13 نيسان: خوفنا من المستقبل أعظم من خوفنا من الماضي!
طريف هو التلاقي بين الذين منّت عليهم المصادفات بالنجاة من أتون الحرب الأهلية في الماضي، والذين يسعون إلى أن يجنبوا أبناءهم وأحفادهم أن يعيشوا في قلب الخوف من وجوههم.
إنه يفرض على الجميع الاعتراف بأننا طالما قرأنا في عيون أطفالنا الاتهام صريحا: كيف تركتكم النار تلتهم أعماركم والأمنيات الغوالي، الفراشات وأصص الورد وأشجار الصنوبر والشوق الى الحياة في وطنكم الجميل؟!
وكنا جبناء في الإجابة. كنا نتهم الآخر، أحياناً، وكنا نتهم الجميع لنبرئ أنفسنا حيناً آخر، أو كنا نهرب إلى اتهام القدر. كانت محاسبة الذات جلداً وتعذيباً إضافياً، تزيد إلى عجزنا الوجع منه غالباً، مع الهرب إلى تعميم المسؤولية، فلا يتبقى للمحاسبة أحد بذاته. بل كنا أحياناً ومن أجل التوغل في الهرب نتهم الضحايا فنحكم بإعدامهم مرة أخرى.
كان الخوف يحبسنا داخل جحور الانعزال والشك في الآخر… ولقد ساهمنا في إقامة الأسوار التي ستحرم أطفالنا من أن يكونوا هم. فرضنا عليهم ان يكون لكل منهم نسختان: واحدة لمحيطه والثانية للآخرين، وهكذا لم يعد أحد منهم ذاته.
لم نعد نحن نحن. لم تعد بيروت، أميرة الحزن العربي، العاصمة التي يتسع قلبها للجميع، تنير طريقهم إلى المستقبل بجامعاتها ونواديها ودور النشر والمكتبات وصحف الصباح التي لم يعد لها دور الريادة وتعميم الوعي، بل هي سقطت مع بيروت في الحرب الهمجية التي كانت الكلمة بين أوائل ضحاياها.
صرنا مخلوقات مشوهة. نكاد ننكر ماضينا ونكاد نتنكر لمستقبلنا.
صارت بيروت مزقاً. صار الوطن ذكريات غالباً، وحلماً عند القابضين على جمر ايمانهم بالغد.
إن التلاقي عشية 13 نيسان الحادي والثلاثين يفرض المصارحة، والمصارحة تقضي بالاعتراف ان خوفنا على المستقبل ومنه أكثر من خوفنا من الماضي الذي نجتهد لدفنه في يومنا ونكاد نلمح شبحه في غدنا.
ولأننا نتلاقى في واحد من صروح التعليم والمعرفة، فلا بد من السؤال: نحن على وعي كامل بالمناخ الذي يسود في الكثير من المدارس الخاصة التي تتحكم بمناهجها هيئات ظاهرها أهلي وباطنها حزبي، وفي كل الحالات تبقى فئوية، بهيئة التدريس فيها وطلابها والطالبات؟
إن واجبنا يقضي بأن نطلق صرخة تحذير من ان تستغل الحرية، التي طالما ارتكبت باسمها جرائم شنيعة، لتخريج دفعات من المقاتلين في حروب جديدة؟
واجبنا ان نطلق التحذير من ان تنقل ذكرياتنا التي هي في حقيقة الأمر كوابيس، جرثومة الشر إلى أطفالنا.
نخاف ان يتعثر أبناؤنا بحطام أحلامنا المجهضة، أو بمرارات خيبتنا وقصورنا عن تحقيق ما أردناه من حياتنا ثم أعجزنا المناخ المسموم عن إنجازه.
علينا الاعتراف أننا نخاف من ذاكرتنا على وطننا،
أننا نخاف التذكر، ونخاف النسيان.
نخاف الذين غيبهم الغلط… ونخاف ممن جاء بهم إلى الصدارة الغلط.
أن الطائفية سور من الكراهية والمذهبية سجن حيطانه الخيبة واليأس والخوف من الآخر.
إن الفرز الطائفي والمذهبي يهيئ لحروب مقبلة. لقد قسمنا العقول والنفوس والعواطف والمصالح، فمن يحفظ وحدة الوطن ودولته؟!
لقد تم تمزيق الجغرافيا الإنسانية، وسلمنا بهذا التمزيق، وصار واحدنا »يقطع« الحدود، مسافراً إلى الآخر الذي كان شقيقه، عابراً المنطقة الحرام، المتروكة الآن لفراغ الانفصال، إلى الشطر الآخر من العاصمة التي لم تعد واحدة، ولم يعد يتلاقى أهلها إلا ليتفرجوا على بعضهم البعض في »الداون تاون«، التي كانت لها أسماء أسواق التلاقي والتعارف والتواصل والتوكيد على صلات الرحم..
إن قلب المدينة التي احتضنتنا جميعاً وعلمتنا بنور عينيها، قد غدا ساحة للمواجهة بين المواقف المتعارضة، يأتون إليها من الجهات الأربع في مواكب التحدي للطرف الآخر، قبل ان يعودوا إلى حصونهم وقد اقتنع كل طرف بأنه قد هزم خصمه بالضربة المليونية القاضية.
ليس في المناخ الذي يخيم علينا ويكاد يخنقنا ما يطمئننا إلى غدنا.
ولقد جاءت جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري لتؤجج نيران الغضب والثورة ورفض الواقع. ومن واجبنا ان نحفظ للشهيد كرامة رسالته، لا سيما انه كان في حياته كما في استشهاده رمزاً مجسماً لوحدة الوطن شعباً وأرضاً حررت المحتل منها دماء المجاهدين وصمود الحكم معهم وخلفهم استنقاذاً للدولة وحماية لوجودها.
علينا ان نواجه الانقسام بترسيخ الوحدة، وليس بالهرب إلى التقوقع في ما يشبه فيدراليات الطوائف.
علينا ان نستعيد دولتنا التي من دونها لا وحدة ولا مستقبل.
فالدولة هي ضمانة المستقبل، هي القائد المانع للتشرذم، وهي مخرج النجاة من التقوقع بالخوف داخل شرانق الطوائف.
الدولة ضمانة تجاوز الماضي، والدولة هي جسر العبور من حاضر الفرقة وخوف الكل من الكل. والدولة متى استعادت دورها يمكنها ان تقدم لأبنائنا الضمانة من انهم لن يكونوا ضحايا حروب آبائهم وأسرى اوهام الانتصار المستحيل على الذات.
* مقتطف من ندوة نظمتها مجموعة »كلنا للوطن« تحت عنوان »تذكر للعبرة نسيان للبناء« في المعهد الانطوني في بعبدا.
الياس لحود: ماذا أخذك من أرض الشعر إلى المعاصرة؟
أعرف الشاعر الياس لحود منذ دهر، ودائماً كنت ألقاه ورفيقه فقره، حتى لقد بدأت أحسب أن الفقر والشعر متلازمان عنده كتوأمين سياميين.
على أنني انتبهت إلى سبب آخر، قد يكون الأصل في تفجّر الياس لحود شعراً: إنه ابن تلك المنطقة التي تقوم على التخم الفلسطيني، جنوباً، حيث لا يمكن لأي إنسان أن يكون محايداً بين سكين الاحتلال الإسرائيلي وضحيته الأخ الشقيق.
لقد رأى أبناء تلك الأرض المطهرة بالدم السفّاح بالعين المجردة، ومشت دبابات اجتياحه فوق حقهم بالحياة في أمان وعرائش الكروم وأصص الورد والحبق، وسهروا مكرهين وعيونهم مفتوحة على دوي قذائف مدفعيته وقنابله التي تحرق الليل وأحلامهم وأمنيات المستقبل.
… ثم إنها أرض تنبت الشعر والشعراء، حتى لتكاد قراها أن تكون دواوين ناطقة. وربما بفضل هذه الأرض التي تنبت الشعر كما القمح والزيتون استطاعوا الصمود ومواجهة العدو بصورته الأصلية: الهاغاناه وشتيرن وأراغون من قبل، ثم جيش الاحتلال، بعدما ضيّع العجز العربي فلسطين.
على أن ما يحيّرني في الياس لحود هو عناده في اقتحام المعاصرة بمجلة فصلية يكتبها المتبرعون، ويطبعها بالديْن، ويوزّع منها كمية محترمة لكن مردودها يضيع قبل وصوله إليه… فيشرب ويشرب حتى يسيل الشعر مدراراً، ويحضر الجنوب ومعه المقاومة، وترفرف النساء فراشات ونحلاً وحساسين تزفّهن إليه بمهرجان من ألحان الفرح.
الياس لحود: ألا يكفيك الشعر لكي تجوع حتى تضيف إليه مجلة لا يقرأها الأثرياء بالتأكيد، ولا يحبها الحكام، ولا تدفع لها وزارات الثقافة والإعلام ولو واحداً على الألف من اشتراكاتها في مجلات فضائح »الفن« بطبعته الجديدة الذي صار حديثاً في الجنس ملحناً وممثلاً ومغنّى.
أيقونة الغياب
… وحين انفتحت أبواب الكلام، هدأت فاستقرت على كرسيها، في موقع هامشي، يتوسط صوره الكثيرة.
كان الكلام عنه يدور من حولها ثم ينعقد هالات من نور فوق رأسها، غدت أيقونة.
ذابت الملامح الرقيقة جميعاً ولم يتبق في الوجه الذي صار الآن صفحة من لجين إلا هالتان سوداوان كانتا، من قبل، عينيها.
ها هو الغائب يتوهج حضوراً: قمراً أسود على صفحة الأيام التي غدت بعده بيضاء.
هم يتحدثون عن وجوهه الأخرى. هي وحدها تعرف القراءة في عينيه. هي وحدها تعرف ما لا يعرفون. لكنها لا تحب موقع اللجنة الفاحصة ليست هذه لحظة التباري في قراءة أفكار الغائب.
جميل أن يصير الإنسان فكرة.
الأفكار أعظم حضوراً من الشخص. إنها تجعله قيمة مطلقة.
لو أنه هنا لما عرف كيف يدافع عن أفكاره بكل هذه الحرارة، حتى من موقع الاختلاف. الغياب يحرّر الأفكار من قيود النفاق قبولاً أو رفضاً بالتحدي ودفع شبهة الممالأة.
يتساقط عليها الكلام قطر ندى.
كلما تحدثوا ابتعدوا في حين لا تني تتوغل داخله وتشعر به يطل من عينيها، فتغمضهما لحظات لتستبقيه لها.
للحظة خافت أن يقترب أحدهم من موقعه في نفسها، من موقعها في نفسه… فكثفت من صمتها، وشغلت نفسها بواجبات المضيف، لكنها، بين حين وآخر، كانت تلتفت إليه لتطمئنه إلى أن أحداً لن يستطيع أن يقتحم عليه مهجعه في شرنقة السر من قلبها.
من النافذة التي امتلأت بخضرة السهل المنداح كأرجوحة بين الجبلين كان يمكنها أن ترى البراعم تتفتح مع ندى الكلمات وفيها بعض ملامح الوجه الذي غاب تاركاً لها أن ترى بعينيه دنياها الجديدة.
الياس عون: كل مواطن شاعر!
… وطالما أن الشعر »مشاع«، لا سيما بعد تعدد مدارسه، وكسر هيبة الكلاسيكية فيه، من أوزان وقافية وإيقاع، فقد بات »كل مواطن شاعر«، ولو من حيث المبدأ..
ولأن الياس عون »مواطن صالح«، ونقابي عتيق، ما زال على ولائه للعمل النقابي، برغم أنه صار شكلياً، وغرق في مستنقع الطائفية.
ولأن الياس عون لا يعرف الخصومة مغلباً الود ومبادراً بصداقته زملاءه جميعاً، وحراً في رأيه لا يصدر عن غلّ أو حسد..
لهذه الأسباب مجتمعة قرّر الياس عون أن من حقه أن يكون شاعراً، وأن يصدر ديواناً فائق الأناقة، تعوّض فخامة طباعته عن الهنات الهينات في قصائده التي تبدأ بالمرأة وتنتهي بها، شغفاً وعشقاً وحباً. لقد أراد التعبير عن تعلقه بالحياة بأسلوبه الخاص، ففعل بغض النظر عن رأي النقّاد.
»دفتر العمر« يحملك الى داخل »مغامرات« الياس عون العاطفية. وهو قد استعان لتجديدها بمجموعة من اللوحات لبعض الرسامين ممن يعرفون »السر« ويتيحونه للغير.. سوريالياً.
والأكيد أن من أحبهن الياس عون أو أحببنه أجمل من اللوحات المنشورة التي ربما قصد بها التمويه وتضليل الباحثين عنها داخل الشعر!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ثرثار بطبيعته، لكن ليس دائماً بالكلمات.
النظرة ثرثرة، واللمسة ثرثرة، والصمت طوفان من المعنى.
أعرف من إذا حضر حبيبه انعقد لسانه، فإذا ما انصرف كتب ديواناً من الشعر، غير عابئ بالأوزان.
الحب يعطي الكلمة الوزن والمعنى والرد بأحسن منهما!