عن الفتى الذي ينقش بحجره تاريخنا الجديد!
حجر فوق حجر تبني وطنا،
حجر إثر حجر تستولد ثورة،
حجر بعد حجر توقظ النيام والمخدرين واليائسين والهاربين من عبء التغيير الى الاستسلام المهين لواقع يتحول فيه الانسان الى حيوان أو جثة.
حجر وراء حجر فإذا الامة التي باتت أشتاتا تنتبه الى حقيقتها المطموسة تحت أكوام من الهزائم والإذلال المتعمد والتقسيم المفروض، فإذا وجدانها واحد، واذا عدوها في الداخل والخارج واحد وإن تعددت أسماؤه وراياته والممارسات.
تبارك الحجر: لكم أسقط من الأقنعة، لكم كشف من أسباب الزور والتزوير، لكم فضح عروشا وممالك وجمهوريات وحكومات وقيادات وتنظيمات وأحزابا »مستنبتة« في الأرض غصبا، و»مستبقاة« فوق رؤوس العباد غصبا، ومزودة بكل أسباب »التخويف« و»الارهاب« لتداري خوفها الدائم من هؤلاء الذين تقهرهم بسلطتها القاتلة، وتستعبدهم بالسيف والدينار، والاتهام الجاهز »بالخيانة وخدمة العدو« الذي هو حليفها الدائم والوحيد.
انطلق الحجر، فإذا موريتانيا متلاصقة باليمن، واذا المتظاهر في المغرب يسمع صدى صوته في الجزيرة والخليج، واذا طلاب جامعة القاهرة يسيرون في شوارع دمشق، واذا كل فتية الوطن العربي »وحدة واحدة« بمشاعرهم وإرادتهم ورفضهم قهر القصر في الداخل وإذلال العدو الذي لم يعد في الخارج بل اقتحم عليهم غرف نومهم وسرق منهم رغيفهم ومقاعد الدراسة والطريق الى مستقبلهم،
من يجمع حجرا إلى حجر؟!
من يقيم من الحجارة جسرا الى الغد الأفضل؟!
من يبني بالحجارة البيت العربي حتى لا يبقى أهله مشردين في تيه البداوة والالتحاق وافتقاد اليقين؟!
مباركة أنت يا فلسطين. مبارك من أعطاك منزلة المقدسات.
مبارك الفتى الذي قرر أن ينقش تاريخنا الجديد بحجر الأرض التي لا تموت ولا تزور نفسها، ولا تقبل التهجين، ولا تخضع لقهر القاهرين إلا ريثما يكبر فتيتها فيقدر واحدهم على أن يكون بحجم أمة!
***
قبل سنوات طويلة تجمع نفر من الشباب الصيني للمطالبة بالديموقراطية. وحين تصدت لهم القوات المسلحة، وقف فتى صيني في مواجهة الدبابة فصار بطلا للحريات وحقوق الانسان في كل الأزمنة والأمكنة، بقوة الدعاية الغربية والاستثمار الاميركي الناشط لكل واقعة يمكن استخدامها في الحرب ضد خصومها »العقائديين« وتحريض »رعاياهم« ضد أنظمتهم التي كانت تبني قوتها على حساب حريات الناس وحقوقهم.
صارت الواقعة التي شهدتها ساحة تيان آن مين، ذات يوم من حزيران 1989، بشارة بالثورة الديموقراطية، بقدر ما كانت وصمة عار على جبين النظام الصيني، صين الثورة الشعبية العظمى في التاريخ الحديث، التي حررت مليار إنسان من الطغيان الداخلي والاستعمار الخارجي الذي مزق وحدة الأرض والشعب.
لا جدال في أن ذلك الفتى الصيني يستحق التقدير وتخليد ذكراه.
ولكن ماذا عن الآلاف، ممن هم أصغر سنا وأعظم براءة منه، هؤلاء الذين ترديهم رشاشات الدبابات الاسرائيلية في فلسطين المحتلة؟!
وقبل أسابيع، وبعد مسلسل من الحروب الخارجية والفتنة الداخلية التي مزقت وحدة يوغسلافيا، وفي سياق الحملة على الطاغية الحاكم فيها، والذي رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات التي أجراها للتمديد لنفسه، نزل »الصرب« إلى شوارع بلغراد في تظاهرات حاشدة، فطوقوا المؤسسات الرسمية وأحرقوا مبنى المجلس النيابي ومقر التلفزيون، وسط تأييد عالمي عز نظيره…
قطعت شبكات التلفزة الدولية جميعا برامجها العادية، وخصصت ساعات بثها بالكامل للنشرات الاخبارية المصورة أو للتحليلات وآراء الخبراء لتخليد »الثورة الديموقراطية في يوغسلافيا«… وهذا إنجاز إنساني عظيم ننحني أمامه بكل احترام!
أما ذلك الفتى في فلسطين، الشاهر في الشارع دمه، المتصدي للدبابة الاسرائيلية ولرصاص »الصيادين« من جنود »جيش الدفاع الاسرائيلي« فكان يُقدّم تحت عنوان »العنف في الشرق الأوسط«… تمهيدا لأن يُتهم، في ما بعد، بأنه »جيل تقدمه قيادته قربانا لاستمرار حكمها« فتحرمه من العلم والتقدم وربح مستقبله… كعامل بناء في المستوطنات الاسرائيلية التي يُفرض عليه أن يشيدها على أرضه!
تبارك الحجر في يد الفتى الذي أعطى الأرض قداستها.
تباركت فلسطين وفتاها الأمة.
سهرة مع النمر!
روى الراوي للسامعين: كنت في غرفتي الصغيرة، في أعلى المبنى العالي الذي يطل على الشارع العريض، حين سمعت قرعا خفيفا على الباب. ترددت قليلا وأنا أتساءل: ليس لي من يطلبني أو يقصدني هنا فمن تراه الطارق؟! لعلني أتوهم.
تجدد الطرق خفيفا، فقمت أفتح الباب والتساؤل عن الطارق يسبقني، فإذا بي أقف مشدوها مربوط اللسان عند العتبة، بينما يتقدم »النمر« إلى قلب الغرفة وهو يمشي الهوينى، بعظمة الأباطرة، ويتركني خلفه كتمثال من شمع وقد تعلقت عيناي به لا تريمان ولا تطرفان.
لم تكن مساحة الغرفة كافية للحركة الحرة، فاكتفى »النمر« بأن ألقى نظره من النافذة إلى الشارع في القاع السحيق تحت، ثم هم بأن يجرب السرير لكنه في آخر لحظة اختار أن يلجس إلى الكرسي الوحيد عندي.
أشار إلي »أن اقترب« فتحركت نحوه كالمسحور. أشار إلى طرف السرير فانثنيت جالسا وأنا شبه واقف.
خلع النمر جلده ورماني به حتى يحجب عني عريه.. لكن الفضول كان أقوى من الخوف فاندفعت أتأمل تفاصيل جسده، وكأنني أتفرج على لوحة مضيئة من وسائل الايضاح التي تجدها في عيادات أطباء الامراض الباطنية.
كان الوقت قرب الغروب. ولقد عجل الصمت بالعتمة، ونحن ساكنان تماما، وكل منا يفكر بالخطوة التالية. قلت لنفسي: فلأجرب شيئا من الغناء لعله يأتيني بالشجاعة.. لكن صوتي خرج متقطعا، حتى لم أفهم أنا نفسي كلمة من تلك التأتأة التي سمعتها تصدر عني. ولعل النمر أراد مجاملتي فأطلق زمجرة خفيفة سرعان ما رقت حتى باتت أقرب إلى الهمس الحميم.
جاءنا الليل متعجلا، وأخذني شيء من التعب فغفوت برهة أو بعض برهة. ولكنني حين فتحت عيني لم أجد »النمر«، وكان الظلام الذي اقتحم الغرفة سيولا من العتمة المحمرة الأطراف قد حجب الرؤية تماما.
لم أجرؤ على إشعال النور، فتناولت أقرب قطعة ملابس إلى يدي، وهرعت إلى المصعد. وحين وصلت إلى الصالة، تحت، استقبلتني الابتسامات الخبيثة في عيون النزلاء. لم أتوقف لأعرف السبب بل اندفعت نحو الباب، لكن السيارة كانت قد انطلقت براكبها العاري.
وسمعت من يقول: هذا هو من نزع عن النمر جلده!
عايدة والذئب
منذ اللحظة الاولى شجر الخلاف بين النسوة والرجال حول »علياء«!
الأصرح من النساء وصفتها بأنها »مثل إبليس اللعين« تتدخل وتدخل في كل الناس فتحرك الأهواء والغرائز والمواجع والفتن بين كل رجل وامرأته.
أما الأعظم سذاجة فقد وجدتها »إنسانا طيبا انتدبت نفسها لمساعدة الآخرين«!.
ولم تبق امرأة على الحياد، وخصوصا أن »علياء« كانت هائلة الحيوية، تعرف كل شيء عن كل الآخرين، تهتم بالأطفال، تجامل النساء وتوفر لهن الوصفات اللازمة لإبراز جمالهن، ترتب لهم المواعيد مع الحلاقين ودور التجميل… أما بالنسبة للرجال فهي منظمة الرحلات والمبتدعة أنواع التسالي في أوقات الفراغ، ثم انها راوية الطرائف والرائدة في حملات التشهير بالبخلاء واتباع الزوجات والذاكرة الحية لمجموعة لا تنتهي من النكات الخارجة.
إلى أن جاءت تلك الليلة التي لا تنسى، أو بالأحرى التي جعلتها »عايدة« لا تنسى.
كانت »عايدة« التي تعرف كل الناس، وكل شيء عن كل الناس، وتهتم بكل التفاصيل، قد عرفت أن جارها في الغرفة الملاصقة لغرفتها في الفندق من »بلاد العرب أوطاني«… بل لعلها قد تدخلت ليحظى بغرفة في الفندق المزدحم، مع تقديرها بأنه مجرد »ذئب« أتى لاصطياد النساء حيث لا يعرفه أحد.
ولأن الجدار الحاجز بين الغرفتين رقيق للغاية، فقد كان بوسع أي ساكن أن يسمع كل نأمة تصدر عن الآخر في غرفته، ولا مجال للسر أو لإخفاء الحقيقة عن دخول أي زائر أو زائرة عند »الجار« المحتجب خلف لوح خشب خفيف.
في تلك الليلة جاء »الذئب« بواحدة من زائرات بعد منتصف الليل.
وكان على »عايدة«، الوحيدة في غرفتها، أن تسمع كل ما دار في كنف الظلمة، بدءا بالمفاوضات على سعر الوقت، وانتهاء بالصوت المخنوق للشبق المكتوم، يقابله تأفف المحترفة من هدر الزمن على مقدمات لا تحتاجها، وانتهاء باصطفاق الباب بعدما قضى منها »الذئب« وطره.
لم يكن لائقا أن تُسأل »عايدة« عن مشاعرها، هي الوحيدة، وهي تسمع وتتخيل ما تعرفه من »أصول« اللعبة، خصوصا تلك المناكفات حول المواقع والأوضاع والأدوار.
ولا كان »أدب الكلام« في محفل عام يسمح باستعادة الرواية طمعا بالمزيد من التفاصيل المشوقة، وإن كانت »عايدة« لم تبخل بالاضافات والتوصيف واستدراك ما تفترض أنها قد نسيته أو أغفلته من الجمل الناقصة المنطوقة بأشتات الكلام من لغات متعددة بين اثنين لا يعرف أحدهما لغة الآخر ولا يشتركان في معرفة لغة ثالثة، أحدهما »ذئب« مستأنس وثانيهما قطة متنمرة!
لكن »عايدة« وفرت على الجميع جهدهم، إذ روت ما حصل بينها وبين جارها »الذئب« في صباح اليوم التالي:
» التقيته في البهو، عند الظهر، فأخذته إلى ركن منعزل وقلت له ما يفيد أن نتائج مغامرة كالتي كان بطلها في الليل خطرة صحيا، فلا أحد يعرف ما بها من أمراض هذه التي التقطها عن رصيف الرغبة. ثم أنني نصحته بأن يختار، في مرة تالية، من يستطيع أن يتبادل معها جملة مفيدة. صحيح أن الشهوة فصيحة ولا تحتاج إلى ترجمة، لكن العلاقة، ولو عابرة، تحتاج إلى حد أدنى من دفء الكلمات، ولو للمجاملة.
وبعدما حذرته من أن يستقدم »أية امرأة«، وبغير اتفاق على »الأجر«، فقد رجوته أن يبدل غرفته، أو أن يحترم مشاعر جيرانه المتعبين والذين أتوا إلى هذا المكان المنعزل طلبا للراحة..«.
كان الجمع يستمع بذهول. لم يجرؤ أي رجل على التعليق بكلمة، بينما لم تتعب الزوجات من التنقل بعيونهن من وجه »عايدة« إلى وجوه الأزواج لقراءة ردود الفعل والانفعالات والمحاسبة عليها في ما بعد.
وختمت »عايدة« الكلام بأن قالت: تلك أكثر ليلة اشتقت فيها إلى زوجي! من قال ان »الحلال« يقتل الرغبة ويطفئ الشوق ويضفي على »الذئاب« صورة العشاق؟!
لم يعلق أحد. وساد الصمت لفترة، ثم انفض المجلس.
على أنني لمحت، بعد برهة، إحدى النساء الوحيدات تسأل »عايدة« إن كانت ترضى بأن تتبادل معها غرفتها، لأنها »تحب أن تعيش مثل تلك التجربة الفريدة« لتستخدمها كمادة روائية لفيلم سينمائي تفكر بإنتاجه قريبا عن الذئاب والقطط المتنمرة!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
يبتدع الحب لغته، فإذا الأغراب يتحابون ثم يكتشفون بعد ذلك »لغة« مشتركة تصطنعها عاطفتهم لا القواعد المحفوظة. قاموس الحب يتجاوز باتساعه كل لغات الأرض. إنها كلها فيه، لكنه يضيف إليها أجهزة الحس والمشاعر وشيفرة العيون ولغة الصمت التي تضيف كل يوم فصولا جديدة إلى القاموس المفتوح.