ليلة إسرائيلية في بيروت العربية ..
أكمل الليل انتشاره، وأسدل جلاله الأسود على هدأة المدينة الصاخبة التي لم تألف النوم إلا قليلاً، وانطلق الأزواج المتأنقون الى حفلات العشاء في القرى الجبلية التي يصيِّرها الصيف مدنا للمتعة والفرجة وتوطيد أواصر »الأخوة العربية« و»الصداقة مع شعوب العالم« بعيدا عن بيروت وازدحامها وحرها اللزج.
كان المذيعون والمذيعات يطلون من الشاشات الصغيرة متضجرين، يرددون ببغائيا التصريحات الرسمية عن سيادة القانون وسلاح الموقف وعن برنامج التقشف الذي سيعيد الى البلاد ازدهارها وإلى الطبقة الوسطى اعتبارها،
أما الإذاعات فكانت تطلق سيول التفاؤل نتيجة للفوز الساحق لإيهود باراك في الانتخابات الإسرائيلية، ولبراعته الفائقة في المناورات الداخلية التي ستمكّنه من تشكيل حكومة جديدة تذهب مباشرة إلى طاولة المفاوضات للتوقيع على الانسحاب الفوري والشامل وغير المشروط من جميع الأراضي العربية المحتلة: الجنوب والبقاع الغربي في لبنان، الجولان في سوريا حتى حدود الرابع من حزيران، ومعظم الضفة الغربية وقطاع غزة في فلسطين، بما في ذلك الجسر المنوي تشييده لتقوم فوقه سيادة الدولة الفلسطينية.
وكان الناس يتبادلون اسم باتريك سيل وكأنه تعويذة: قرأت ما كتبه هذا الخبير المتخصص والذي لا يخطئ (مع غمزة من العين اليسرى)؟!
كل شيء كان هادئا… فالغمزة وعد بنهاية الحروب.
تسلل الهدير عميقاً عميقاً حتى طغى على كل ما عداه، والتقطت الآذان حسَنة التدريب الإنذار بالموت، وتلفت كل الى من حوله وما حوله، وساد في قلب الترقب التخمين حول الموقع المحتمل للضربة الإسرائيلية الجديدة.
عندما تفجّر الليل بالدوي وانتثر ظلامه فوق المدينة هتفت الحرقة بلسان الجميع: الكهرباء!!
قال بعض الذين كبروا في قلب الرعب: راحت الضاحية!! قطع الكهرباء تدبير وقائي. المؤكد أنهم ضربوا »قلعة المقاومة« في الضاحية الجنوبية.
لم تتأخر الأخبار، فالظلام عممها من قبل أن تعلن: محطة التحويل في الجمهور.
تهاوت البلادة، واندحر الخوف، واستعاد الشباب وعيهم فاندفعوا يتسابقون نحو »الجمهور« بغير طلب أو تكليف.
للغارة الأولى، دائما، ثانية وثالثة..
حاولنا أن نسلي أنفسنا باستعادة ليالي الموت الإسرائيلي التي طالما كنا ضحاياها المحتملين، في الماضي، والتي ما نجونا منها إلا بالمصادفة، لكن عقولنا وأفكارنا وآذاننا وأعصابنا كانت بعد مشدودة، متوفزة، وعيوننا تبحلق في السماء التي جللت حمرة الحريق سوادها فجعلته أقرب إلى جمر مطموس الوهج بالرماد الكثيف.
تجدد هدير الطيران القاتل للضوء والبشر والشجر وأسباب الحياة.
صرخت الصبية التي جاءت بها حماستها إلى الصحافة: لو أنني صاروخ!
تمتم الرجل الذي يشهر إيمانه بدمغة فوق جبينه: اللهم اجعل أذاهم خفيفاً! اللهم امنع عنهم رؤية أهدافهم..
لفّ الوجع الباقين فوجموا، وذهبت الأفكار خلف الزملاء الذين كانوا قصدوا »الجمهور« قبل أن ينتبه أحدهم إلى الهاتف الخلوي فزرع رأسه فيه، قبل صوته، ثم التفت إلينا يطمئننا بنبرة باكية: الحمد لله سلم الشباب، لكن القصف أوقع مذبحة برجال الإطفاء والدفاع المدني.. الضحايا كثيرون!
لا وقت للحزن. لا وقت لمزيد من الاستفسار. الكارثة أخبار وصور وعناوين وكتابات تشتمل على أدق التفاصيل والتوصيف حتى لكأن القارئ في المكان عينه يرى بعينيه ويسمع بأذنيه..
قبل انتصاف الليل ارتجت المدينة مجددا، وارتفع صراخ الأطفال وحمل الأثير اللعنات التي أطلقتها النسوة والأوامر المتناقضة والمرتبكة التي أصدرها الرجال للا أحد..
صارت المدينة أشبه بمقبرة، بعض بناياتها مفتوحة الأبواب والنوافذ على العتم والرعب، والبعض الآخر تنتصب أشباحا أسطورية لأهداف محتملة، فالصواريخ من بُعد توجَّه نحو أسباب الحياة ومواقع الأحياء.
قبيل الفجر دوى انفجار هائل جديد..
هتف زميل يطلق عليه تحبباً لقب »البوم«: دمرت محطة التحويل في بصاليم!
جاء البلاغ ينعى الكهرباء في بيروت وضواحيها، حتى إشعار آخر!
بعد ساعات، وحين صدر البلاغ الثاني بأن العاصمة وضواحيها ستنعم بساعتين من النور كل يوم، قال الرجل المؤمن: يا ألطاف الله!
مع الفجر تماما انحطمت الأشعة الأولى لشمس اليوم الجديد بدوي الاختراق الجديد لجدار الصوت على ارتفاع منخفض جدا..
لم يبق أحد فوق سريره. رماهم انفجار الهواء بعيدا ممزقا شعورهم بالأمان النسبي نهائيا.
أحس كل أنه، شخصياً، الهدف. أنه العدو الشخصي لهذا الطيار الإسرائيلي المستمتع بلعبته هذه: يستطيع أن يختار هدفه براحة تامة أن يصوب إليه بدل الصاروخ عشرة، أن يظل يضربه حتى يمحوه عن وجه الأرض. له الوقت والفضاء والاطمئنان، وللآخرين الذعر وتوقع الموت وافتقاد الملجأ الآمن.
لم يحدث في التاريخ ان تمتع طيارو الإغارات النهارية أو الليلية، بكل هذا الأمان!
عادت إلى ذاكرته »ترويدة« كان الرجال في قريته يطلقونها في مناسبات الفرح:
»يا طير يا اللي في السما
»يا يمى وايش بايدي عليه
»لا عنا خيل نطارده
»ولا الموزر يلحق عليه«!
لا شيء غير الاستكانة والدعاء والأمل المبهم في أن يتخطانا، أو في أن يخطئ الطيار التسديد فيصيب غيرنا.
يهبط الموت من الفضاء فيحصد ما شاء من البشر والبناء والشجر والهواء والمرافق ومصادر الرزق.
هي القدر: تميت من تشاء، تسمح بالحياة لمن تشاء، أو لمن تنقذه المصادفة العشوائية. لها السماء والأرض وما بينهما مساحة حرة.
لا ترد الدعوات الطائرات المغيرة، ولا تسقطها اللعنات.
»لا عنا خيل نطارده… ولا الموزر يلحق عليه«.
طرّز الرصاص الملون للمدافع المضادة للطائرات جنبات الفضاء الأغبر المشبع برائحة الموت. الصوت هنا أقوى بما لا يقاس من الفعل. تفجر العجز في الفضاء معولاً، معلنا قصوره وتهاويه دون الهدف المقصود.
ما أبعد القاصد عن المقصود. ما أبعد المرمى عن الرامي. ما أبعد القدرة عن العجز. ما أبعد السماء عن الأرض!
كانت ألسنة الحريق ما زالت تلوّن الفضاء بصفرة تجعله شاحبا كوجوهنا. يخترق الرصاص الملون الشحوب فيزركشه ولا يلغيه. يعلن حضورا لا جدوى منه غير زيادة الخوف: عليك أن تحتاط، فلهذه الرصاصة مدى محدود، تسقط بعده كتلتها باردة، فهي إن أصابت رأسك أردتك قتيلاً أو جرحتك..
صار للخوف مصدر جديد!
سحبت الطائرات المغيرة هديرها خلفها وهي تعود سالمة أدراجها إلى منطلقها في البعيد البعيد، تاركة الفضاء حراً لهذا الرصاص المعلن للعجز عن المواجهة على طريقة »فارس لفارس« أو طائرة لطائرة، أو صاروخ لطائرة…
المحطتان كتل من اللهب والحديد والنفط المحروق.
والجسور التي تربط الجنوب بالجنوب والجنوب ببيروت وبالجبال من حولها، قُصفت فتهاوت أنقاضا، وما كان فوقها من سيارات تهاوى في الحفر المحدثة وعدد الضحايا غير معروف.
والرصاص الخطاط ما زال يضفي لونه على الفضاء الأصفر المشوب بشحوب الموت والأسى.
لكأنه البُعد نفسه بين سمو القدرة ووهدة العجز.
لا يؤثر لون الرصاصة على الطائرة المغيرة ما دام يقصر عنها مداها وتقصر عنها قدرتها على التدمير.
نحن على الأرض، بانتظار أن تنفتح تحتنا قبوراً، والعدو يحتل الفضاء معلنا سيادته على الأرض والحياة والأحياء جميعا.
لنا من الأرض ما لا يطاله مدى الصاروخ. ما أضيق رقعة التنفس!
أما السماء فمحتلة من أقصاها إلى أقصاها، وعلينا أن ننتظر جلاء الطائرات ذات النجمة المسدسة حتى نلمح طيف النجوم والقمر، وحتى نستمتع بنور الشمس.
البعض على الأرض وليست له الأرض ما دام انه لا يستطيع أن يحفظها أو يحفظ نفسه فوقها، وليس له إلى الفضاء وصول…
والعدو في الفضاء، ومنه يطال جنبات الأرض جميعا ومَن وما عليها!
رحم الله الجدود. كان واحدهم يقول: »قاتل الله الضعف«.
للقوة السماء والأرض والقرار.
ليست حياة أن تعيش أو تموت بقرار عدوك!
أخطب. شقشق لسانك، صرّح. أعلن أنك المنتصر لأن إسرائيل لم تدمر كل الجسور وكل المحطات، ولأنك ما زلت تملك شمعة يعكس نورها الذابل صورتك على الجدار. تسلَّ بأنك ما زلت بين الأحياء.
لا تطلب لنفسك الموت. لكأنك بذلك تنده على العدو الإسرائيلي أن يجيء كرّة أخرى.
احفر عميقا لتتوارى، بعارك، حتى لا تطالك الغارة التالية.
تأخذك أحزانك إلى البعيد ثم تنتبه إلى زميلك يهتف بك: نحن الأقوى، لقد عاد التيار الكهربائي. أُصلح ما أمكن من الأعطال وسنحظى باثنتي عشرة ساعة من النور.
تلمح الفتية سمر الوجوه وهم ينصبون الحديد جسوراً مؤقتة وينجزون العمل في وقت قياسي.
تسمع أصوات الفلاحين في جبل عامل يقولون للمذيعة الذاهبة إليهم بعيدا عن الخوف: لو دمروا كل أسباب الحياة فسنبقى هنا ولن نرحل. نحن الأرض وأهلها. نحن الحياة وأبناؤها.
يطل عليك، من الذاكرة، كما من الشاشة الصغيرة فتية المقاومة الذين يكتبون صفحات من تاريخ الغد، ويجعلون دمهم راية وعلامة على اختراق ما كان مستحيلاً.
تعود إلى عملك بهمة.. واثقا من ان »اخوتك« لا بد سيأتون!
معنا دمع للبيع
على امتداد عشر سنوات ظل حسين الجسر يبيع الدمع، ولا مشتر، فلا ينفد الدمع ولا تتبدل الأحوال منهية عصر البكاء، فاضطر لأن يصدر طبعة ثانية من ديوانه الذي يُهدى ولا يُباع، لأنه لا يريد له أن »يظل مرصوفا على رفوف المكتبات يأكله الغبار، أو في المستودعات تنهشه الرطوبة«.
ليست مرثاة، تلك »المدمعة« التي علق فيها قلم حسين الجسر، فلم يعرف بعد ذلك كيف يغادرها، ربما لأن الأحوال التي أبكته في أواخر الثمانينيات لم تتغير بما يكفي ليخرج من أحزانه المنهكات إلى نهارات الفرح والأمل مع نهاية التسعينيات.
»معنا دمع للبيع ودمع للبيعة«
.. والبيعة تؤخذ ولا تعطى، في عصر الانكسار والهوان، وأبو الحرية عمر بن الخطاب يُقتل بسكين العبد مجدداً كل يوم، وعلي بن أبي طالب يُقتل باسم الدين على باب الله كل ساعة.. »فنحن ورثنا حضارة ولم نكن يوما حضاريين. قلة متغلبة، متخمة حتى النخاع تبذخ أمام أكثرية تلهث وراء رغيفها أو تموت من الجوع والمرض. لأجل ذلك نحن في حزن دائم، وفي بكاء دائم«.
»هذا لهب/ يصحب أمه من ربع قريش/ كي ترتاح على الشاطئ/ في بيروت/ تحمل أحطاب الأرز وترمي/ حول الجيد حبالاً ذهبية (…) لا تنزل دمعة عين أم لهب/ فالدمعة تفسد كحل العين.«.
وحسين الجسر ليس يائسا، لعله إلى الغضب أقرب، لكنه يريد الذهاب من الغضب الى ما هو أبعد، يريد لنيران الغضب أن تشعل الأرض ليتوقف الدعاء للسلطان وهو ميت، لكن الدمع يطفئ النار ويُستبقى شبح السلطان قيداً فوق اليد تكبلها وتمنعها من الحركة:
»لا أحني رأسي فالإحناءة خبث يحمل حقدا
»لا أرضى أن أتساوى في السر مع الأزلام وقطعان الغنم
»فدمي ينكرني، وأنا من عرق الفرسان«
لكن حسين الجسر الذي حط على كتفيه صقر قد تعلّم منه أن العمر بداءات السفر، وألا يعشق من كل حطام الدنيا إلا رائحة الكبر..
ربما يترك لغيره أن يبيع دمعه، بينما هو يحث الخطى على طريق يبكي فيها الملوك بدلا من أن يبكي »رعاياهم«.
تهويمات
* علاقتنا بتراء. لا أجنحة لي لأحلّق فأصل إليك في فضائك الفارغ إلا منك، ولا أقدام لك تحملك إليّ في ركني المزدحم بالكتب والأفكار المطوية والدخان الكثيف والأحلام التي توشك أن تتفتح فتصير بيوتا لأطفال الحياة الجديدة.
لا يعار الجناح.
ولا تؤجر الأحلام.
موعدنا معلق دائماً بين خفق جناح ورفة حلم ينحطم إذا ما ارتفع بأكثر من مدى الذراع، وينكسر إذا ما عجز الحب عن رفعه حتى لا يرتطم برصيف الخيبة.
يذهب الحب الى الأصحاء، الحالمين وعيونهم مفتوحة.
* أما وقد انسحبت مبكراً فلماذا نسيت عندي كل أدوات التعذيب: عينيك وبعض أنفاسك ورائحة جسدك وذلك الوعد المضمر بأنك قد اخترتني سكناً؟!
… ولست أعرف عنوانا لأرد إليك أشياءك.
لو عرفته لاستكملت ما ينقصني منك.
عنواننا الاكتمال.
* أغويتني حتى علّمتني القراءة،
عذابك أبسط! أما عذابي فمفتوح يستولد الكلمات معاني لم تكن لها.
متى يكون لنا بيت خارج اللغة؟!
.. ولكنك بيتي، أدخلك من لغتي فلا أضيع.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
يتسع حبنا للناس جميعا. يتسع حتى للحاسد والحقود. بئس حب لا يتسع إلا لاثنين. وبئس حب لا ينجح في المسح بيده على الحاسد والحاقد، فإذا هو قد شفي واستعاد علاقته صحيحة بالحياة. الحب يعدي صحة. اللهم امنح الصحة لكل الناس، ليعظم حبنا فيكفينا.