اعتذار متأخر من يوسف الخطيب: السياسة لا العاطفة..
عرفت الشاعر الراحل يوسف الخطيب صاحب موهبة تتدفق حماسة وصاحب حلم عربي يغزله سنياً واعداً فإذا بوحدة الأمة في مدى الذراع وإذا تحرير فلسطين جاهز برجاله لا ينتظر الا القرار.
كانت الدنيا غير الدنيا: الأمور واضحة تماما لا تحتمل الالتباس، فدولة الوحدة، الجمهورية العربية المتحدة، قد أخرجتها الإرادة، ولو في ظروف ملتبسة، من خانة الأمل لتقيمها دولة «تحمي ولا تبدد، تصون ولا تهدد»… والأحلاف الأجنبية التي كان يراد فرضها كشبكة أمان أميركية ـ بريطانية بل غربية عموماً لحماية اسرائيل تسقطها الارادة الشعبية بتماسك أصحاب القضية وتظاهراتهم الحاشدة بهتافاتها ذات الدوي.
وكان الشعر يحتل مع الوجدان الميدان… بل ان الميدان كان مسرحاً مفتوحاً يتبارى فيه الشعراء الذين يمدون المتظاهرين بالهتافات ذات الإيقاع، والاندية مفتوحة لأصحاب الفكر يواجهون بعضهم بعضاً بالحجة والمنطق، بالمصالح والعواطف، والرسامون ينافسون المصورين بلوحاتهم التي كرست «الفارس الأمة» جمال عبد الناصر والشعب قاهر المستحيل.
تمددت دمشق وحمص وحماه وحلب واللاذقية حتى طرابلس فبيروت وصيدا، لتلاقي فيها دير الزور ودرعا والسويداء والقامشلي والحسكة والرقة، وكانت القاهرة تتوهج في أفقها جميعاً وتصلنا بأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وسعاد محمد ونجاح سلام وصباح. كان العيد متصلاً لشهور عديدة..
وكان يوسف الخطيب يتقدم التظاهرات وكأنه يمشي نحو فلسطين، وقد قاربها أرضاً وليس في أحلامه. ولأن «الوحدة» صارت الديوان فقد بات يوسف الخطيب شاعرها وحاديها. وكان الناس يقصدون إلى سماعه حيث يكون خطيباً أو حيث يلقي قصائد يستولدها وعيه وتلحنها حماسته ويرددها الجمهور هديراً منشياً.
سمعته خطيباً وفلسطين هي القصيدة والديوان والوحدة هي السيف والطريق. وجلست إليه مع فتية مثلنا، نهاراتهم لعمل لا لينتهي، وفي ظنهم انهم كلما أعطوا من عرقهم أكثر قربوا يوم تحقيق الأمنية واقتربوا من الحلم حتى كادوا يفترضون أو يتوهمون انهم قد غدوا بعضه.
كنا نعيش خارج الواقع… من قال ان الواقع يتسع للتمني؟
ولم يكن يوسف الخطيب وحده شاعر الوحدة بوصفها طريقاً إلى تحرير فلسطين، بل كان ثمة شعراء كثيرون في سوريا ومصر وفلسطين ولبنان وسائر البلاد العربية، غنوا العروبة واحتفوا بالوحدة، قد يكون أشهرهم سليمان العيسى ومعه آخرون من البعثيين والقوميين العرب. وأحمد عبد المعطي حجازي في مصر، وكان السباق، والتحق به ـ بعد فترة ـ صلاح عبد الصبور، وفاروق شوشة وقد مزجوا الوطنية المصرية بالعروبة، قبل ان يصل أمل دنقل ـ بعد حين ـ ليغني عروبة مصر وارتباطها بفلسطين اجمل ما يكون الغناء. كذلك فقد ارتفعت أصوات شعراء فلسطين، وبالتحديد توفيق زياد وسميح القاسم، على وجه الخصوص، اضافة إلى هارون هاشم رشيد والكرمي (ابو سلمى) ينشدون التحرير عبر الوحدة، ومن لبنان ارتفعت أصوات شعراء كثيرين أهمهم خليل حاوي الذي لم يستطع تحمل هزيمة 1967ثم اجتياح 1982 ففضل ان يغادر الحياة ملفوفاً بأحلامه على ان يراها مسحوقة بدبابات الاحتلال الاسرائيلي لكامل فلسطين ومعها بعض مصر وبعض سوريا في حين هيمن ظل الاحتلال على لبنان، قبل ان تجيء المقاومة الفلسطينية من الأردن لتتخذ من بيروت القاعدة ومن الجنوب المنطلق.. ثم لتستقر فيه، مع وعيها بأنه لا يستطيع ان يتحمل أثقالها التي تتجاوز قدرته على الاحتمال.
[[[
… ومع ذلك فها هي دولة الوحدة قد صارت من الواقع وفيه، وها نحن نجوب المدن في مواكب نصر، نهتف منتشين ونرفع قبضاتنا متعهدين بحمايتها، يعانق بعضنا بعضا والعرق يتصبب من جباهنا ويغمر وجوهنا والأعناق والزنود، وتلمع في عيوننا صورة فلسطين التي عرفها يوسف الخطيب مولدا وعرفتها موقفاً، واتفق جمعنا مع الملايين التي تهدر هتافاتها في الشارع مؤكدة ان الوحدة هي السيف والطريق.
لكن الأحلام لا تعيش طويلاً..
وهكذا بعد سنة او يزيد قليلاً شجر الخلاف بين جمال عبد الناصر وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان ـ بعسكرييه قبل مدنييه ـ قد اختار ان يهرب بسوريا إلى الوحدة بعدما استعصى حكمها على طبقتها السياسية، فتوالت الانقلابات العسكرية وأسقطت التجربة الديموقراطية اليتيمة التي انتجتها الانتخابات النيابية، في أواسط الخمسينيات.
انشق الجمهور الواحد على نفسه إلى حد التصادم.. وتبادل الجميع الاتهامات بالمسؤولية عن كارثة الانفصال التي دمرت الحلم، وأغرقت الجماهير، مرة أخرى، في بحار اليأس. وانحاز الجمهور، بغالبيته، إلى عبد الناصر، خصوصاً انه لم يطلب الوحدة ولم يسع اليها، بل حاول تجنب كأسها لأنه كان يدرك كم ستكون حمايتها صعبة… ثم انه كان يعرف ان المواطن المصري العادي لا يعتبر الوحدة من أولوياته، بل هو مهتم بأن يرفع مستوى معيشته، وان يتحرر من فقره الأبدي… ثم انه لا يريد ان يذهب إلى الحرب، مرة أخرى، قبل ان يكتمل بناء دولته القوية، فيصير أكثر استعداداً لمواجهة مسؤولياتها الثقيلة.
صار الوحدويون حزبين متواجهين الى حد العراك.
وبعد سنتين من الانفصال، وقع انقلاب عسكري جديد في سوريا أخرج من أسماهم «الانفصاليين» من السلطة، وتولى حزب البعث تجديد التفاوض مع جمال عبد الناصر لتجديد التجربة، ولو على شكل اتحاد بدلاً من الوحدة الاندماجية… لكن هذه المفاوضات انتهت إلى قطيعة فخصام وتبادل للحملات الشعواء، بحيث أصابت اللعنة كلمة «الوحدة» فانصرف عنها الناس إلى همومهم اليومية الثقيلة، بينما استمرت لعبة الانقلابات العسكرية في سوريا، وان كانت شعارات حزب البعث ظلت تغطي النوايا الفعلية لقادتها وجمهورهم.
لم أكن «سورياً» يشكو من تحكم الاقليميين المصريين بالدولة التي كان يفترض ان توحد الشعبين فإذا بانهيارها يخلف مرارة متبادلة تصل إلى حد التباغض،
ولم أكن «مصريا» يرى ان السوريين قد ضللوه وباعوه الوهم.. اغووه حتى استدرجوه إلى ما لم يطلبه ولم يكن بين اولوياته، هو الذي يريد الخبز مع الكرامة ولا تستهويه «القومية العربية»، هو الباحث عن الكفاية والعدل.
انشق واحدنا على نفسه وتبعثرت مراجع ايمانه، وساوره الشك في نفسه وفي صدقية شعاراته وفي قربه أو بعده عن عقلانية مطالبه التي ثبت انها في مستوى الأحلام.
[[[
… وعندما بلغنا خبر رحيل الشاعر الكبير يوسف الخطيب استذكرت واقعة تعكس انشقاق واحدنا على ذاته، بعد انهيار حلم الوحدة الذي أدى ـ حكما ـ إلى تعميق الانفصال، وإلى مزيد من التباعد بين العربي والعربي، وبالتحديد بين المصري والسوري، والذي دفع الفلسطيني ضريبته الباهظة… خصوصاً ان هزيمة 5 حزيران 1967 جاءت تتوج مأساة الانشقاق العربي وضياع القضية.
لم أكن أقصد الاساءة إلى ذكرى الشاعر الصديق… لكنني كتبت متعجلاً، واختلطت العواطف بالمواقف، وحزني على رحيل يوسف الخطيب بإشفاقي على زميلي وصديقي الكبير مصطفى الحسيني من أزمته الصحية، بافتقاد الزميل والصديق الأديب رياض فاخوري.
وأعترف ان تلك الخاطرة لم تكن موفقة، أقله في توقيتها، بل لعلها لم تكن في محلها، وكان عليّ أن أقصر الكتابة على حزني على الصديق الشاعر الكبير الذي غادرنا، يوسف الخطيب.
وكان ان تلقيت رسالة من نجله باسل يوسف الخطيب فيها ما يتجاوز العتاب إلى الغضب، وأنا أقدر تماماً كيف تلقى تلك الكلمات التي حادت عن القصد منها، إلى ما لا أقبله على حزني على يوسف الخطيب، المناضل والشاعر والصديق.
في محاولة للتكفير عن الاساءة، أنشر هنا نص رسالة باسل الخطيب، من دون ان أسمح لنفسي بأن أحذف منها حتى الكلمات التي أراها مسيئة إلى الجميع.
***
نص الرسالة:
«الأستاذ طلال سلمان
قرأت ما جاء في زاوية «هوامش» المنشورة من جانبكم في جريدة السفير بتاريخ 24 ـ 6 ـ 2011 حول رحيل والدي يوسف الخطيب، تغمده الله بواسع رحمته وأسكنه فسيح جنانه.. وأنا على يقين بأن الله عز وجل سيفعل هذا لأنه يعرف جيداً من هو يوسف الخطيب. لحظتها، ومع الأسف الشديد، تبدلت «السفير» بسبب ما كتبت فيها، من (صوت الذين لا صوت لهم) إلى مجرد رجع لأصداء مواقف شخصية وثأرية، أساءت لك بالدرجة الأولى والأخيرة، وفقدت، أنت شخصيا، ما كنا نكنه لك من تقدير واحترام.
ألم تسعفك ذاكرتك ووجدانك الوطني والقومي إلا في تذكر هذه الحادثة، التي وإن اختلفنا على حدوثها أصلا ووفق السيناريو الساخر والمشين الذي صغته، فإن أسوأ منها قد حدث ويحدث بالتأكيد مع كبار المبدعين والمثقفين، لكنها لا يمكن بأي حال من الأحوال ان تكون منطلقاً للحديث عنهم وإطلاق أحكام مجحفة وغير لائقة تجاههم خصوصاً بعد رحيلهم.. ليس فقط عملا بالحديث النبوي الشريف (واذكروا محاسن موتاكم) ولكن عملا بما يمليه الضمير والأخلاق تجاه إنسان وشاعر ترفع عن كل صغائر الدنيا وإغراءات السلطان وبقي حتى اللحظة الأخيرة يدافع عن ثوابت وطنية وقومية دفع لأجلها الكثير و(بح) صوته وهو ينادي بها لعقود طويلة من أعلى منبره الثابت والنزيه، في الوقت الذي تلاشت فيه أصوات أخرى كثيرة وأضاعت منابرها وبوصلتها وبقية الإنسان فيها.
كان يمكن، وبعد استشارتي لخيرة المحامين والحقوقيين المختصين بهذا الشأن، في سوريا ولبنان، الذي سلخت فيه أشهراً طويلة وقاسية لانجاز عمل فني ووطني كبير عن المقاومة، وبمباركة وتأييد آنذاك من والدي، رحمه الله، ان أقاضيك و«السفير» بتهمة الاساءة والقذف والتشهير، لكن مكانة والدي وقدسية ذكراه، منعاني من إثارة هذه القضية.
أنا شخصيا، وجميع أفراد عائلة الراحل الكبير يوسف الخطيب، الصغيرة على امتداد داره، والكبيرة على امتداد الوطن، لن نسامحك على ما اقترفته يدك بحق والدي، والتي لم تكن زلة قلم، وإنما زلة رجل واعلامي مشهود له.. أما أنت، أيها الأستاذ الفاضل، فادع ربك، يوم تلقاه، ان تجد، ولو عدداً يسيراً، ممن وجدهم يوسف الخطيب، وهو في عليائه، يترحمون عليه ويذكرون أفضاله ومآثره.
باسل يوسف الخطيب»
[[[
بغض النظر عن القسوة المختلطة بحرقة الحزن في هذه الرسالة الأخوية، فإنني أجدد اعتذاري إذا كانت الحادثة التي رويت، قاصداً منها التدليل على فاجعة الانشطار الذي عشناه بعد انفراط عقد الوحدة، وعودتها إلى ما خلف الأحلام، قد أساءت إلى ذكرى الشاعر الكبير يوسف الخطيب وأسرته.
لقد خانتني العبارة وأنا أستذكر واقعة تعكس فجيعتنا جميعاً بانهيار آمالنا في الوحدة… ولعلني قصدت التوكيد على عمق الاختلاف في النظر إلى قضية الوحدة بين الفلسطيني (في سوريا) وبين المصري (في لبنان)، وكلاهما من أهل الابداع، عندما ينحدر الكلام إلى واقعنا السياسي المتردي.
مرة أخرى، أكرر اعتذاري… مقدماً واجب التعزية إلى أسرة هذا المناضل الذي غادرنا وقد هده اغتيال الأحلام أكثر مما أتعبه اعتلال الصحة.
[[[
من أقوال نسمة
قال لي «نسمة» الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
ـ لا تتعجل الحب. انه يبدأ طيفاً، ثم يكتسي ثياب الحلم، وبعدها يجيء الطوفان فيجرف الخوف والتحفظ والأسئلة ولادة القلق.
أن تحب يعني أنك قد انتصرت وقرأت الأجوبة في عيني حبيبك، فتسعد حتى البكاء.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان