الكونغرس يحاكم جيشه: لماذا لم تقتلوا العراق بعد؟!
انه العصر الأميركي .. فمن يجرؤ، بعد، على استذكار الحضارة الإنسانية والإبداع شعراً ونثراً، تصويراً ورسماً، مسرحاً وسينما، غناء وموسيقى واستمتاعاً بنعمة الحياة في ظلال إنجازات العقل في مجالات العلوم كافة، الطب والهندسة والفضاء والاتصالات والمواصلات، التي تؤكد في الإنسان جدارته بتوفير شروط لعيشه تليق بقدراته الفكرية؟!
انه العصر الأميركي .. حيث لا مساحة في هذا الكوكب للشعوب، أي للإنسان! أي للحب والعشق وهمسات النجوى والرسائل المكتوبة بالدمع على ورق الورد،
لكأنما انتهى زمن الشعوب والرايات الخفاقة للنضال من أجل الاستقلال مع الكرامة، والشعارات البراقة للتحرر، والهتافات المدوية بطلب الحق في حياة كريمة، والأغاني التي تفيض حباً للأرض والحرية وكرامة الإنسان!
كان الاستعمار القديم يموه نفسه وأغراضه بالادعاء أنه انما تطوع وقبل تكليف المجتمع الدولي أي الدول الأكثر تقدماً والتي كانت تتقاسم أقطار العالم القديم لمهمة نبيلة!! هي تحضير الشعوب التي حكم عليها زمانها بالخضوع لقوة احتلال مختلفة هزمها مستعمرون جدد فتقاسموها تحت مسمى انتداب مؤقت للأخذ بيدها إلى غد الدولة في ظلال الديموقراطية وحقوق الإنسان.
أما العصر الأميركي فمختلف جداً: لا يحتاج الاحتلال بالقوة العسكرية الى تبرير نفسه حتى لو قارب في فوضاه البناءة إبادة الشعب الذي يشاء له سوء حظه أن يختاره اليانكي هدفاً لتحضيره وتقديمه نموذجاً على نجاحه في بناء مجتمع الديموقراطية بالمواصفات الأميركية.
[ [ [
لأول مرة في التاريخ الإنساني يجلس المحتل بالقوة العسكرية المدمرة بلداً له شعبه وتاريخه العريق وإسهامه المميز في الحضارة الإنسانية ليناقش كفاءة جيشه في اجتثاث روح المقاومة وإبادة المقاومين واغتيال المعارضين وشراء المتعاونين.
لأول مرة تتجرأ قناتان فضائيتان عربيتان على نقل مباشر، مع ترجمة فورية للجلسات التي خصصها الكونغرس الأميركي لمناقشة تقرير قائد قوات الاحتلال الأميركي وتقرير المندوب السامي سفير هذا الاحتلال في أرض الرافدين.
والتقريران يقدمان الادلة والبراهين الحسية على كفاءة جيش الاحتلال في القتل الجماعي، أو عجزه عن منع النتائج الارتدادية للاحتلال والقتل، وبالمقابل على كفاءة المندوب السامي في شراء شيوخ العشائر وزعماء المصادفات السياسية كي يتولوا تغطية الجريمة الأميركية بالكوفية المرقطة!
جلس الجنرال بأوسمته الكثيرة والسفير بهندامه المتأنق، أمام أعضاء الكونغرس، جمهوريين وديموقراطيين، في جلسة نقاش حضاري تستخدم فيها كشواهد على الإنجاز: أعداد القتلى والجرحى والأحياء المدمرة في المدن والقرى المسورة بالكراهية والمساجد والحسينيات المنسوفة بالجهد الدؤوب لإطلاق نيران الفتنة في أربع رياح الأرض العراقية، سنية شيعية، عربية كردية، إسلامية مسيحية، كردية تركمانية يزيدية مسيحية إسلامية، لا يهم…
[ [ [
يتمثل الإنجاز، متى وجد، في تناقص عدد قتلى المجازر الجماعية، متى وجد.
أما تزايد أعداد الجثث المجهولة المرمية في العراء، تنهشها الكلاب الضالة، فهو شهادة ضد الشعب العراقي الدموي بطبيعته .
لا يهم أن يكون ربع الشعب العراقي قد بات مهجراً، سواء داخل وطنه، أو في الخارج القريب (سوريا والاردن) والبعيد (أي دولة تمنح تأشيرة دخول أو يمكن للاجئ غير شرعي أن يدخلها بتأشيرة مزورة..)
لا يهم عدد الجامعات التي أقفلت، وأعداد الأساتذة والأكاديميين الذين رحلوا حتى لا تلتهمهم نيران الفتنة والقتل بالقصد حتى لا ينشأ في العراق الجديد من يعرف القراءة والكتابة!
لا يهم عدد الطلاب الذين فقدوا حقهم في أن يكون لهم غد.. وعدد التلامذة الذين يحجر عليهم أهلهم حتى لا يقتلوا بهم..
لا تهم أعداد الجامعات والمعاهد والمدارس التي دمرت أو تم تحويلها الى ثكنات، فأمن الاحتلال يتقدم على كل ما عداه!
لا تهم أعداد المستشفيات التي هجرها أطباؤها والممرضون والممرضات وتكدست في جنباتها أعداد هائلة من الجرحى الذين لا يجدون، إلا في النادر، من يعتني بهم أو يحاول التخفيف من آلام انتظارهم الموت..
هذه تفاصيل لا تهم رجال الكونغرس وسيداته المتأنقات كأنهن ذاهبات الى كوكتيل أو عرس أو حفل الاحتفال بالنصر..
كان الجميع يناقشون جنرال الاحتلال ومندوبه السامي برصانة واحترام متبادل، تماماً كأي شركاء في الجريمة: يحاول كل طرف أن يرمي غيره بتهمة الإخفاق في تنفيذها بحيث تكون كاملة ، لا شهود عليها، ولا خسائر فيها.
لم يكن عراق الخمسة وعشرين مليوناً من البشر (قبل الاحتلال) حاضراً إلا كميدان رمايات وحقول نفط تدر أرباحاً خيالية..
لم يأت أحد على ذكر العرب وعلاقتهم بما يحدث لعاصمة الرشيد ودولة خلافته التي كانت الغيوم ستمطر فوقها كيفما كانت اتجاهات الريح…
[ [ [
ولان هارون الرشيد شخص غير مرغوب فيه فمن الطبيعي ألا يكون ثمة مكان للأمين والمأمون والمعتصم، ولا للفرزدق وجرير وبشار بن برد، ولا للمتنبي وأبي العلاء المعري، ولا للمدارس التي خرّجت العلماء والأطباء والفلكيين والمهندسين فضلاً عن الفلاسفة الذين لم يسمع بأسمائهم أعضاء الكونغرس، وليس من مصلحة قائد جيوش الاحتلال أو مندوبه السامي أن يستذكراهم أو يستشهدا بهم، أقله من أجل أن يظهرا فخامة إنجازهما الحضاري الهائل: فمن يدمر المتحف الوطني في بغداد ويتسبب في إحراق المكتبات بالكتب والمؤلفات النادرة فيها لن يكون معنيا بأن يكشف مدى حقارته وتخلفه قياساً الى الشعب الذي قهره بقوة من ورثه من الطغيان فضلاً عن قوته العسكرية التي حاولت أن تبرر اجتياحها بأكاذيب افتضح أمرها لحظة النطق بها في مجلس الأمن.
ما يهم أن يكون جيش الاحتلال قد قتل دواوين الشعر والمؤلفات في الفلسفة والهندسة والأدب والروايات وكتب الرحالة وترجمات فلاسفة الاغريق، مرة ثانية؟!
ما يهم أن يكون جيش الاحتلال قد رمى الكتب جميعاً مرة اخرى في دجلة، ومعها أهالي بغداد، وأن يكون قد جعل الأخ قاتل أخيه، وجوّع الحرائر من النساء فأجبرهن أن يأكلن بنهودهن؟!
أعضاء الكونغرس ليسوا مغرمين بالتاريخ. انهم بلا ماض. انهم اصحاب القوة المؤهلة لإعادة صياغة مستقبل الإنسانية بحيث تكون بلادهم القوة الوحيدة المهيمنة على العالم! أين موقع الشعر بمعلقاته من هذا؟ أين موقع الأدب وعلم الكلام من هذه القدرة الجبارة التي تستطيع إعادة صياغة الكون، بما يحقق للكاوبوي الأميركي ان يسيطر عليه جميعاً، وبالقوة؟
[ [ [
ما يهم أعضاء الكونغرس هو أعداد القتلى من منتسبي جيوشهم: لا يهم انهم لم يصبحوا بأكثريتهم أميركيين بعد، وان معظمهم يحمل البطاقة الخضراء ، المهم انهم يخدمون مصالح الهيمنة الاميركية، وطالما انهم لم يحققوها بالكامل فلا بد من مراجعة الخطط!
لا يهم كم قتل جنودهم، وكم شردوا من أهالي العراق.
لا يهم عدد الأيتام والأرامل والجرحى الذين لا أمل لهم في الشفاء، ولا أعداد المعاقين..
لا يهم ان شعبا بكامله كان الاغنى بين شعوب الأرض غدا مجوعاً، محقراً، مهاناً، يعيش من خوف القتل في موت: أفقد وحدته، وأفقد دولته، واغتيل حاضره امام عينيه، ويجري اغتيال مستقبله في وطنه ثم يتهم هو بالجريمة ويحاسب عليها.
[ [ [
ذلك كله لا يهم الكونغرس: يهمه ان ينجح الاحتلال، وبأقل كلفة ممكنة! وان عهد للهيمنة المطلقة على كامل هذه المنطقة القلقة المقلقة: الشرق الأوسط الذي كان جديداً فصيرته كوندي كبيراً.
ما يهم الكونغرس هو أمن اسرائيل والى أي حد وفر الاحتلال الاميركي للعراق مزيداً من أسباب الأمن والاطمئنان لإسرائيل.
فمن مهمات الاحتلال ان يشرذم العرب، وان يشغل كل دولة بنفسها، وان يزرع المزيد من أسباب الخلاف بين هذه الدول، بحيث تسعى كل منها الى توفير سلامتها ولو على حساب سلامة الآخرين، كل الآخرين، وفي البداية منها: فلسطين! تقدم لإسرائيل في فلسطين لتأخذ من الإدارة الاميركية ما يطمئنها على عروش الجلالة والسمو والعظمة.
وها هو الحلم الأميركي يتحقق: بدلاً من العروبة وطموحات أهلها الى الحرية والديموقراطية والوحدة في ظلال دول لكل مواطنيها، ها هي الاصوليات والسلفيات والهمجيات التي ترفع الشعار الديني تكتسح المنطقة برمتها لتتنافس مع الاحتلال الاجنبي في القدرة على القتل حتى حدود الإبادة!
… وها هو أسامة بن لادن يطل لينافس أعضاء الكونغرس في الجماهيرية: انه شريكهم النقيض انه حليفهم من موقع الخصم. هو المبرر والذريعة، وهم بمنطقهم الامبريالي المتحضر علة وجوده… وكل من الطرفين الشريكين حريص على وجود توأمه، فإن سقط الاول سقط الثاني بالضرورة.
ألا يصلح أسامة بن لادن رئيساً للولايات المتحدة الاميركية: ألا يصلح من يعتبر نفسه ممثل الارادة الالهية على الأرض بديلاً من محادث الله ومحاوره اليومي جورج د. بوش؟!
انه رمضان… ولا حول ولا قوة إلا بالله. والحمد لله من قبل ومن بعد.
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب عابر للزمان والمسافات وأسوار الدول، انه أرقّ من ان يضبط واقوى من ان يكسر وأشف من ان يعتقل.
المحبون هم اعظم المؤمنين بقلوبهم التي لا يدخلها الشر أو الكراهية أو الظلم.
أي قلعة محصنة تصمد أمام آه تربط بين حبيبين؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان