… وحين تلاقينا هذه السنة في الموعد الثابت الذي كان اختاره تريم عمران فرصة لحوار مفتوح بين المشغولين بهموم العروبة ومحنها، لم يكن لدى أي منا الكثير يخبره للآخرين عن أحوال بلده.
كانت صورة تريم عمران الذي رحل عنّا بعدما أرسى دعائم قلعة عربية هي جريدة الخليج التي تصدر من الشارقة لكل الوطن العربي.
طرح بعضنا على البعض الآخر أسئلة أجوبة من نوع: الأحوال أسوأ، أليس كذلك؟
واحترنا من أين نبدأ: من فلسطين المهددة بالحرب الأهلية، أو من العراق الذي تنهكه مقدمات الحرب الأهلية، أو من لبنان المهدد بأن تمتد إليه ألسنة النيران التي تؤججها الإدارة الأميركية لتحقيق مشروعها الشرق الأوسط الكبير باعتماد سياسة الفوضى الخلاقة التي تُسقط عن هذه الأمة هويتها الأصلية وتجعلها مجرد مدى جغرافي مفتوح للمصالح الأميركية الإسرائيلية المشتركة.
فأما مصر فأخبار تهالك الدولة فيها وتهاوي المؤسسات ذات الرصيد التاريخي المحترم، كالقضاء، تحت ضغط اصحاب النفوذ الجديد من حرامية المال العام ومعهم رجال الأعمال الذين ينبتون كالفطر فيصيرون دببة مترهلين بما ينهبونه تحت رعاية السلطة و الصديق الأميركي الكبير ، وباعتماد أحدث أساليب النصب والسرقة العلنية والتزوير المكشوف..
وأما سوريا فغائبة عن السمع، إلا حين يتصل الأمر ببعض المعارضين الذين يرفعون شعار الديموقراطية وحرية الرأي وضرورة اصلاح النظام وتوسيع قاعدته بالوطنيين الذين جهروا وما زالوا يجهرون باستعدادهم للقتال مع النظام ضد مشروع الاجتياح الأميركي للمنطقة..
وأما المغرب فقد غدا في أقصى الأرض، ولم تنفع في تقريبه البعثة العربية ممثلة بالمؤتمر القومي الذي شاخت فكرته بعدما تخطاها الزمن الأميركي بتداعياته الهائلة على الأرض العربية وناسها.
كان الموضوع الذي اختير محوراً لندوة هذا العام الاصلاح .. وتقاسم المنتدون جوانبه كافة، سواء بطبعته الأميركية المنقحة والمزيدة، أم بطبعاته القديمة التي حملت ذات يوم ارهاصات بأفكار ثورية حول إحياء الأمة ورسم طريقها إلى مستقبلها الأفضل في الوحدة.
كانت الاحلام تتهاوى في الخلف ليهال عليها التراب في مقبرة الماضي، أما الآمال الجديدة فيرطن المبشرون بها بالإنكليزية، ويرى قدامى التقدميين أنفسهم قد تخلفوا عن الركب فيحاول بعضهم تقديم طلبات انتساب جديدة، بينما يستنكف بعض آخر عن الكلام هارباً إلى يأسه يعتصم به صامتاً حتى لا يؤخذ بجريرة عدائه للعصر.
لم تخل الأوراق المقدمة من الجدية ومن الاخلاص في البحث عن الطريق، لكن الوقائع السياسية الثقيلة الوطأة بنتائجها وانعكاساتها، كانت تجعل الكلام غير ذي موضوع: فما معنى الحديث عن الاصلاح، في فلسطين مثلاً وهي مهددة في وجودها، لا أرضها موحدة ولا هي تتسع لشعبها، ولا رئاستها تقبل بحكومتها، ولا حكومتها مستعدة للتسليم بالاحتلال الإسرائيلي من دون قيد أو شرط، ثم ان صناديقها خاوية ليس فيها ما تدفع منه رواتب جيش الموظفين، وشريان حياتها في يد إسرائيل تقطعه حين تشاء وهي قد قطعت فعلاً مواد التموين والبنزين وسائر المحروقات وحجزت المبالغ التي تقتطعها لحساب السلطة… الخ.
كيف يكون الاصلاح مع الجوع المفروض بقرار دولي على شعب بكامله لأنه تجرأ فصدق انه حر في اختيار النواب في المجلس التشريعي… لكن شهادة الديموقراطية التي نالها عملياً حرمته، بالمقابل، من رغيف الخبز، فضلاً عن الحرية، بينما وسعت هامش حرية القتل أمام عدوه الإسرائيلي؟
مع ذلك فقد وجد بين الفلسطينيين من يتحدث بلغة الأمل عن الاصلاح، وعن موقع الاصلاح في بناء السلطة الجديدة… بينما السلطة الفلسطينية ولدت مرتهنة فان هي حررت نفسها سقطت شهيدة؟!
أما العراق فقد تبدى حديث البعض عن الاصلاح فيه كأنه ترويج للاحتلال والمؤسسات التي ينشئها بحرابه لاثبات ديموقراطيته، ثم يضربها بالفتنة ليؤكد للعراقيين الحاجة الدائمة إلى استمرار وجوده لحماية حريتهم بحراب استعماره.
في الخارج، وغير بعيد، تنتصب أبراج دبي اعلاناً عن نجاح التجارب الغربية في التطوير والبناء والاستثمار فوق الأرض العربية.
وفي الصحف اعلانات ضخمة وبالألوان عن مؤلف جديد لصاحب التجربة التي أذهلت الدنيا في تحويل الرمل إلى ذهب، الشيخ محمد بن راشد المكتوم، الذي تبين انه بات الآن بين أصحاب النظريات الاقتصادية بشهادة نجاح تجربته في استنبات ناطحات السحاب في قلب الرمل كما في قلب البحر.
والمعلوم معلوم، أما المكتوم فهو سر الاصلاح والبناء المعجز!
أمينة غصن تتقلب على أريكة الخوارج!
ليس ترفاً، وليس قرفاً. ليس استعراضاً لثقافة باد عالمها وما بادت دلالاتها. ليس ابتداعاً لمذهب فلسفي جديد وليس تقديساً لمذاهب أنشأتها الخرافة ولم يقتلها اليقين. ليس تمجيداً للبطولات القاتلة للعقل في حين ان الجنون هو أولى بالتمجيد. ليس للتباهي بالعلم في مقابل المتباهين بجهلهم..
إنما هي نزهة فكرية بين الشك والشك بحثاً عن اليقين الذي هو في نهاية الأمر ترف لا يحتاج اليه المجنون الذي يعرف أكثر من أصحاب العقول جميعاً، ثم انه يفهم بقلبه وان عجز لسانه عن محاكاة الفلاسفة الذين يتعاملون معه كوسيلة ايضاح.
تذكر د. أمينة غصن كفاصل بين القسمين من كتابها تداعيات أريكة وسرير بعض المراجع التي أخذت عنها أو منها للمصداقية وما تبقى للفضوليين .
والكتاب الطريف بموضوعه الفلسفي الوجودي الصوفي الذي يحمل عنواناً من الطبيعة نفسها يمثل رحلة بين العقائد والأديان والخرافات وآيات الكفر والشكوك التي تبدأ من نفي اليقين وتنتهي إلى التيقن من نفي النفي، اختارت أمينة غصن له بطلاً خارقاً في عقلانيته المتوهمة إلى حد الجنون: الفارس الحزين الطلعة الذي ظن انه يمكنه ان يمنع الموت عن الاحياء والجنون عن العقلاء والشر عن الاتقياء.. دون كيشوت، الفارس الحزين الطلعة الذي صار مرآة ليس لها قفا، وإذ ذاك صار أماما لا وراء له.
قال المجنون لدون كيشوت: ليس لحقيقة مقاسي حذاء. فأجابه دون كيشوت: وقعت في طواحين الهواء على جبابرة بغير أحذية .
بهذه الكلمات تقدم أمينة غصن الأستاذة الجامعية التي تحتقر في المرأة انكسارها وتستهين بالرجل الذي يرى رجولته في الانتصار على المرأة. وتبحث في الاثنين عن العقل، وتهرب من البساطة إلى الفلسفة وتريد المحسوس في المجرد لكتابها الذي يشمل كتّاباً كثيرين ويستعيد شعراء وفلاسفة فيعيد تنظيمهم في نسق واحد كي ينفض اليد من الايمان ويذهب مع الشك إلى مثوى العقل ليتحداه فيقتله أو يقتله.
ولما صار المجنون برفقة زرادشت كمن يركض في اكفانه إذ احيا له الصلاة وحرم الفناء. احس المجنون برعب كبير إذ بدأت الغيوب كمسرح للطرائد، تأتي إليه وتدخل فيه وتقفل في وجهه أبواب التاريخ مسرحاً للدمى فيسافر في وجهه، هرباً من غيوب التاريخ، ويطمئن إلى انه وحيد في عيد مراراته وفي تعبه الأثير.
… أما دون كيشوت، الذي قضى عمره متعطلاً كسولاً إلا من تسلية وحيدة هي قراءة كتب الفروسية ومغامرات الأبطال، فقصته كما يقول سرفانتس ترجمة لحياة بطل عربي ينسب تأليفها لسيد حامد بن النجيلي الذي سيطرت عليه فكرة القومية فجعل من نفسه فارساً يهب حياته للرب والوطن كما فعل الفرسان في عهود الصليبيين.
والكتاب الطريف الذي تضيع في جنبات اقتباساته الفلسفية واستعراضاته لأهل المجون الذين اخذتهم عقولهم الى الكفر بالاديان ورفع الانسان بعقله الى فوق الفوق، يكاد يكون ثبتا بكل اولئك الشجعان الذين نقضوا بالعقل اليقين.
وتذكر المجنون تلبيس ابليس على النصارى حتى قالوا ان الله جوهر واحد بثلاثة اقانيم . وقال بعضهم: الاقانيم هي الخواص. وقال آخرون: هي الصفات. وتعجب المجنون من امر الاقانيم الثلاثة كونها صفات ثلاث لا غير، وراح يسأل نفسه: اذا كانت الصفات الحسنى تسعاً وتسعين صفة افلا يجوز ان تكون الاقانيم ثلاثة؟!
امينة غصن لا تستعرض في كتابها تداعيات كنبة وسرير كثقافتها . انها تقوم برحلة في غياهب اليقين وصولا الى ثوابت الشك.
ولست اعرف بالضبط هل الشك هو الكنبة ام اليقين هو السرير، لكنني اعرف ان المسكون بالقلق هو الذي يهرب من السرير الى الكنبة ثم يعود الى السرير طلبا للنوم في احضان يقين الشك او شك اليقين.
المنتقمة من ذاتها بالرجال
لا حاجة للتسلل. الرغبة مشاع مفتوح، والهاتف شاهد أعمى ويمكن ان تأمره بالخرس فيخرس، والحريات الشخصية محترمة. فلماذا الاضطراب؟
تدخل متخففة من كل هواجسك التي تقدمتك وما زالت تحيط بك وتجعلك الموضوع لا البطل.
تدخل خفيفة محمولة على جناح المغامرة التي كان ينقصها الشريك. ليست آتية اليك بل الى انوثتها. انها تريد ان تهدم هذا السد الذي اقامه منصبها بينها وبينها. لا تريد ان تظل مجلببة بثوب الأهمية والخطورة. تريد من يكسر الهالة التي احاطها بها الآخرون. تريد من يأمرها، ولا يقف متأدبا في انتظار امرها. تريد ان تفرح. تريد ان ترقص. تريد ان تثبت لنفسها انها مرغوبة. تريد ان تكون لها مغامراتها التي تشابه ما تسمع او ما تعرف ولو بالتجسس عن زميلاتها. تريد ان تستمتع بأنوثتها وهي تقرأها في عيون من يطلبها لنفسه. تريد ان تنتشي بالموسيقى حتى الرقص. ان تسمع اغنية تحبها فتدندن مع مطربها. تريد ان تتحسس جسدها يدا رجل. ان تداعبها بكليّتها وبتفاصيلها: ان تثيرها حتى تذوب وتذيب رجلها. تموت لترى رجلا يذوب بين يديها.
تريد ان تسمع لهاثها بأذنيها.
تريد ان تسمع صمت ما بعد الارتواء.
تريد ان يزهر في عينيها الانتصار على الخوف من الذات. ها قد انتصرت الذات على ذاتها.
ولكن أين هو؟ هل ذاب فاختفى؟ هل يأخذه الشعور بالزهو بانه قد اقتحم القلعة التي لم يعرف احد بابها، بل لم يعرف اذا كان أحد قد نجح فعلاً في احتلالها.
كان يقف عند النافذة هادئاً كصفحة البحر الذي يواجهه.
قالت: لماذا لا تنظرني؟
قال: انما افكر كيف اسدد لك هذا الدين؟ لقد عرفتني الى نوع جديد من النساء. انك تريدين الانتقام من نفسك بالرجال. ولن أدعك تستمتعين بهذا النصر… سأتزوج بك!
وقهقهت بصوت كالزئير، ثم قامت الى الهاتف تطلب من صديق لها ان يحضر بصحبة شاهدين ورجل دين!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
اذا جاءك حبيبك فأعطه اجمل ما فيك..
اياك ان تهمل نفسك بذريعة ان حبيبك لن يهتم..
سيغضب حبيبك غضبا شديدا، وسيشعر بالخذلان: فإهمالك نفسك إهمال له… ولن ينفع اي عذر في تأكيد الحب الذي تركته يرتجف في عراء البرد والاطمئنان الى الغفران!