اضطهاد المصريين باستبعاد الأقباط .. ديموقراطياً!
… ها هي مصر تعود إلى ذاتها، وقد تخطاها الزمن خمسين عاماً أو يزيد، فإذا »الاخوان المسلمون« هم الحزب الوحيد الباقي لأنه الحزب الوحيد الذي كان.
عشية الثورة التي قادها جمال عبد الناصر فأسقط العرش بالجيش، كان »حزب الوفد« قد انتهى بوصفه حاضنة الحركة الوطنية المصرية، خصوصاً بعد أن نجح الاحتلال البريطاني في ضرب »الشرعية الدستورية« للعرش بالشرعية الشعبية للحزب الذي نشأ من حول سعد زغلول ومطلب الجلاء، وكان أقرب إلى »الجبهة« أو »الحركة« التي تلاقى في أفيائها المختلفون فكراً ومنهجاً وإن جمعهم الطموح إلى الاستقلال.
أما الحركة الشيوعية، الضعيفة أصلاً، والتي كان الأجانب هم المؤسسون فيها وهم القيادة والقرار، فقد كانت منقسمة على ذاتها شيعاً وجماعات البارز فيها هم »الوافدون« و»الوافدات« مع قلة من المصريين الطامحين إلى التغيير.
كانت »الجماعة« هي الحزب الأرقى تنظيماً، والأقوى حضوراً، والأثبت عقيدة، خصوصاً أنها أكسبت نفسها رصيداً إضافياً عبر إرسالها مجموعة من المقاتلين إلى منقطة قناة السويس حيث نفذوا بعض العمليات الفدائية ضد جنود الاحتلال البريطاني في أوائل الخمسينيات… وقبل أن يقعوا في الخطيئة الكبرى: محاولة اغتيال عبد الناصر للاستيلاء على السلطة.
اكتملت دورة الزمان وعادت بمصر نصف قرن أو يزيد قليلاً الى الخلف لتتلاقى ديموقراطية العهد الملكي والاحتلال البريطاني بديموقراطية الاحتلال الأميركي للعراق التي أنجبتها »الفوضى الخلاقة«.
لكن هذه العودة، وبرغم كل شيء، قد تنطوي على شيء من التقدم… وها هو الحزب العتيق السلفي عقيدة ومنهجاً، برغم بعض التحسينات التي فرضها التحول في موقع القرار الدولي من لندن الى واشنطن، يلحق هزيمة ساحقة بحزب السلطة الذي ظل منذ الخمسينيات تجمعاً لأهل السلطة والمنتفعين بالسلطة والخائفين من السلطة، شعاراته »تزيينية« وتنظيمه بمن حضر فوالى فانتفع.
ومع عودة الإخوان المسلمين إلى واجهة الحياة السياسية، عبر الانتخابات، كان طبيعياً أن تلعلع الشعارات الإسلامية بما يزيد من خوف »الأقباط« وتقوقعهم، خصوصاً أن حزب الحاكم حاول أن ينازل الإخوان بسلاحهم فلا هو بقي غراباً ولا صار حجلاً، لكن النتيجة أن المرشحين المسيحيين قد تركوا للريح، وانفض عنهم الناخبون التقليديون، وأصيب التوازن الوطني للمصريين بضربة قاسية.
نائب واحد »منتخب« على قائمة حزب الحاكم لأنه وزير، وغداً بعد أن تنتهي الجولة الأخيرة، ربما فاز نائب آخر أو نائبان، وإلا فإن العشرة من الأقباط الذين سيعيّنون نواباً على جاري القاعدة المعتمدة سيستحضرون العشرة ملايين (وربما أكثر) من مسيحيي مصر في حياتها السياسية!
يمكن توصيف هذا الواقع بأنه معيب، مشين، ومهين لكرامة الشعب المصري، فضلاً عن أنه ينفي عن العملية الانتخابية توصيفها بأنها الأسلوب الديموقراطي لكي يتمكن المصريون من أن يحققوا حلم حكم الشعب بالشعب، ولكي يكونوا في صلب القرار السياسي من خلال مؤسسة تجسد الوحدة الوطنية بفتحها الباب أمام جميع الفئات والطبقات والتيارات في أن تتمثل فيها.
لكن، مع هذا الواقع البائس، فإن المبدأ قد انهار،
ثم ان هذا الواقع إساءة بالغة إلى تراث الوحدة الوطنية في مصر وتصديع لبنيان مبدأ وحدة الشعب والأرض، وها هم الأقباط المصريون ينطوون على شعور ممض بامتهانهم في كرامتهم الوطنية، أو ينزحون جماعات إلى ديار الاغتراب والمهاجر المفتوحة أمامهم بقرار سياسي، حيث يجدون من يحاول توظيف من يعاني نقصاً في صلابة وطنيته نتيجة الحقد أو الشعور باستبعاده عن القرار في شؤون وطنه، للإساءة إلى وطنه ووحدة شعبه.
أين هو مكمن الخلل الخطير الذي يتسبب بتصديع وحدة المصريين الذين كانوا دائماً موحدين؟
إنه يتجاوز قانون الانتخاب بتفاصيله الإجرائية وتقسيمات الدوائر.
الكل يعترف بأن أقباط مصر يعانون من سوء تعامل الدولة معهم، ويرفضون بإباء المواطن أن يصنفوا »أقلية«. إنهم المصريون الأقحاح، ورثة الفراعنة، أبناء الأرض وفلاحوها، وجوههم من ترابها ودماؤهم من نيلها، فلماذا يستبعدون عن دولتهم، بمواقع القرار في إداراتها المختلفة، المدنية والعسكرية، ولماذا تتقصد السلطة التي تدعي الاستناد الى الشريعة تحجيم تمثيلهم النيابي ودورهم في بناء مجتمعهم على قاعدة من الديموقراطية المؤكدة للوحدة الوطنية؟!
لماذا يغمطون حقهم في وطنهم وهم لو تمتعوا بحقوقهم الطبيعية لكانوا بين حماته في الطليعة، وبين بناته في المقدمة بكفاءاتهم الممتازة؟!
… ومن أين ستعبر العروبة إلى مصر إذا كانت وحدتها الوطنية تعاني من التصدع، و»المضيق« بين »الإسلاموية« و»القبطية« ضيق جداً لا يتسع لدعاوى القومية الموسومة بالطابع العلماني؟
إن الإسلامويين في مصر، خارج تنظيم الإخوان المسلمين، كانوا من الفظاظة والتخلف بحيث لم تتسع صدورهم لمفكرين ومبدعين مسلمين من أبناء مصر الأقحاح، فطاردوهم باللعنة، وفرّقوا بين الأزواج، وأجبروهم على أن ينفوا أنفسهم عن وطنهم، من دون أن تقدر السلطة المتخلفة والموسومة بالجبن حمايتهم وحقهم في التفكير وفي الإبداع داخل وطنهم ولمجده… وطبيعي والحال هذه أن يطارد هؤلاء »الأقباط« باعتبارهم »كفرة« أو »مشركين«، دون خوف من رادع أو عقاب.
الماضي يزوّر هوية المستقبل
… ومن مصر إلى العراق فلبنان تتكرر المأساة فصولاً! وإن اختلفت التفاصيل!
فعلى امتداد الحقبة الاستعمارية، التي تشمل العثمانيين ثم البريطانيين والفرنسيين، اعتمد الاحتلال على أبناء الأقليات العرقية أو الدينية أو الطائفية أعواناً له وواجهات، على حساب الأكثريات. ولقد امتد ذلك الدهر، دون أن تتغير قواعد اللعبة كثيراً، فصار لها »تراثها«، إذ فتح المستعمر أبواب العلم والمعرفة والثقافة والإدارة أمام أبناء الأقليات، وأقفلها دون أبناء الشعب (الأكثرية). ولعل أوضح الأمثلة تتجلى فاقعة في الجزائر.
كانت لكل »وطن«، عندما حانت اللحظة التاريخية للاستقلال، مشكلته البنوية التي تحتاج علاجاً لا يملكه: أعطيت السلطة في العراق للسنة من دون الشيعة، وكانت الذريعة أن المرجعية حرّمت على الشيعة دخول الإدارة في ظل الاحتلال البريطاني… ومن بين السنة أعطيت الأقليات العنصرية الأفضلية المطلقة (من أصولهم من الشركس والشيشان والأتراك والكرد)… أما بعدما قضى صدام حسين على حزب البعث لينفرد بالسلطة فإنه لم يضم إلى نعيمها إلا أقاربه وأبناء جهته (تكريت، سامراء، حديثة)، فصارت المشكلة أكثر تعقيداً، إذ صار الحكم »سني« الواجهة، ولكنه في حقيقته يقوم على عشائر محددة شكلت نادي السلطة والمنتفعين بها. كانوا أقلية، واستمروا أقلية، ولكنهم استندوا إلى قوة المدفع والدينار ومعها عصبية عنوانها مذهبي وإن كان باطنها أقلوياً جهوياً وهدفها السلطة ولو على أجداث الصحابة والأولياء.
كيف تقوم ديموقراطية، في ظل الاحتلال الأميركي، على أنقاض هذا الواقع؟
الاحتلال بذاته مانع للوحدة الوطنية… خصوصاً وقد تعامل، ومنذ اللحظة الأولى، مع العراق على أنه يضم »شعوباً« شتى، بينها عنصرياً العربي والكردي والأشوري والتركماني والسرياني، أما دينياً فبينها من المسلمين السنة والشيعة ثم المسيحيون واليزيديون والصابئة إلخ…
ورأى الاحتلال أن أقصر الطرق لمنع قيام عراق جديد أن يتعامل مع العراقيين بعناصرهم الأولى: الطوائف والمذاهب والعرق، ودائماً تحت شعار الديموقراطية، وصوت واحد لمواطن واحد.
وهكذا تحت شعار الديموقراطية تزرع عوامل استمالة قيام عراق موحد، ويمكَّن لقيام ثلاثة كيانات سياسية، على الأقل، بعضها عنصري وبعضها طائفي، ولا من يعترض، اللهم إلا جامعة الدول العربية وتحت غطاءأميركي ليتم التقسيم تحت غطاء عربي وتكون مسؤوليته التاريخية عليهم.
أما في لبنان فلا يحتاج الأمر إلى تفصيل، وها نحن نمشي نحو تثبيت القاعدة الذهبية القائلة: تنتخب كل طائفة نوابها بلا تدخل أو اجتياح أو مشاركة من قبل الطوائف الأخرى لينتهي الأمر بقيام فيدرالية الطوائف تحت شعار »الفوضى الخلاقة« التي لا تنجب إلا الديموقراطية التي تعمل على إدامة من أنجبها.
أبعد من الطب، أقرب إلى الله
لم نكن نملك ما نقدمه للجسد المتهالك الذي طالما كان القلب فيه أكبر منه، غير إحاطته بقوافل من الأطباء متعددي الاختصاص، وأكداس من الأدعية والابتهالات وعيون تقطر حباً ولمسات نودعها رجاءنا والتمني بأن تقدر على نقل شحنات عواطفنا الصادقة لعلها تشد من عزيمتها وتعزز صمودها وتمكنها من الانتصار في المعركة التي بينت لنا الأيام كم هي قاسية ومديدة ومؤهلة لأن تستنزفنا جميعاً.
تدريجياً نزلنا من الأسئلة العامة عن »الحالة« إلى التفاصيل، سيما أن الأطباء عديدون ولكل منهم اختصاصه، وبتنا على اطلاع مثلاً حول وضع القلب، ووضع الكبد، ووضع الدماغ، ووضع الرئة والتنفس، ووضع الضغط، وعن حالة المريء والاثني عشر إلخ…
لم تعد »وحدة«، لم تعد »كياناً« بشرياً متكاملاً. صارت حصيلة جمع المفردات التي نستخدمها للاطمئنان على كل »جزء« من جسدها تمهيداً لأن يتناقص قلقنا أو يتزايد، بكل ما تستولده »الحالة« من موجبات واستعدادات وترتيبات.
انشق الدم إلى كريات حمر متناقصة وكريات بيض متزايدة حتى حافة الخطر. انغلقت الرئتان دون مجرى التنفس، وكان لا بد من تأمين كمية إضافية من الهواء، ولو بوسائل صناعية. تناقصت الشهية، وتعذر إطعامها، فكان لا بد من أنبوب يصل بمسحوق الطعام إلى الأمعاء مباشرة. وكان لا بد من أنبوب آخر للتنفس.
أما القلب فقد واصل سيرته الأولى، واستمر مصدراً للأمل.
لم نسأل الأطباء تفسيراً علمياً، كنا نعرف السر، الذي لن يعرفه النطاسيون مهما اجتهدوا. كنا نلمح إمارات الاستغراب على وجوههم، ونسمع تساؤلات توحي وكأنهم أمام ما يشبه المعجزة: من أين لهذا الخافق المعذب كل هذه الطاقة على الصمود وعلى ضخ الدم إلى الأجهزة جميعاً بحيث تظل تعمل وتديم الصلة بالحياة.
كيف نشرح لهم أنها قد عاشت على الحب، تحب الناس، كل الناس، ويحبونها.
كيف نقول لهم إن قلبها ليس مجرد عضلات، وأربع فجوات لدخول الدم وتنقيته كي يخرج ليتابع ضخ الحياة في الجسد الذي أتعبته عاديات الزمان والأحداث الجسام أكثر مما أتعبته السنون؟
كيف نشرح لهم أنها أم الأمهات وأم الآباء وأم الأقرباء والأصدقاء وأهل البلدة، بل والبلاد جميعاً، وأنها راعية الأشجار والأزهار والقطط والعصافير والفراشات والنحل والخفافيش الباحثة عن ماء يروي عطشها؟
كيف نبرهن لهم بالدليل الحسي أن قلبها قد اتسع وهو ما زال يتسع لكل الناس، مغاربة وجزائريين، وإن ظلت للمصريين الصدارة، ليبيين وسودانيين وإن ظل لفلسطين موقعها في صميم الصميم، للسوريين والعراقيين واليمنيين، فضلاً عن أهل لبنان جبلاً وسهلاً، شاطئاً وجرداً، بطوائفه وأطيافه جميعاً؟!
لقد تضاءل الجسد، وكادت أجهزته تكف عن العمل، لكن القلب المحتشد بالحب يخفق حباً للأرض بترابها الذي تعرف سر الخصب فيه، وحبا للناس الذين تصدق أنهم جميعاً عيال الله، لا يفرق بينهم الدين أو الطائفة طالما جمعهم الوطن.
لكن الأطباء الذين درسوا وصدقوا أن الروح المعنوية هي أخطر أنواع العلاج، لم يكونوا يتصورون أن يقعوا هم أيضاً في مصيدة حبها، وأن تدخل قلوبهم وتذهب معهم إلى بيوتهم تطمئن على عيالهم فرداً فرداً، وتدعو لهم بالصحة وحياة الرغد!
وهكذا فإنهم نسبوا سبب شفائها الى قلبها الفسيح الذي يتسع لكل الناس، وقد وجدوهم فيه يبتهلون إلى العلي القدير أن يبقيها، فانضموا إلى قافلتهم وصار كل منهم يناديها بالاسم الذي يقطر قداسة: أمي.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
عين المحب تقرأ ما لا يقرأه الأميون في الحب.
إنها تتعامل مع القلب مباشرة، والباقي نتائج.
لو أن كل محب استخدم المسطرة في اختيار حبيبه لتحولت الدنيا إلى جهنم.
اللهم زد في نصيبي من الحب ليكون لي نعيمي الأرضي.