سهرة أرفع من الدبلوماسية في بيت سفير!
?أن يدعوك سفير الى حفل استقبال، او الى غداء او عشاء على شرف زائر ضيف من كبار المسؤولين في بلاده، فهذا مألوف، أما ان تكون الدعوة إلى لقاء مع الشعر في مطلع كل شهر فهذا حدث يستحق التنويه.
في الطريق الى بيت السفير السعودي في بيروت عبد العزيز الخوجة، كنت أفكر في هذا الدبلوماسي بالإكراه، الذي لو ترك الأمر له لأمضى حياته يسعى الى منابع الشعر ليغب منها تجارب سرعان ما تتقطر امرأة امرأة وتجربة تجربة حتى تملأ دواوين تفحّ عطراً وأنوثة، رغبة وصداً، تلاقيا في غيهب الاماني وهجراً يأخذ الى اللوعة.
في صالة الاستقبال المقسمة اركاناً بحسب طبيعة الزوار، كانت تتوزع مجموعة من الشعراء تفصل بينهم مجموعة من الغاوين، اما السفير فينشر دماثته كمقدمة للجلسة الاولى التي ستغدو تقليداً شهرياً.
كنت قد دُعيت بالمصادفة، في زيارة قصيرة الى جدة، منذ سنوات، الى ثالوث في بيت الاديب السعودي محمد سعيد الطيب، وهناك سمعت عن الربوع ، اي جلسة ادبية في بيت شاعر آخر… وفهمت ان بعض الأدباء وضمنهم طبعا الشعراء يتواعدون على التلاقي، ويتوزعون أيام الاسبوع، فتكون جلسات مضمخة بالشعر يقرأ فيها بعض الأدباء والكتّاب نصوصاً، او يتناقشون حول كتب جديدة، او ربما حول نصوص نقدية لروايات او لدواوين شعر…
إذاً، فعبد العزيز الخوجة يريد ان ينقل هذا التقليد الطيب الى بيروت فيجمع في دارته كل شهر ذلك النفر من الصعاليك الذين لا يجدون مقراً او مستقراً، كي يتباروا في إطراب جمهور صغير من الذواقة المفترضين، فإذا طعموا انتشروا، وقد صار كل اعرف بالآخر مما كان.
لم يتسن لي ان احضر الأمسية كلها، وان كنت قد استمعت فاستمتعت بقراءة لبعض قصائد شاعرة رقيقة لم اكن اعرفها هي هدى ميقاتي.
قبلها كنا قد سعدنا بالاستماع الى صوتين ضيفين من المغرب يغنيان القصيدة فتتدفق نهراً من نشوة.
غنت كريمة الصقلي، بداية، من دون موسيقى، بعض الأغاني الصعبة الاداء لاسمهان. انبثقت الكلمات بلحنها الاصلي وغنَّتها المنشية كما ينبجس الماء من قلب الصخر سلسبيلاً ينشر الرواء.
ثم جاء العود فصاحبها الفنان نعمان كحلو وهي تغني قصيدة للدكتور الملوع بالحب عبد العزيز محيي الدين الخوجة.
بعدها غنى نعمان قصيدة اخرى بركانية التفجر بالهجر للسفير الشاعر… ثم قصيدة ثالثة طريفة بموضوعها غنية بصورها عن حبيبين التقيا بعد فراق، فإذا الجذوة قد انطفأت وصار الحب ذكريات لا يمكن بث الروح فيها. شيء في صدر كل منهما قد بات رماداً فصار لقاء الغرباء أثقل من ان يطيقا الاستمرار فيه، وحين افترقا كان كل منهما يمشي على بعض منه وقد صار عبئاً يود التخلص منه ليرتاح.
كانت فرصة لاكتشاف الشاعر في صورته الكاملة، بعدما اضاف اللحن القارئ والصوت ناقل الاحساس الذي يصعب ان تقوله الكلمات مباشرة، الى القصيدة، كل شخوصها ومناخها، من الهمس واللمس الى التنهدات، ومن الذوبان رقة الى عصف غضب الخيبة او الهجر او سقوط التمني.
لقد اعطى التلاقي بين فناني المغرب الأقصى والشاعر الآتي من المدينة المنورة، ثاني مراكز انطلاق الدعوة وعنوان تحولها الى مجتمع نموذجي يصلح قاعدة لدولة الاسلام الذي أنزل قرآنه عربياً، توكيداً جديداً على وحدة المشاعر، وحدة التذوق، وحدة الوجدان، وبالتالي وحدة اللغة التي تجبّ كل العاميات العربية، وإن لم تلغها.
متى ترتفع الدبلوماسية العربية الى مستوى الشعر؟
غاب القاضي : يمكنني الحديث عن أديب علام
اليوم، وقد غاب عنا بجسده، استطيع الادعاء انني كنت صديقا لأديب علام، أما وهو حي فقد كنت اخافه إن أنا ادعيت صداقته، ذلك انه ضنين باظهار الود حتى لأقرب الاصدقاء، متحفظ عن إشهار حبه حتى لأعز الناس.
كان القاضي هو الحاضر دائما لا سيما في عواطفه، حتى ليأخذك الظن انه لم يبك لحظة ولادته، كي لا يؤخذ عليه ضعف لا يجوز ان يصيب القضاة.
ربما لهذا كان أهل بلاد بعلبك يتهمونه بأنه منحاز الى اهالي بلاد جبيل، بينما اهالي بلاد جبيل يأخذون عليه انه ظل مرتبطا ببلاد بعلبك حتى النفس الاخير… وكادوا يتهمون القاضي بالافتئات عليهم لانه اختار ارضهم مهجعا لنفسه التي عادت الى بارئها راضية مرضية، هو الذي اعطاهم في حياته الكثير من اهتمامه ورعايته بحيث كاد البعلبكيون يحسدونهم عليه، ويتهمونه بالتحيز لولا عصمة القاضي فيه.
… ومعروف ان كلمة بلاد كانت ولعلها لا تزال تستخدم للتمييز بين المغبونين في حقوقهم على دولتهم في وطنهم والمتنعمين بخيراتها ولو بالحرام.
وهكذا، كان على اديب علام القاضي ان يناضل لإنصاف هؤلاء المحرومين من نعمة المواطنة في دولتهم، خصوصا ان الحرمان كان عادلاً اذ شمل البلادين بأفيائه معاً.
والقاضي الذي كان لا يقبل مراجعة، ولا يجامل صديقا، ولا تأخذه في الحق رهبة فتخضعه لاصحاب النفوذ، كان ضعيفاً امام اهل هذه البلاد، لا يتورع عن التوسط لأي مظلوم منهم، وكلهم مظلومون، لتعيين صاحب حق في وظيفة بسيطة، هو الذي كان على قوسه قاطعاً بالعدل، وبالعدل وحده.
ولأنه قاض، والقضاء احتجاب، فقد حرص اديب علام على التضييق على نفسه وأهله، ولذلك ندرت مشاركته في المناسبات العامة، وتكاد ارشيفات الصحف تخلو من صوره، إلا الرسمية والاضطرارية منها، لا سيما بعدما فرضته نزاهته والكفاءة على المجلس الدستوري، يوم اطلت هذه المؤسسة على اللبنانيين فتفاءلوا بأنه قد باتت لديهم مرجعية اخيرة تفتي فإذا فتواها قرار لا يُرَد، خصوصا وقد جاء التعيين الاول لمجلسها بنخبة من القضاة العلماء الذين نأوا بأنفسهم عن التلوث السياسي، وارتفعت هاماتهم فوق مراجعة أهل النفوذ واغراءات أهل المال.
وكان ضنيناً بصداقاته، يختارهم بما يشبه التكتم، حتى لكأن صحبته دخول في تنظيم سري مقفل على الخاصة.
لهذا لم تعرف الكفاءات الاخرى في هذا القانوني العلامة، وفيها مثلا تعلقه بالآداب عموما، وعشقه للغة العربية خصوصا، ومقاربته الشعر، نظماً وحفظاً وترتيلاً، لما يُعجب به من نتاج الكبار، الذين خلفوا لنا نتاجاً ينعش فينا الوجدان والذائقة الموسيقية.
إننا لا نعرف الكثير عن هذا الرجل الذي كان يعرف كثيراً، وقد كتب قليلا ولكنه لم ينشر، واظن ان في مكتبته اكثر من مشروع كتاب، واكثر من ديوان شعر مبتور بالحرص على عدم وضع اسمه في التداول، لان ذلك في رأيه يمس وقار القاضي، واديب علام وُلد قاضياً، وقاضياً عاش، وقاضياً غادرنا مخلفا هذا الرصيد الممتاز من حب الناس. وفي الحديث أن خير الناس انفعهم للناس .
وليسمح لي هنا بإيراد واقعة شخصية لا أرى فيها خروجاً على السياق:
لأن اديب علام كان شاهد زواجي، مع الصديق الكبير المكلوم فؤاده بالفقد والحاضر معنا هنا الدكتور حسن عواضه، فقد ذهبت إليه عند ولادة ابنتي الاولى، فبادرني بالسؤال: وما اسميتها قلت: هنادي. قال بشيء من الدهشة: ومن اين اتيت بهذا الاسم؟ قلت: من كتاب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين دعاء الكروان ، وقد حوله هنري بركات الى شريط سينمائي لعبت فاتن حمامة فيه دور البطلة، وكان اسمها هنادي.
قال: وهل تعرف معناه في اللغة؟ فبدا عليّ الارتباك، وقلت: لقد اعجبنا الاسم، واظنه بدوياً… لان من حملته في الرواية كانت بدوية.
وقام أديب علام الى مكتبته المكتظة بكتب القانون وما اختاره من الاعمال الادبية، وعاد وفي يده لسان العرب . واخذ يبحث بعناية عن الاسم حتى وجده فهتف بي: لقد وقعت في شر اعمالك. حاولت ان تهرب من وائلية زوجتك فإذا بك تختار لابنتك اسماً من عناوينهم، إذ إن الهنادي بطن من بطون بكر بن وائل.
(?) من كلمة في تكريم القاضي الراحل أديب علام مدرسة مار يوسف جبيل.
الأعظم أنوثة تتحدى الرجال في نسائهم!
حين مد يده للسلام قربت خدها من وجهه وهي تقول بنبرة تختلط فيها السخرية بالتحدي: هل تعانق امرأة غيرك، أم ان ذلك من المحرمات؟
لم تنتظر جوابا بل اندفعت تذكره بلقائهما الاول، اين كان ومن شارك فيه وماذا قالت خلاله، وزادت فوصفت ما كانت ترتدي من ملابس واي عقد كان على عنقها، واستذكرت اسم مدير الفندق و تلك المتصابية التي كانت تعرض نفسها على الرجال وتلوح بمفتاحها ليقرأوا رقم غرفتها .
بصعوبة استطاع سحب كفه من يدها ليسلم على الضيوف الآخرين، محاولاً جهده ان يختار المقعد الأبعد عنها، ولكنها تبعته حتى جلست قربه تماماً وهي تقول:
ليس لك غيري، لقد جاء كل ومعه زوجته، وانت وحيد مثلي..
دار الحديث بليداً في انتظار اكتمال النصاب، وكلما فتح موضوع تولت شرحه والافاضة فيه بينما لفظة أنا تكاد ترافق كل كلمة، ولا تتوقف الا وقد اعادت التوكيد انها تعرف هذا الأمر (وأي أمر) افضل مما يعرفه الآخرون..
في فترات صمتها النادرة، كانت تنظم لنفسها مباراة لملكات الجمال، فتشد ثوبها الى اسفل، لتبرز صدرها شبه المكشوف، وتنظر الى النساء الاخريات اللواتي تستكين كل منهن في احضان رجلها، قبل ان تقول بأعلى صوتها:
طبعا، لا مجال للمنافسة! أنا الامرأة الوحيدة هنا، وهؤلاء الجبناء من الرجال يخافون زوجاتهم فلا يجرؤون النظر إليّ.
همست الى الاولى بشيء من الغيظ: لو ان رجلا ارادها فسأتهمه بقلة الذوق وليس بالخيانة..
قالت الثانية لزوجها: قم اليها فعلمها معنى الانوثة..
قالت الثالثة لجارها: هل تعجبكم، انتم الرجال، مثل هذه المسترجلة!
اما الرابعة فقد قامت اليها تحتضنها وتطيّب خاطرها بينما اخذتها نوبة بكاء حادة. ووجم القوم، وأتتها ربة المنزل بكوب فيه ماء الورد ومناديل ورقية، فإذا بها تنهض وتمسح دموعها بكفيها وتنفجر ضاحكة وهي تقول: هو امتحان بسيط في ثقافة الجنس الشفهية وقد رسبتم جميعا!! فلنعد الى موضوعنا الذي جئنا من اجله.. ترى هل كان من سنتحدث عنه فحلاً؟!
وضحك الجميع، وتناوبوا على احتضانها وتقبيلها. وعندما فرغت من آخرهم قالت بزهو: أرأيتم انني الأعظم أنوثة!!
من أقوال نسمة
قال لي نسمة الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا تستطيع ان تفرض حبك على صورة !
ان تعجب بقصيدة لا يعني ان الشاعر حبيبك، وانه قالها فيك من قبل ان يعرفك.
اللوحة ليست الرسام: لا هي مجرد ألوان، ولا هو فيها بكل مشاعره. سيبدع غيرها، وسيرى غيرك فيها نفسه.
بعض المحبين يحاولون فرض أنفسهم على الصورة… فيمزقونها!