حكاية قديمة عن الأداة اللبنانية في المجزرة الإسرائيلية
أما وأن »خالق الوحش« قد انتبه ولو متأخرا إلى خطورة فعلته، فتحركت بعض الجهات القضائية في الغرب، وفي بلجيكا على وجه التحديد، لمحاكمة المسؤولين عن مجزرة صبرا وشاتيلا، التي تحمل توقيع أرييل شارون، حتى لو كانت الأداة »لبنانية«، فمن المفيد أن نحكي حكاية ذات صلة بالوحش والمجزرة والأداة.
في أواخر العام 1982 وصلت إلى لبنان محامية فرنسية تجاوزت السبعين من عمرها تدعى مادلين لافي فيرون، واسمها واضح الدلالة على يهوديتها.
كنت قد عرفت »الاسم« بداية عبر رسالة منها إلى »السفير« في العام 1978 تعتب فيها على العرب، قادة ومناضلين ومفكرين وأهل رأي ومواطنين عاديين، تجاهلهم قضية أحمد بن بله، أول رئيس لجمهورية الجزائر المستقلة، وأحد أبطال الثورة، وأحد أبرز رموز النضال العربي، وكونه سجينا بلا محاكمة منذ ثلاثة عشر عاما (آنذاك).
وكانت الرسالة وثيقة مجيدة في الدفاع عن حقوق الإنسان، بل وعن القيم الإنسانية جميعا، بل هي كانت اتهاما موجعا للعرب بأنهم ينساقون خلف الطغاة وينسون أبطالهم، ويسهمون في تزوير تاريخ بلادهم.
ولقد لبّت »السفير« النداء، فباشرت حملة مكثفة تحت شعار »أطلقوا سراح الأمة… أعيدوا الاعتبار لأحمد بن بله«.
تلك بداية المعرفة: علاقة بالموقف من قضية عربية ممتازة، ومن اسم واضح اليهودية لمحامية فرنسية حاولت التعويض عن التقصير العربي، وظلت تتابع جهدها حتى أطلق سراح أحمد بن بله، فكتبت تهنئنا باعتبارنا شركاء في هذا النصر المجيد.
بعد ذلك التقينا في باريس أكثر من مرة، وكنا نحس نحوها بالامتنان والتقدير وشيء من الخجل لكونها تصدت لما هو من صميم واجبنا.
في خريف 1982 التقينا مع هذه السيدة التي كانت العصب المحرك للجنة الأممية للدفاع عن بن بله، والتي طالما عملت للثورة الفلسطينية وكتبت في الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني وحقه في الكفاح لتحرير أرضه عشرات المقالات في أمهات الصحف الفرنسية، والتي عرفنا من بعد أنها عضو في مؤسسة برتراند راسل للسلام، ومركزها في السويد.
وطلبت مادلين لافي فيرون مساعدتها للقدوم إلى بيروت، لأنها تسهم في التحقيق في الوقائع الخاصة بمجزرة صبرا وشاتيلا، من ضمن نشاطها في مؤسسة راسل للسلام.
توسطنا لدى السفير اللبناني في باريس، آنذاك، فمنحها تأشيرة، وحين وصلت إلى بيروت خصصنا لها مكتبا في »السفير« وانتدبنا لها من الزملاء من يعاونها في الاتصال بمن ترغب اللقاء معه، والاستماع إلى شهادته، سواء من السياسيين أو من »شهود الحال«، أو ممن اهتموا بتجميع أو إعادة تجميع الوقائع والأدلة والقرائن حول المجزرة التي أودت بحياة حوالى 2500 إنسان أكثريتهم الساحقة من الفلسطينيين ولكن بينهم بضع مئات من فقراء اللبنانيين والسوريين والعراقيين أكرادا وعربا وبعض العمال المصريين.
كان فندقها قريبا من مكاتب »السفير«، وكان الزملاء يتناوبون على إيصالها ليلاً إلى الفندق.
ذات صباح، وقبيل السابعة، اتصلت بي إدارة الفندق لتبلغني ان »السيدة الأجنبية« قد »اختطفت«، وأنهم حاولوا التعرف الى »المختطفين« أو منعهم فلم يستطيعوا إنقاذ المحامية الضيف، لكنهم يقدّرون أن هؤلاء ينتمون إلى »بعض الأجهزة الرسمية«.
بعد جولة واسعة من الاستقصاء والتدقيق ثبت لنا أن »المختطفين« هم من رجال الأمن العام، المعقود اللواء آنذاك لمديره العام زاهي البستاني.
لم تكن لنا مع »هذا الصديق المقرب جدا من بشير الجميل، صلة ود، بل ان ماضي العلاقة معه يوم كان مكلفا في الأمن العام بالرقابة على الصحف قد حفل بالمواجهات وبعض التحديات. وبرغم شيء من النفور وربما بعض مشاعر الخصومة فقد كنا نقدر في زاهي البستاني صراحته الموجعة أحيانا، والتي ربما اتخذت طابعا مستفزا.
فكرت فلم أجد بداً من الاتصال برئيس الجمهورية أمين الجميل، الذي كان قد »انتخب« في الثكنة نفسها وبحراسة الدبابات الإسرائيلية ذاتها، خلفاً لأخيه بشير الذي اغتيل بنسف المقر الحربي الذي كان فيه، قبل أسبوع من موعد تسلمه زمام الرئاسة، وعشية مجزرة صبرا وشاتيلا، التي تم توصيفها بأنها كانت »ردا على اغتياله«، كأن هؤلاء اللاجئين والفقراء المسحوقين كانوا قادرين على مثل هذا العمل الجلل.
… ونتيجة لتدخل أمين الجميل »تنازل« زاهي البستاني فاتصل بنا في »السفير«.
لم يكن الحوار وديا بأي حال، وقد أبدى خلاله البستاني استغرابه لأن تكون لنا صلة بهذه »المشاغبة« الفرنسية، مع تذكيرنا بأنها »يهودية«، ومن ثم إظهاره الاستهجان من اهتمامها بمجزرة صبرا وشاتيلا وعدم تنبهنا إلى خبيث مقاصدها: لدينا من المشكلات ما يكفينا، ولا نريد مساعدة من أحد لنكء جراحنا أو لتجديد الجدل حول المسائل التي تفرقنا.
حاولنا أن نشرح وضعها ومهمتها وعلاقتها بمؤسسة دولية موثوقة ومحايدة، ولا علاقة لها بصراعاتنا الداخلية، أو بالمزايدات الطائفية في لبنان.
وظل زاهي البستاني عند رأيه: لا نحتاج إلى من ينفخ في الجمر الذي ما زال تحت الرماد، ثم أننا أدرى بأمورنا وأولى بمعالجتها.
عدنا نحاول مع الرجل الذي كتب له بشير الجميل إهداءً نادراً على الصورة المعروفة له (قميص مفتوح الياقة، بنصف كم)، بينما رئيس المجلس النيابي يقرأ الاسم الصوت الذي سيعلنه رئيساً للجمهورية: »تذكرتك في هذه اللحظة، وتذكرت جهدك الذي لا ينسى من أجل تأمين الفوز في هذه المعركة الصعبة«.
قلنا: ان هذه المحامية المناضلة قد ذهبت من قبل إلى فلسطين المحتلة، وان السلطات الإسرائيلية لم تعترض على تحقيقاتها، وانها قابلت العديد من الجنود الشهود، ومن السياسيين والمسؤولين، واستمعت إلى إفاداتهم ومشاهداتهم وتقديراتهم واستنتاجاتهم حول المجزرة والمشاركين فيها…
ويبدو ان زاهي البستاني قد أضجره النقاش في الأمر كله، فقال بلهجة من يريد انهاء المكالمة: على أي حال، يا عزيزي، لقد صارت المرأة على الطائرة.
***
هناك عشرات الحكايات عن الموقف اللبناني الرسمي من فكرة اجراء تحقيق مستقل حول مجزرة صبرا وشاتيلا، وهو موقف يصح في وصفه: كاد المريب ان يقول خذوني!
لقد امتنع لبنان الرسمي، ولسنوات، ولعله ما زال ممتنعاً حتى اليوم، عن اجراء تحقيقه الخاص حول هذه المجزرة التي أودت بالآلاف من اللاجئين، رسمياً، اليه، والمقيمين فوق أرضه وبإذنه، (بينهم بضع مئات من مواطنيه).
الذريعة الدائمة: تجنب إثارة المسائل الخلافية، لا سيما تلك التي يتهم فيها طرف لبناني طرفاً آخر، والتي قد يكون لها طابع طائفي من شأنه تفجير الاحقاد أو تجديد الحرب الأهلية على قاعدة طائفية.
لكن الذريعة نفسها ساهمت في إبقاء التهمة بارتكاب المجزرة لاصقة بلبنان واللبنانيين، ولو تحت اسم الكتائب أو »القوات اللبنانية«، وتبريرها المعلن: الانتقام لبشير الجميل…
أي من أجل تبرئة (غير مؤكدة) لبعض اللبنانيين تركت التهمة معلقة فوق رؤوس اللبنانيين جميعاً، وتم توفير المزيد من الذرائع لتملص القيادات الإسرائيلية وعلى رأسها شارون من التهم.
ولولا التحقيقات الرسمية الإسرائيلية، وبالذات منها تقرير كاهانا الذي قصد الى توجيه اتهام ضمني لشارون وبعض العسكريين كتمهيد لا بد منه لتبرئة إسرائيل كدولة وكمجتمع وكجيش، لظلت الجريمة »انجازاً« لبنانياً صرفاً!
يومذاك برزت إلى السطح، فجأة، »حركة السلام الآن«، وقادت تظاهرة اسطورية جعل الاعلام الإسرائيلي والدولي المشاركين فيها يصلون إلى أربعمئة وخمسين ألف بن آدم، كلهم ضد المجزرة ومرتكبيها، وأبرياء، لا يأتيهم الاتهام من خلفهم أو من أمامهم.
وكانت تلك التظاهرة المقدمة السياسية الاعلامية لتبرئة الذات من المجزرة ورمي المسؤولية المباشرة على اللبنانيين.
بالمقابل تصرف لبنان، الرسمي والشعبي، وكأنه مؤهل لأن ترمى عليه مثل هذه التهمة الخطيرة.
ولعلنا ننتبه الآن فنقوم بالواجب الذي قصرنا في أدائه قبل عشرين عاماً أو أقل قليلاً. لعلنا نحصل على براءة متأخرة من جريمة سيظل بطلها »إسرائيل« بقيادتها السياسية وجيشها حتى لو كانت الأداة »لبنانية«، إلى هذا الحد أو ذاك.
… »والأداة« لا تبرِّئ من وظّفها واستخدمها وأفاد من حصيلة جهدها الذي ما كانت لتقدر عليه أو لتقوم به لولاه!
رفيق شرف وصهيل التحدي
استعاد رفيق شرف بعلبكيته، التي كانت دواعي »الحداثة« تتطلب شيئا من تمييعها، وقال بنبرة التحدي المقدودة من الصخر الذي بنيت به القلعة: سأهزم السرطان! إنه خبيث بالفعل! لقد تسلل في غفلة مني كلص محترف.
صمت للحظات وأطلق سهام عينيه كأنه يتمثله أمامه ويريد أن يصرعه بإصابات مباشرة، ثم عاد يقول: لن أدعه يهزمني. لن أقبل أن ينتصر عليّ.
كنت أهتم بجسدي كل الاهتمام، بل أزعم أنني أكثر الناس معرفة بتفاصيل الجسد، ليس بعين الرسام أو بخبرته بالتشريح، بل أساسا بالمتابعة الدقيقة والاهتمام بالتحولات التي يأتي بها الزمن أو العواطف. أعرف عن القلب كما عن الرئتين، عن الكليتين كما عن الكبد، عن العضلات كما عن الأعصاب.
ذابت كلمات المجاملة والتشجيع ومحاولة التذكير بمن صمدوا في مقاومة المرض قبله أمام إصرار رفيق شرف على تسجيل »سابقة« في الانتصار عليه.
فجأة رقّت لهجة رفيق شرف وتحركت عيناه كأنما بالفرشاة وهو يقول: أكاد أنجز، في مخيلتي، بعض اللوحات. أفكارها جديدة تماما. المشكلة أن العقل والقلب والعين أقوى من اليد وأسرع.
قمنا نودعه وقد غادرنا الخوف.
كان البعلبكي العنيد »عمودا« من اللون والنار والغضب، كان حصانا يضيق بجموحه السهل على اتساعه، وتتردد أصداء صهيله لتطرد شبح المتسلل الخبيث ولتفتح الطريق أمام الإبداع المتجدد، بينما عصافيره ترفرف ناثرة قوس قزح.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يستطيع الحب، في جملة قدراته، ان ينقص من احساسك بثقل السنين وان يزيدك من ايمانك بأن شبابك دائم ومتجدد باستمرار. سمعت عجوزاً يقول لفتى: اتراهنني على أنني اقوى منك؟! انني احمل في قلبي حباً عظيماً عمره نصف قرن، ولكنه يجعلني دائماً عندحافة العشرين!