد المجتمع سيطرته على دينه تسيطر الحركات التطرفية ويفقد المجتمع السيطرة على مصيره. المصير يقرّر له.
الهوية الحقيقية هي التي نصنعها لنا بالعمل والانتاج وبناء الدولة القوية المنغرزة في ضمير كل منا. الهوية التي تصنع له وسيلة تسويقية لأفكار وممارسات تحشر نفسها بالدين وترفع رايته. عندما يترك الدين وكأنه فريسة متاحة للجميع سوف ينهش كل فريق منها. مجتمع الطائفيات والاثنيات هو كذلك، هو المجتمع المنكسر فاقد الارادة والقدرة على القرار.
لكل مجتمع انتظام خاص يساهم فيه الدين ومختلف المؤسسات الدولية والقرابية والمدنية، عندما يفقد المجتمع انتظامه، دون دولة تمارس هيبتها عن طريق السياسة والحوار والنقاش، فإن هذا المجتمع نفسه تدب فيه الفوضى وتسيطر فيه معالم الحرب الاهلية ويستطيع كل من حمل راية دينية ان يصادر الحوار، ويستطيع كل من حمل قطعة سلاح ان يطلق رصاصات طائشة تقتل أبرياء. هل فكرنا في معنى الاحتفاليات بالنجاح بشهادات تشكل ادنى درجات العلم وكأننا نحتفل بجهلنا.
لم نعتقد يوماً ان طريقة العيش في لبنان، أو غيره تستحق الدفاع عنها. واعتبرنا ان تطور المجتمع كفيل بأن يتطور الى الامام. لكن ما نشهده الآن هو ردة الى الوراء. لا بمعنى العودة الى طريقة عيش اي من اسلافنا، بل بمعنى تشويش الوعي وسيطرة نوع من التطرف الاجتماعي الذي يفرض نفسه على كل الحياة السياسية. ليست ردة الوراء بل تقدما الى امام بخطوات يقررها الغير لنا، بما يؤدي الى ضياع مجتمعنا وتفتته وتفتت الانظمة السياسية التي تحكمه، كمن يتقدم سيراً على الاقدام الى حتفه.
لا نحتاج الى من يرتدي زياً كي يميز نفسه عن المجتمع. ولا نحتاج لمن يمارس الدونية على نفسه. لا نحتاج الى عبودية جديدة يفرضها المجتمع على نفسه. لا نحتاج الى عزلة عن العالم تقررها رموز دينية مستوردة. لا نحتاج الى من يصادر هويتنا سواء كان من الداخل او من الخارج.
نحتاج الى ان نصنع هويتنا بما ينسجم مع روح التاريخ في هذه المنطقة. روح التاريخ ندركها بالعلم والمعرفة والسياسة. روح التاريخ لا تجلب من الخارج، بل علينا نحن ان نخرج بعقولنا ووعينا الى العالم كي ننخرط فيه ونقلد علومه وتقنياته كي نبني مجتمعات ودولا تستحق القابها.
البوركيني تلاعب بجسد المرأة بعد عصور من التحرر الاجتماعي. هو اشبه بالتلاعب بالدين بعد عصور من العلمانية، والتلاعب بالديمقراطية بعد دورات انتخابية عديدة. اخفاء جسد المرأة وراء البرقع قفزة في المجهول.
تنشر بالتزامن مع الاعمار والاقتصاد