ذكريات طفولة عن بلدة لم تنجب المشاهير
لم تنجب «الضيعة» في ماضيها أيا من المشاهير، لا في السياسة ولا في الثقافة ولا طبعا في الاقتصاد والهندسة وفنون البناء المكلف وسائر العلوم. كانت واحدة من القرى المنسية في منطقة بعيدة عن العين ومسقطة من الذاكرة الرسمية برغم انها لا تبعد عن بيروت الا سبعين كلم. أما أهلها فهم بغالبيتهم الساحقة «مهجرون» في الأصل من «المقلب الآخر»، كسروان وبلاد جبيل، وعلى دفعتين: الأولى أيام المماليك، والثانية في زمن «السلطنة» العثمانية. ربما لهذا السبب ألحقت بلدتــنا «شمــسطار» بالمتصرفية، خلافاً لمحيطها من القرى التي ظلت ضمن «الولاية».
والمتصرفية، لمن لا يعرف، هي الكيان السياسي الاستثنائي والفريد في بابه، والذي اقتطع من السلطنة بذريعة «الفتنة» التي دبرت في الجبل ضد المسيحيين واتهم بها الدروز بتحريض من الاتراك، فكان ان تدخلت «الدول» ـ أي أوروبا ـ لتفرض على السلطان ان يعطي الجبل نوعا من الاستقلال الذاتي، لا يخرجه عليه، ولكنه «يختلف» في نظام حكمه، اذ تكون مرجعيته لمتصرف يعينه السلطان من رعاياه على ان يكون «مسيحيا»… وهكذا فقد تعاقب على سدة السلطة ثمانية من المتصرفين معظمهم من الأرمن، في حين «مجلس الادارة» يضم ممثلين للطوائف بغالبية مسيحية، بينما تم ترحيل قسم كبير من الدروز الى حوران فاقتطع منها ما بات يسمى «جبل الدروز» في سوريا.
ما لنا ولمواجع التاريخ والجغرافيا والدول المصطنعة بقرارات من الخارج ووفق مصالحه، أقله في هذه المنطقة من المشرق العربي الذي قسمته المصالح جمهوريات وملكيات وامارات… تمهيدا لإقامة الكيان الاسرائيلي، على ارض فلسطين، وعلى حساب شعبها، في ضوء النتائج التي تحققت في ما بعد.
لنعد الى شمسطار التي عاش أهلها مع أرضهم وفقرهم بصمت، ليس لهم من يهتم بهم، او يرجعون اليه بمطالبهم، مثل الاكثرية الساحقة من ابناء «المناطق المحرومة» شمالا وجنوبا وبقاعا وجبلا وحتى في قلب بيروت.
لم تنجب شمسطار، اذن، مشاهير… بل ان اسمها نادراً ما ذكر في صحيفة او في نشرة أخبار، اللهم الا في حالات نافرة وغير مبهجة وتتصل بالخروج على القانون، اذ ان اولئك المحرومين من وطنهم وهم في وطنهم لم يكونوا ليجدوا لانفسهم مكانا او مكانة داخل القانون!
أذكر أنني في طفولتي كنت أقف في ساحة الضيعة مع جمهور غفير، في انتظار وصول «البوسطة» الآتية من بيروت، والتي لم تكن تستطيع بلوغ الضيعة في الشتاء، لان الطريق الموحلة تمنع ـ بخنادقها ـ وسيلة التواصل الوحيدة مع «الخارج» من الوصول الى منتظريها.
على اننا في أيام الصحو كنا نستقبل «البوسطة» بما يشبه الاحتفال، وفي حين كان البعض يهرع لاحتضان اقارب عائدين من «الغربة»، وهم في الغالب ممن أتيحت لهم الفرصة للانتساب الى قوى الأمن الداخلي او الى الجيش، او الى العمل في ورش البناء ومختلف الأعمال اليدوية، فإن «المسيسين» وهم قلة، كانوا يحاولون العثور على أي «جريدة» مع أي من الركاب، او ربما مع السائق، ولا يهم ان كان تاريخها عتيقاً!
كانت «الجريدة» وسيلة الاتصال الوحيدة مع العالم، ووسيلة الإبلاغ بما يحصل فيه. لكن، من كان يملك ترف ان يقتطع من قوت عياله ثمن الجريدة، مهما كان زهيداً؟! ثم لكي يعرف ماذا؟! ان أوضاعه غير قابلة للتغيير او التعديل، وهو فاقد الأمل في دولته، ثم انه قد استسلم لقدر نسيانه… فلا هو قادر على الوصول الى دائرة الاهتمام، ولا «المركز» مهتم بأحواله، معني بما يصيبه.
[[[
هل من الضروري الاعتذار عن النبرة الشخصية وأنا أظهر الاعتزاز بضيعتي التي ارتدت يوم السبت الماضي ثياب العيد وأهلها يقصدون الثانوية الرسمية لكي يحتفوا بابنهم الذي كرمه نادي دبي للصحافة باختياره «رجل العام الاعلامي ـ 2008».
كان مدخل الضيعة مزدانا بلافتة كلماتها قلوب مرصوفة، تليها بعد مسافة لافتات رفعها الفخر بانتخاب (ابن الضيعة) الدكتور اسعد دياب عضواً في المجلس الدستوري.
ها هي «الضيعة» تتباهى بأبنائها الذين باتت الصحف ومحطات التلفزة تنشر صورهم وتذكر أسماءهم في نشرات أخبارها، وتجري معهم المقابلات.
ثم ها هم ابناء الضيعة يتناوبون على الخطابة، فإذا كلماتهم راقية المبنى والمعنى، فيها شيء من الاعتزاز لكن ليس فيها أي قدر من المباهاة…
واذا كان يتعذر عليّ أن أنشر كلماتهم بنصوصها، فليسمح لي بأن أستغل «هوامشي»، لمرة، في ما قد يبدو حديثا شخصيا، ولكنه في حقيقة الأمر حديث عن أحوال جهة من لبنان لها ما يماثلها في أنحاء أخرى داخل لبنان وخارجه.. مع الاعتذار عن النبرة الشخصية، التي تفرضها مناسبة عامة لكن موضوعها «الشخص»… في بيئته!
«لقاء عائلي» من حول جائزة الصحافة العربية
الحمد لله… لقد نجحت في أن أرد الى هذه البلدة الصابرة على ظلمها بعض جميلها عليّ، وأكرمني ربي بأن أضيف الى رصيدها فأعززه مؤكداً في أهلها – أهلي الطيبين القدرة على الإنجاز الى حد التميز واستحقاق جوائز التقدير.
وها أنا أغالب عاطفتي فتغلبني وأنا أرى وجهي في عيونكم وقد أضاءها شيء من الزهو بواحد من أبنائها جاءها بالتكريم الذي لكل من أبنائها نصيب فيه.
حين عرض شريط سينمائي قصير عن سيرتي الذاتية، قبيل تقديم جائزة الصحافة العربية إلي باعتباري «رجل العام 2008» ودوّت كلمة «شمسطار» مشفوعة بالتصفيق، أحسست بشيء من الزهو: إن أهلي معي في الإمارة ذات الأبراج، يحظون بالتكريم قبلي ومعي.
ولقد استذكرت منتشياً، قبل أهلي ومعهم، السيد جعفر الأمين والأستاذ عبد الحسين حامد، خصوصاً، وكل أفراد تلك الطليعة من المعلمين الذين جعلوا من مدرستنا الرسمية الفقيرة، نحمل إليها حطب البيوت لكي لا يجمدنا البرد، منارة في هذه المنطقة المتروكة للريح بعدما أسقطتها الدولة من ذاكرتها، وقصر من يفترض فيهم تمثيلنا، منذ الاستقلال، عن إعادتنا إليها او استقدامها الينا.
تعرفون، كما أعرف، ان أبناء جيلي قد حفروا الصخر بنور عيونهم حتى أمكنهم ان يكملوا تعليمهم، وان يفرضوا وجودهم بكفاءتهم واجتهادهم، فلم يكن من معين الا اجتهادنا ومثابرتنا وعنادنا على اختراق المستحيل.
والحمد لله ان قد صار في شمسطار ثانوية رسمية يسهر على نجاحها المتميز مدير فيه الكثير من دأب السيد جعفر ومن إخلاصه لرسالته، يشاركه في الجهد من اجل التفوق كوكبة من الأساتذة حملة شهادات التخصص، والاهم: حملة الأمانة التي تتجلى تفوقاً لتلامذتهم الذين نعقد عليهم الآمال العراض في اصطناع مستقبل أفضل، برغم أنف كل الذين يريدون ان نبقى في وهدة التخلف والعوز الى ابد الآبدين.
وأصارحكم أنني وأنا أتسلم الجائزة من الشيخ محمد بن راشد المكتوم، ثم أحظى بالتكريم الذي فاضت رسائله وبرقياته ومهاتفاته عن أي تقدير، قد شعرت بالرضا عن النفس: لقد نجحت في رد الاعتبار الى أهلي هنا وفي المنطقة.
فبين أسباب اندفاعي الى مهنة الصحافة، وربما الى النجاح فيها، هو ذلك التحدي المفتوح الذي كنت أستشعره وأنا أعبر ساحة البرج، في الخمسينيات، فأسمع باعة صحف الظهر يصيحون وهم يحملون الوريقات ذات العناوين الصاخبة بالأحمر: صورة اللي قتل أخته في بعلبك! صورة اللي قتل أخاه في بعلبك!
كنت أستشعر قدراً من الإهانة، فأخبار منطقتنا تقتصر على الجرائم ثأراً وانتقاماً او مقاومة للقانون، او اتجاراً بالمخدرات … قبل ان يضاف اليها تجارة حواجز سلب السيارات لإعادة بيعها من أصحابها!
وأفترض ان انغماسي في العمل حتى الإرهاق، الذي وفر لي فرصة التقدم محرراً فمديراً للتحرير ثم رئيساً للتحرير، قبل ان يوفقني الله الى إنشاء «السفير» التي بدأت أولى وما زالت الأولى بين الصحف العريقة والعديدة، كان يعبر ليس عن الإصرار على إثبات الذات بل على تأكيد الجدارة عند أبناء هذه المنطقة، وشمسطار منها في القلب، لصنع الغد الأفضل، متى أتيحت لهم الفرصة وانفتحت أمامهم أبواب التحدي لتأكيد الأهلية.
إن ما حققته من نجاح، وما حققه أبناء جيلي، وبالذات منهم قاضينا الأستاذ اسعد دياب (أعانه الله على مهمته الجديدة التي سيكون ممنوعاً على المجلس الدستوري أن يمارسها) هو إضافة الى رصيد شمسطار وبلاد بعلبك عموماً، التي صار كثيرون يتباهون الآن بأنهم يعرفونها عبر بعض أهلها النجباء الذين أكدوا قدرتهم على اختراق المستحيل وتحقيق طموحاتهم بكفاءاتهم.
وأما الذين اقتحموا الحواجز من الضباط حتى بلغوا الرتب العليا، وأما من تقدم حتى صار رئيس المجلس الأعلى في الجمارك،
وأما الذين بدأوا من أول السلّم فانتسبوا الى قوى الأمن حتى يكملوا تعليمهم العالي فيصيروا من أساتذة الجامعة المجلين، ومعهم أولئك الذين تحدوا ذواتهم حتى بلغوا تخصصات مميزة، دفعوا ثمنها من خبز عائلاتهم.
وأما الذين تيسرت لهم الفرصة فسافروا وأكملوا تخصصاتهم ثم التفتوا الى إخوتهم وأبناء بلدتهم يساعدونهم، فصارت لنا أكثر من جالية من رجال الأعمال الناجحين في المغتربات الاميركية والأوروبية.
أما هؤلاء جميعاً فمثلي غالبوا فقرهم فغلبوه، وغالبوا ظروفهم القاسية فانتصروا ونجحوا.. واستحقوا التحية.
ان لكل من أهلي هنا نصيباً في الجائزة التي نلتها وفي التكريم الذي حظيت به من قبلها ومعها وبسببها: ألست واحداً منكم، وأنتم أهلي ومصدر اعتزازي بأيدي جدودنا وآبائنا التي شققها شرف التعب من اجل ان يكون لنا غد مختلف عن بؤس أيامهم.
شكراً لكم على هذا اللقاء الذي وفر لي الفرصة لكي أعبر لكم عن مدى اعتزازي بانتمائي اليكم والى هذه الأرض المباركة، رغم انها لم تعد تطعم أهلها بسبب الإهمال الرسمي الدائم،
شكراً لمن حضر وأعد ووفر عناصر النجاح لهذا اللقاء العائلي بكل اللافتات الناضحة طيبة وإخلاصاً، وهكذا تم دحض المثل القائل: لا يكرم صحافي في بلده.
(نص كلمة ألقيت في حفل تكريم أقيم في ثانوية شمسطار، لرجل العام الاعلامي ـ 2008)
مــن أقــوال نســمة
قال لي «نسـمة» الذي لم تعــرف له مهــنة إلا الــحب:
ـ تستطيع ان تحب كل الناس، لكنك تظل بحاجة إلى من يشعرك بالاكتمال.
لا يجدي ان تنطلق في الجهات الأربع بحثاً عنه.
في لحظة ما، في مكان ما، سيجدك، فتكتشف أنك قد وجدته في اللحظة عينها… وتعاود القصة سيرتها الأولى التي بدايتها مع بدء الخليقة.