5 حزيران في واشنطن، و»أبو الياس« يسقي الوطنية في الأوزاعي؟
في المطار فقط انتبهت الى تاريخ الرحلة: 5 حزيران، فأخذني التذكر الى شيء من الغم، خصوصا وان المقصد واشنطن تلبية لدعوة منن »اللجنة الأميركية العربية لمكافحة التمييز«.
ماذا تملك ان تقول للآخرين إذا كانت مشكلتك في داخلك؟
ولأن الذاكرة قد تكون »بيتا سيء السمعة«، ولأن »حزيران« غني بالوقائع »المفرحة« عربياً، فقد انتبهت أيضاً الى ان الجنرال ارييل شارون كان في مثل هذا اليوم من العام 1982 يتقدم على رأس الجيش الاسرائيلي متوغلاً داخل احشاء لبنان، في اتجاه بيروت، التي سيحتلها وسيرتكب فيها بعض أروع ما يزيّن سجله العسكري المتميز: مذبحة صبرا وشاتيلا التي أودت بحوالى 2500 فلسطيني ولبناني وسوري ومواطنين عرب آخرين بينهم بعض العراقيين من الأكراد المسحوقين.
ها هو شارون على رأس »حكومة الوحدة الوطنية« في إسرائيل اليوم، وانذاراته تتوالى بسحق الفلسطينيين مرة أخرى وداخل أرضهم، بدءا »بسلطتهم الوطنية« المستضعفة، مرورا بتنظيماتهم الشعبية المتسوحدة وجماهيرهم الباذلة دمها أطفالاً وفتية وشباناً ورجالاً ونساء والمفتقدة المعين والنصير.
إنها مناسبة ممتازة، إذن، لتكون في »بيت الذئب«!
ماذا ستقول للآخرين اذا كانت مشكلتك مع ذلك، مع أوضاعك الداخلية، مع حقائق حياتك السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، وليس فيها ما يسرك أو يريحك أو يطمئنك الى غدك؟!
هل تقف في واشنطن لتشهِّر بأهلك؟!
ولكن، هل حكامك هم أهلك حقاً؟!
… وحتى لو لم تعتبرهم أهلك فهل لك الى التبرؤ منهم سبيل، وهم الذين يقررون مصيرك، وينطقون باسمك، ويفاوضون عليك؟!
كيف تخرج من هذا الحصار القاسي بأقل الخسائر: فلست هنا لتشكو »الوكيل« الى »معلمه« الاصيل، ولا جئت بطلب النجدة من »الشيطان الأكبر« ضد »الشياطين الصغار«، ولا يمكن لنفسك ان تقبل التشهير ببلادك امام الأغراب، الذين هم بين أسباب نكباتها عموما، ونكبتها بحكامها على وجه التحديد؟!
***
الذاكرة خير منجد.
استذكرت تلك النادرة الطريفة التي سمعتها لأول مرة من صديق عمرك الذي قضى عليه كمده وأثقال الخيبة، الياس عبود.
كنا قد قصدنا الكويت معاً، بداية الستينات، لإصدار مجلة سياسية قرر أحد وجهاء الصحافة فيها، آنذاك، ان يطلقها لتكون »الأولى« في منطقة الخليج العربي.
في الأيام الأولى لوجودنا تابعنا في الصحيفة التي يملكها »معلمنا« الجديد، حملة عنيفة ضد الحكومة في لبنان، لأنها تأخرت في الاعتراف باستقلال الكويت، ربما في انتظار جلاء الموقف بعد التهديدات العراقية آنذاك (1962) وانهماك الجامعة العربية في محاولة »رأب الصدع« وتسوية الأمر حبياً.
وكان كاتب الافتتاحيات زميلاً لبنانياً أما التوقيع فلصاحب الجريدة الكويتي.
وذهبنا نناقش »معلمنا« الجديد بأن هجومه قد تجاوز الحدود المقبولة للتعبير عن الرأي السياسي، وبات يحمل شبهة الهجوم على لبنان واللبنانيين عموماً.
احتدم النقاش، وساد التوتر، ثم فوجئنا »بمعلمنا« الكويتي يرتد علينا بهجوم مضاد قوامه: »ولكنكم انتم بالذات من غلاة المعارضين، في المجال الصحافي، للحكومة في بيروت«.
هممت بالرد، فاستوقفني الياس عبود وأصر على ان يتولى هو المهمة… وكان ان روى »لمعلمنا« هذه »السالفة«… قال:
في اوائل الاربعينيات جاء رجل من كفرشيما الى منطقة الاوزاعي، وكانت مجرد تلال وسهوب من الرمل، فأقام خيمة وجعل يقدم فيها »كأس عرق« مع بعض المأكولات الخفيفة.
وكان »لابي الياس«، ابن كفرشيما، صديق بيروتي عتيق هو »ابو صطيف« وهو من »محبي الكيف« ومن متذوقي العرق البيتي المثلث الذي »يشيله« صديقه على يده، في منزله.
كان لبنان ما زال تحت الانتداب الفرنسي، وكان اللبنانيون منقسمين كالعادة طائفياً: كثرة المسلمين ضد فرنسا وينادون بالوحدة مع سوريا، واكثرية المسيحيين ضد الوحدة ومع استمرار الانتداب.
ولاختراق صفوف »الزبائن« فقد جعل »ابو الياس« تحيته الدائمة لابي صطيف مشفوعة بشتيمة يوجهها للفرنسيين، فيطير بها صديقه البيروتي العتيق الى أقرانه ليدعوهم الى الخيمة في الاوزاعي حيث يتذوقون اطيب لقمة مع احلى كأس من يد »المسيحي الوطني« ابي الياس الكفرشيمي!.
تكاثر الزوار وتم توسيع الخيمة لتصير مطعما شرعياً وازدهرت احوال »أبي الياس« مع ذيوع صيته وتميّزه بالعرق والوطنية.
ذات يوم جاءه ابو صطيف مع واحد من اصدقاء عمره »ليعرّفه الى المسيحي الوطني الممتاز«. وكالعادة اطلق ابو صطيف التحية المعهودة بين الرجلين والتي تتضمن تنويها بأم فرنسا وأعضائها التناسلية.
وفوجئ ابو صطيف بابي الياس يتقدم منه فيصفعه!
قال: لماذا تضربني يا ابا الياس؟!
ورد ابو الياس بحدة: ولماذا تشتم فرنسا؟!
قال ابو صطيف: لكنك كنت طوال عمرك تشتمها.
قال ابو الياس: فرنسا أمّنا، وأنا حر فيها، اما انت فلا…
ضحك »معلمنا« الكويتي لنكتة اخينا الياس عبود، وقرر ان يعفو عن حكومة لبنان اكراما لخاطرنا نحن الذين نعارضها في بيروت، ولكننا لا نقبل ان نشهر بها في الخارج!
***
ولكن الحال معكوسة ايها الصديق الغائب: فحكامنا الذين يسوموننا اسوأ العذاب في الداخل هم هم مصدر التشهير بنا في الخارج، بل لعلهم يبررون استمرارهم على رأس السلطات المطلقة في بلادنا بأن شعوبهم الخانعة والمتخلفة لا ترضى بغيرهم بديلاً، او لعلها »تفرض« عليهم هذه السياسات المتخاذلة التي يمارسون!
أليس ان بعضهم يرى في توليه الحكم إنفاذاً لحق إلهي، باعتبار ان الله سبحانه وتعالى قد استخلفهم في الارض؟!
وأليس ان بعضهم الآخر يرى انه يحكم بالارادة الشعبية المطلقة مستشهداً بنتائج الاستفتاءات التي تعطيه من أصوات الرعية فوق ما كان يمكن أن يناله لو استخلفه الله في الأرض؟!
الطريف يا »رفيق الياس« أن هؤلاء وأولئك كلهم هنا في واشنطن التي نصلها اليوم لنبدأ رحلة مع الحرج والارتباك والغصات الحزيرانية نادرة المثال: فالشكوى لغير الله مذلة، ثم كيف تشكو الى ظالمك »إنجازاته« الباهرة، سواء اتخذت طابع مناصرة أقصى التطرف في اسرائيل فوفرت لسفاح صبرا وشاتيلا أعلى نسبة تأييد، أو اتخذت طابع تمكين سلاطينك العرب من رعاياها البؤساء من المحيط الى الخليج، إكراما لتنازلاتهم التي لا تقف عند حد، بحيث يصح فيها قول الشاعر من أن واحدهم »ما قال لا قطّ الا في تشهّده/ لولا التشهّد كانت لاؤه نعما«؟!
بقي أن نسأل عن المقصود بالتشهد في حالة سلاطيننا الأماجد: هل هو الله عز وجل، أم واشنطن روما العصر، أم شارون السفاح أمس واليوم وغدا، أم ذاته الكريمة، باعتباره قد أسبغ على نفسه أسماء الله الحسنى جميعا؟!
***
أما حديث واشنطن والمؤتمر الوطني الثامن عشر للجنة الاميركية العربية لمكافحة التمييز، فلنا معه موعد آخر.
لا بد من »نسيان« أو »تناسي« العقدة الحزيرانية ليمكنك محاورة ذاتك فكيف بهؤلاء الذين يجلسون على قمة الكون بأرضه والفضاء متمتعين بما لم يجتمع لأي قيصر في روما التاريخ، في أي يوم؟!
أنت في حزيران في واشنطن، تحت المطر! والهجير في بلادك، وقد فقدت آخر مظلة قبل أربعة وثلاثين حزيرانا؟!
عن التي هزمت نفسها لينتصر الحب!
يصعب تصديق الرواية بأن الأمر قد جرى في غفلة عن الجميع، وبأن الهوى قد شب فجأة فشب في البلدة الحريق!
أطرف الذرائع كانت الادعاء بأن الحدث »سابقة«، فإن ترك أبطالها وهم مجرد فتى وسيم وظريف ومجرد فتاة جميلة وشجاعة امتدت النار الى بيوت الجميع، ولم يعد رجل يهنأ في حياته لأن البنات سيخرجن على طاعة أولياء الأمر.
كان الكل يعرف ويرى ويتوقع أن يقدم الحبيبان الشابان على الهرب، لكي يتزوجا »خطيفة« فيضعا الأهل جميعا أمام الأمر الواقع. بل ان ثمة من شجع الشابين ووفر لهما بعد النصيحة المأوى و»الخطة« وأدوات التنفيذ!
كان الكل يعرف ويتوقع أن يجري هذا الذي جرى، بل لعله كان يريد حدوثه ليتأكد من أن الأرض كروية، وان الفتيان »فحول«، وعندها تتقدم المبادرة لإصلاح ما أفسده العطار!
قال كبيرهم: رويدكم. لتعم أخبار الفضيحة، وليأخذ الزلزال مداه، فتتزعزع أركان العائلة الخصم ثم نسعى في طلب الصلح. لنا عليهم واحدة.. لقد اختطفوا قبل سنين بنتا من بناتنا، وعندما عجزنا عن الانتقام قبلنا بالصلح مرغمين لنحجب الدم ونمنع المجزرة!
شهق الفتى خوفا: سيقتلونها!
قال كبيرهم: لما كنت سمعت بهذا الأمر لو أنهم عزموا عليه.
عاد الفتى يزأر: إنهم يحبسونها في القبو، مع الدواب والعناكب والصراصير. إنهم يعذبونها وأنتم تعذبونني بالرغبة في الانتقام لثأر قديم. أنتم واحد في القسوة والسوء، لماذا إذن تتخاصمون؟!
نهره أبوه فقال »الكبير«: دعه يتنفس ويفرج كربته.
قال الفتى: سأذهب اليهم، وليقتلوني معها، لن اتركها لبطشهم.
رد »الكبير« بهدوء: لن يقتلوها. انهم يريدون الثمن. لقد طلب الوسطاء اختك ليزوجوها من أخيها، فماذا تقول؟
صمت مرتبكاً: هل يفتدي حبه بأخته؟ هل يقرر لها مصيرها؟! ما الفرق إذن بينه وبين هؤلاء »الجاهلين« كما كان يسميهم؟!
قطع عليه ابوه اضطرابه، قال: وافقت »جميلة«، فبلّغوهم!
حاول ان يرى عيني ابيه فإذا هو يشيح ببصره عنه. وانفلت الى »جميلة« ليسألها، فأطرقت ولم تجب… وحين ألح عليها ليعرف رأيها اكتفت بالقول: ليهنأ واحد منا، ذلك أفضل من ان يفرض الغصب نفسه على الجميع. مبروك لك حبيبك، اما انا فلا فرق بين ان يفرض عليّ قريبي او يفرض عليّ هذا »الغريب«، بل لعله ارحم بي وأرق بسبب من »تفضيلي« له ولو بالاكراه على قريب كان سيبدو انني قبلته بالرضا.
… وحين استعادوا »العروس« ولعلع الرصاص بشرى بانتفاء خطر الصدام بين القبيلتين، أطلقت جميلة العنان لدموعها… فرحاً بانتصار الحب، ولو على حسابها!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا انتظر ان ينبهني حبيبي الى ما لا يناسبني من اللباس أو التصرف أو الطعام. ان حبيبي يسكنني، له أتجمل، وله وبذوقه ألبس، وأذكره وأنا ارحب بصديق أو اتقبل ملحوظة من حريص، أما جسدي فله. تكفي نظرة لازيد من وزني أو انقصه لأظل مداراً ليديه. الحب ان يكون حبيبك فيك لا خارجك.