غسان سلامة: متى يعود »العارفة« بأميركا والعالم؟
عصر الثلاثاء الواقع فيه 19 آب 2003، وبفضل هاتف الثريا عابر السماوات وغيوم الموت، أمكنني وغيري الاطمئنان الى سلامة غسان سلامة ونجاته بالمصادفة من الانفجار الذي عصف بمقر الأمم المتحدة في بغداد وأودى بحياة ممثل الأمين العام سيرجيو فييرا دي ميلو وعشرات غيره من العاملين في البعثة الدولية.
ما زال صوت غسان يرن في أذني، وفيه طراوة الدمع: »كان يناديني، من تحت الردم، غسان، غسان… وكنت عاجزاً عن الوصول إليه. كنت فقط أتأمل موتي الذي أرجأته المصادفة، ذاهلا. إنهم يقتلوننا جميعا وفي ديارنا. سيرجيو فييرا دي ميلو أصدق في حبه للعراق من كثير من العراقيين والعرب. لقد جاء الى قلب الخطر متحديا الموت لأنه مخلص لمهمته التي افترضها إنقاذية. لقد قتله الغباء الأميركي ووحشية التطرف الذي يعمل في خدمة هذا الغباء«.
بعد أيام، كان غسان سلامة قد عاد الى بيروت مثقلا بوطأة تجربته العراقية وجلسنا الى هذا السياسي بدمه، الدبلوماسي بالتطوع، الذي يمكن اعتباره نموذجا للمثقف الملتزم قضية الإنسان، والمسكون بهمه العربي، فاستمعنا منه الى خريطة العراق السياسية الفكرية الاجتماعية وموقع الاحتلال فيها والتداعيات التي نجمت عنه والتي سوف تمزق أرض الرافدين ووحدة شعبها.
كان غسان سلامة كمن يقرأ في كتاب مفتوح: لخص لنا حوالى ثلاثمئة لقاء، أجراها في قلب الخطر، مع كل المرجعيات والقيادات الدينية والحزبية والسياسية، من مختلف الطوائف والمذاهب والعناصر القومية والاثنية التي تكاد تجعل العراق مجمعاً حياً للتاريخ الإنساني.
ولقد كان بين أسباب الغنى في تجربته العراقية انه حين ارتضى التكليف الأممي بالذهاب الى بغداد، فإنه وصل اليها وفي ذهنه فهم موضوعي للإدارة الاميركية بتياراتها الحاكمة ونهجها في التفرد بالقرار الدولي الذي اتخذ من »غزوة 11 ايلول« ذريعة لفرضه على الدنيا بقوة الدم الذي أراقته التفجيرات الوحشية لأبراج الزهو بالنجاح الاقتصادي في نيويورك، ولمكمن القرار السياسي العسكري بالهيمنة على الدنيا في واشنطن.
بعد العراق بلغ غسان سلامة أوج معرفته بسياسة الإدارة الاميركية، بخلفياتها الفكرية وطموحاتها الى التفرد بالسيادة على العالم، بالقوة المطلقة المتعددة الوجوه. لقد رأى السياسة مكتوبة بالدم على أرض السواد.
وها هو غسان سلامة يعطينا سفره الجديد: »أميركا والعالم: إغراء القوة ومداها«. لقد قرأت هذا الكتاب المهم متعجلاً، متوتراً، مستشعراً شيئاً من التحدي: لقد نصب لنا غسان شركا واستدرجنا ليفضح ضآلة ما نعرف، بعامتنا، عن عقل الدولة المهيمنة على الكون، وان كنا نكاد نغرق مع شعوب هذه الأرض العربية جميعاً، في النتائج الدموية لهذا العقل الجهنمي الذي يتدرج في تماثله مع نزعة الإلغاء المتحكمة بالعقل الإسرائيلي حتى سقوط الحدود بينهما.
ولعلنا بالتجربة أكثر مما بالوعي، وبالدم أكثر مما بالقراءة، بتنا مختبراً لهذا التآلف الى حد التوحد الذي يدلنا غسان سلامة على جذوره الفكرية عبر استعراضه الممتع لنشوء المدارس التي أسست لنزعة الهيمنة والتفرد، وتسببت في شطب كل المؤسسات ذات الطابع الدولي العام كالأمم المتحدة، او حتى القاريّ والغربي البحت كحلف الأطلسي وما يتفرع عنه: »فإذا ما أصيبت اميركا بنزلة برد أصيب العالم كله بالصداع.
في الأيام الأولى لتولي إدارة جورج بوش الحكم، كثرت الانتقادات لنزعة الألوهية عنده، وتهاطلت الرسوم الكاريكاتورية والروايات التي تنقل عنه ان الله يتحدث اليه، عز جلاله، وانه إنما يصدر قراراته تنفيذاً لإرادته كما سمعها منه مباشرة…
لكن غسان سلامة يعطينا في كتابه القيّم السرد التاريخي لهذه العلاقة الفريدة بين ساكن البيت الأبيض والعزة الألوهية، ويرجعها بالدليل الى وودرو ويلسون الذين يمكن اعتباره بحق »القائد المؤسس« لمن يعرفون اليوم باسم »المحافظين الجدد«…
***
في زمن مضى كان من يزور القاهرة ولا يلتقي فيها أستاذنا محمد حسنين هيكل، يتستر على حقيقة انه قد زار مصر… فعند هيكل الخبر اليقين، والمعلومات التي يمكن ان تستخدمها في تحليل السياسات، حتى لو أعدت صياغتها وفق مفهومك لمسيرة الأحداث.
وحالياً يبادرك كل من عرف بأنك قدر زرت باريس: ماذا يقول غسان سلامة؟ فإن اكتشف انك لم تقابله انصرف عنك مفترضاً انك تتساوى معه بالجهل بسياسات الدول، مشرقاً ومغرباً.
انه الرجل الذي يعرف أكثر مما يجب، ولذلك نتفهم سر غيابه عن لبنان، ومن ضمن السر اعتذاره عن عدم قبول المنصب الوزاري الذي يأخذ منه أكثر مما يعطيه، كصديقنا هنا.
ثم انه الرجل الذي تمنحه صداقتك من قبل ان يطلبها، يستوي في ذلك الرؤساء والأمراء والوزراء والخبراء والكتاب والصحافيون، والذين يرجعون اليه في الحميم من مسائلهم وفي الكثير من مواقفهم.
قال غسان سلامة ذات يوم: ان باريس رئة لبنان ولا اغتراب فيها، واحلم بالعودة اليها سائحاً.
ونحن نتمنى له ان يتحقق حلمه، فإذا تعذر فلا اقل من ان يعود الى لبنان سائحاً اذا كان البديل الوحيد هو الوزارة.
(*) مقتطف من مساهمة في ندوة نظمتها الحركة الثقافية انطلياس في إطار المهرجان اللبناني للكتاب.
من أجل مؤتمر وطني للحوار… حول المغتربين!
بدا طريفاً ان نجلس في ندوة منظمة، رسميا، لمناقشة استراتيجية إعلامية تبقي لبنان في ضمائر وعقول المغتربين بينما يكاد المقيمون يتزاحمون على الخروج من لبنان الى أية جهة في الكون تقبلهم، مفضلين ان يحملوه في ضمائرهم وعقولهم طالما ضاقت أرضه بهم وشح الرزق فيها وتزايدت مخاطر الضياع ودهمتهم رياح الفتنة فتوزعتهم أيدي سبأ.
ان كثيراً من المقيمين حتى الساعة يدينون باستمرارهم في وطنهم الى أولئك المغتربين وبالتحديد منهم الذين ما زالت جذورهم هنا، وكذلك قلوبهم وبعض أموالهم.. وبالتالي فإن المقيمين والحالة هذه اعجز من ان يستدعوهم للعودة بإغراءات هناءة العيش ورغد الاستقرار، بل لعلهم يطلبون منهم ان يسعوا لأخذهم اليهم، تأميناً لأن يغمر لبنان العالم كله بأخضره.
أما الاستراتيجية فكلمة كبيرة..
لنكن أكثر تواضعا: كيف يمكن ان نبقي الصلة، ثم نوطدها.
كيف نحفظ لهم لبنانيتهم ونحن نتعارك حول أي لبنان نريد، وننقسم حول السلطة وحول الأرض وحول العدو وحول الأخ والصديق؟
كيف نحفظ المؤسسات التي أقيمت باسمهم ولهم وقد امتد التخريب اليها بعدما نال من المؤسسات داخل الوطن؟
لم يكن ثمة خطة في اي يوم، وعلى المستوى الإعلامي كانت هناك جهود فردية وموسمية، قدمت خدمة ولكنها كانت محكومة بإطارها المحدود، نفعية في الغالب الأعم، فإذا ما انفتحت على مداها باتت عرضة لان تنجرف الى مزالق كثيرة سياسية طائفية… ثم انها كانت تصطدم بحرص المغتربين على الابتعاد بعلاقتهم بمغترباتهم عن الإعلام، وبالتالي تحولت الصلة فلولكلورية او اجتماعية في أحسن الحالات.
ان معضلتنا مع المغتربين اعقد من مشكلتنا مع المقيمين. وهي تبدأ من أعدادهم ولا تنتهي بما نتوقعه منهم.
نقصر في ما يتوقعونه منا ثم نختلف عليهم ونتسبب في اختلافاتهم.
مرة نجعلهم ملايين الملايين لأننا نريد استخدامهم في تعويض النقص في الأعداد داخلياً.
ومرة نحتسب بينهم السوري والفلسطيني وحتى التركي لان جميعهم كانوا يحتسبون »تركو«.
اذا لم تكن عندنا دولة في الداخل فكيف نطلب ان تكون في الخارج.
واذا كانت الطائفية تفتك بقيمنا ومثلنا ومواطنيتنا في الداخل فكيف بها بالنسبة الى هؤلاء الذين لا يربطهم ببلدهم الا الحنين وثمة من يحوله من ولاء وطني بالأرض الى ارتباط عاطفي بالطائفة.
آن ان ننظر الى المغتربين بوصفهم القضية، وكذلك آن ان ننظر الى هذه القضية بواقعية وبمنطق عملي.
ليس المغتربون ملايين بلا حصر، وليس كل من قطع صلته عمداً بوطنه الاصلي مواطنا له حقوق هؤلاء الذين يعيشون ببلادهم ولها.
المواطنة قرار ذاتي في حالة المغتربين، ومن قرر بوعي قطع صلته بوطنه لا نستطع اجباره على ان يبقى لبنانيا، لاننا نحتاج الى صوته في الانتخابات، او لاننا بحاجة الى ارقام تعدل الميزان المكسور طائفياً.
فالتوازن الوطني ليس نتيجة جدول جمع او ضرب او قسمة.
انه قرار توافقي سلم به الجميع بدليل توزع المناصب السيادية والمقاعد النيابية والمواقع الادارية.
ان طرح استراتيجية امر جلل يتجاوز قدرات ندوة اعدت على عجل، بينما المقيمون غارقون في قلق على مصيرهم داخل وطنهم.
ان مثل تلك الاستراتيجية تحتاج الى جهد جماعي منظم يحصر المشكلات والاشكالات التي تعترض قيام علاقات سوية وعصرية بين لبنان الدولة والشعب المقيم وبين مغتربيه المتوزعين على اربع رياح الأرض.
وإذا كان لنا ان نتقدم ببعض الاقتراحات المرتجلة، فيمكن الاشارة الى بعض رؤوس الموضوعات بسرعة على الشكل التالي:
التحضير لمؤتمر وطني عام عنوانه المغتربون كقضية.
ان العلاقة بين لبنان المقيم ولبنان المغترب لا تقل اهمية عن القضايا التي استوجبت عقد المؤتمر الوطني للحوار.. بل ان كثيراً من الامور المطروحة على هذا المؤتمر لها انعكاسات مباشرة على لبنان المغترب.
(*) مقتطف من مساهمة في ندوة نظمتها وزارة الخارجية والمغتربين.
إيلي شويري: قاوم، فالوجدان معك!
عندما أسقط العتمة مبشراً بالفجر صوت المؤذن، كان ايلي شويري ما زال يغني. كان يطير رقيقاً في دنيا الأنغام مستذكراً الأغنيات التي أعطاها تقديراً لمطربين ومطربات او اصطنع بها مطربين ومطربات… ثم اضاف إليها أغاني وألحانا غناها بنفسه، واحياناً لنفسه، ثم غنى القليل لغيره. وعندما توقف عن الغناء اخذ يدندن، ثم قرر ان »يلحن« كل ما يراه أمامه من بشر وجماد، فلم يوفر الأكواب واصناف الطعام والطاولة والصحون وكأسه الذي حوله الى حديقة خضراء بغصينات النعناع.
… وكنت كل الوقت اتأمل هذا الرجل الذي وُلد كي يصبح الغناء مشاعاً، واستشعر شيئاً من الاسف لان الزين يواصل جريانه وايلي شويري يخوض معه تحدياً اسطورياً: سنعرف من منا الأقوى والأبقى!
في عصر الآلة الساحقة للموسيقى ضاقت المساحة امام المبدع.. ماذا تفعل الكلمة الرقيقة في مواجهة من تغنى بخصرها والقميص المفتوح حتى السرة والبنطال المشقوق بامتداد الساقين.
ايلي شويري هو من جيل كانت الموسيقى له انتماء الى الأرض وناسها، في لبنان كما في سوريا، وفي مصر كما في العراق، وفي فلسطين كما في الجزيرة والخليج.
ايلي شويري: قاوم بفنك هذا الاجتياح من الهجانة والركاكة وسائر ما تمكن محاكمته من الاعمال الهابطة لاساءته الى الذوق العام.
قاوم، ونحن من موقع الوجدان: معك!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لا اعرف طريقا للهرب من حبي. انه يأتيني مع نسمات الفجر، مع الخيوط الاولى للشمس، مع نجوم الليل والاطلالة الناعسة للهالة الفضية لقمر نيسان، ومع الاغنية المنتشية واللحن المطرب..
ثم انه يأتيني متى هدني التعب فيهدهدني حتى أرتاح.
ويأتيني في لحظات الغضب ليذكرني بأنه يحتاج اليّ فأهدأ!