أسفار للحب يرتلها عبد العزيز خوجه
صعبة هي الكتابة عن سفراء الدول الغنية، كالسعودية، فكيف اذا ما كانوا شعراء، واذا ما تعززت الموهبة باللياقات الملكية وبالفهم السياسي والدقة في التحليل، ولو عبر الايماء والايحاء والابتسامات التي تقول ما لا يقال؟!
ولأن الشعراء هم الأخبر بالشعراء، فلقد كان عليّ ان اصدق ما قاله محمد الفيتوري في عبد العزيز محيي الدين خوجه بعد قراءته ديوانه: »أشبه بتلك الكائنات البشرية التي شاهدناها في احلامنا«… او ان اصدق ما قاله فيه جورج جرداق من انه »يحمل نفسه الى القارئ من دون غطاء ليقول له ان الشعر وحده يعيد الى الارض طهارتها الاولى«.
»ديوان عبد العزيز محيي خوجه« بلا مقدمة او تقديم. ان بطاقته قصيدة: »بين يدي الديوان«:
»لا شيء لدي/ او في الجبة شيء/ او تحت القبة شيء/
»تقلقني الشمس ويحرقني الفيء/ اني درويش تقاعد/ انقطع الشارد والوارد اني ماضٍ عنكم/ لست شهيدا او شاهد/ لا أدري شيئا عن نفسي/ خاوية اعماق الكاس.. لكن لا عطش لا إرواء«.
الديوان قسمان متمايزان الى حد متكامل: نصفه للهوى والشباب، ونصفه الآخر للصبر والايمان. نصفه للدنيا ونصفه للآخرة… والفاصل بينهما تحية عشق الى لبنان »اصل الجمال ونبعه/ يا احلى النساء ترفقي/ قلبي بك الولهان والمبهور«.
عبد العزيز العاشق يقدم، في جملة ما يقدم، صورة عن »الحب الأسير« في شرنقة التقاليد العربية الاسلامية عموما، وبالذات في ديار »الحرم الشريفين«، حيث تحكم ضوابط التربية المنزلية والتقاليد الدينية حركة القلب والعواطف، فيغدو تمويه الحبيب بالاستعارة استعادة لتراث الحب بالايماء حتى لا يتهم العاشق بالتشبيب بمعشوقه فتقع الواقعة.
لكن عبد العزيز الشاعر يطلق حبه آهات، مع تجهيل المقصود:
»عند المساء تقول لي حبيبتي، اخاطب السماء كل ليلة فيثمل القمر
وتسقط النجوم بين شرفتي وشهقتي مطر«
… وعبد العزيز الشاعر يجد وقتا للجنون:
»اني تعبت من السباق، من اللهاث، من اللحاق عن سبق
»احتاج في عينيك ان ارسو على شط جديد في الأفق«.
بل انه يجد الوقت لان يقتل القمر ليصير حجرا كما صار مع حبه.
وعبد العزيز الشاعر يقلب رماده ويسافر على امل شريد اذ لا بد من حجر يشع من البعيد: أما يطير مع الرياح، أما يعيد لك الجراح، اقلبْ رمادَك ربما يأتي صباح«.
وعند الشاعر، ف»العذاب امرأة، والهوان امرأة، وفؤاده خفقه وهواه امرأة، وحياته كلها نسجتها امرأة«… وهو يكاد يستجيب لطلب المرأة: »ان تمنعت فخذني لا تسلني«.
وهو يقتدي بسابقيه ممن تعذبوا في حبهم وتألموا وآذاهم الحرمان:
»فإني جميل، واني كثير/ واني قيس اسير الهيام
اعيش حياتي لحب الجمال/ وانشر عطري لكل الأنام«.
أما عبد العزيز محيي الدين خوجه المؤمن فيتدرج في تعبده نحو الصوفية:
»انت يا ربي حبيبي وانيسي في الليالي/ ورفيقي في طريقي وخلاصي عند كربي«.
وايمانه يأخذه من أخيار مكة والبيت الحرام الى »اسفار الرؤيا«، وفي سفر الأنا يقول عبد العزيز الشاعر:
»اني انا الربان والسفن/ واشرعتي خيال،
اني انا الميناء والمدن/ واحلامي ضلال«.
ولكنه سرعان ما يستدرك:
»متْ يا أنا/ ام كفَّ عني/ عدني لاحيا كي اموت/ كما يطيب لكل قلب«.
ويندفع مع رؤياه حتى يبلغ ذروتها في سفر المناجاة فيمتثل للحب »كامتثال العشب للغيث السكيب«.
وكي ينتصر على نزف الظنون من افكاره، يلجأ الى »رب البيت في هذا البلد«، و»ينذر الاشعار للمختار«، و»الدرة التي يحرسها نور النبي«، و»يسلم على حمزة رمح الله»، ثم يختم بان يصلي على النبي المصطفى.
سفير الشعر، شاعر السفراء، عبد العزيز محيي الدين خوجه: كيف تستطيع ان تنجح في كل ذلك معا؟!
منصور أرمللي: الوطن في العين!
قرر كلوفيس مقصود، وهو يسمعني اتعثر في قراءة تصريح له، انني بحاجة الى علاج لضعف نظري، بينما انا اشكو فعلا ضعف إلمامي بلغته الشهيرة »الكلفسة« فكيف اذا تحدث بها عميد الجاليات العربية جميعا لدى الولايات المتحدة الاميركية، وبالإنكليزية؟!
كنا في خريف الزمن العربي المعاصر: الجيش الاسرائيلي يحتل بيروت والارادة الوطنية ويطرد بواقي الثورة الفلسطينية من لبنان، وينصّب لنا رئيسا للجمهورية يتم اغتياله فينصّب شقيقه وريثا.
أجرى الدكتور كلوفيس اتصالا هاتفيا ثم جاءني متهلل الأسارير وهو يقول: حظك يفلق الصخر! لقد حصلت على موعد فوري مع اهم طبيب للعيون في الولايات المتحدة! قم بنا الى عيادة الدكتور منصور ارمللي.
عبرنا شوارع واشنطن واشجارها تنثر اللون على العابرين، وكلوفيس يتابع محاضرته التي يختلط فيها التعريف بالمواقع ذات التاريخ مع التحليل للسياسة الاميركية مرفقة بملاحظاته حول الاوضاع العربية كما يراها من موقعه: الممثل الشرعي والوحيد لجامعة الدول العربية في قارة الادارة الاميركية.
تملّكني التهيب ونحن ندخل عيادة ذلك الطبيب الذي تشي ملامح وجهه بطيبة لا تؤثر في رصانة العالم فيه…
لفّت مسحة من الحزن حديثنا مع السؤال الاول: كيف اخبار البلاد؟ (والبلاد لدى المهاجرين هي الوطن الاسم).
وكان الجواب همهمة تضيف الى حزنه حزنا.
بعد الكشف التقليدي سألني الدكتور منصور ارمللي: افترض انك بلغت سن الاربعين؟!
هززت رأسي بالموافقة، ولم يكن ينتظر جوابا اوضح فأضاف: وها ان الشيب قد غزا شعرك وكاد الابيض يغلب فيه.
هززت رأسي مجددا وانا احاول تبين ملامحه بعدما غشي على بصري نتيجة دواء الكشف، وسمعته يضحك وهو يقول: هذه مثل هذه يا خوي.
اطمأننت الى سلامة بصري، ولكن كيف لي، او لغيري، ان يطمئنه او يطمئننا على فلسطين ولبنان، ومعهما سوريا، بعدما اخذ السادات مصر الى الصلح المنفرد لينتهي قتيلا في ذكرى حرب تشرين (العبور) التي وُئدت قبل اكتمالها فجاءت نتائجها تثبيتا لاحتلال الارادة بعد احتلال الارض.
قال كلوفيس: انه اشهر طبيب عيون في اميركا، لكنه ما زال فلسطينيا. ورد ارمللي ضاحكا: ربما لان بصري سليم، وكذلك بصيرتي!
بعد المعاينة اصر الدكتور ارمللي على ان نجلس قليلا لنتبصر في احوالنا، فتبادلنا الهموم، لكنه كان اكثرنا تفاولا، ربما لانه كان يقدّر من موقعه الاميركي صعوبة المعركة ضد الاحتلال الاسرائيلي، »الذي سيمكّن لنفسه في الارض وفي النفوس العربية، وهذا ما سيدفع الى ولادة مقاومة من طبيعة ارقى وابقى، لان كل انسان عربي سيشعر، بعد اجتياح لبنان، بأن الخطر الاسرائيلي سيمتد اليه ولو كان في اقصى الارض«.
قبل ايام قرأت خبرا صغيرا عن سقوط أمل كبير: لقد رحل الدكتور منصور ارمللي، غريبا في منفاه الذي اعطاه الشهرة، ولم يعوّضه الوطن.
محمود فرحات يمضي مع المهمة المستحيلة
فتية كنا، في مطالع الشباب، ندرس البكالوريا في الكلية العاملية، وجلّنا »اغراب« عن بيروت، نحاول ان نكسر جدار »الغربة« بالتقارب في ما بيننا، وبالانضباط الشديد في مسلكنا، حتى لا نبدو متخلفين فنتعرض لسخرية اهل المدينة الذين كنا نراهم متميزين عنا، او انهم بالاحرى كانوا ينظرون الينا من علٍ كلما سمعوا لهجاتنا الريفية، او لاحظوا اضطرابنا في مواجهة تحضرهم.
كان نظام العاملية يفرض علينا ان نؤدي الصلاة جماعة ظهر كل خميس. وكان البعض يبتدع عذرا للتهرب، والبعض الآخر يرقى الى الطابق العلوي من الكلية الصامدة في رأس النبع، متثاقلا كمن يؤدي »الخدمة العسكرية الاجبارية«، ما عدا قلة كانت تتصرف بصورة طبيعية مفترضة ان الصلاة درس كسائر الدروس.
بعد البكالوريا، افترقنا وتوزعنا ايدي سبأ، يبحث كل منا عن طريق الى مستقبله. وبقيت في ذهني اسماء بعض زملاء الدراسة وبينهم ابن عربصاليم: محمود فرحات.
اخذتني الايام الى الصحافة… وتنقلت بين مطبوعات عدة قبل ان انتمي الى المهنة، حقا، في مجلة »الحوادث« لصاحبها الراحل سليم اللوزي، وبعدها »الأحد« للنقيب الراحل رياض طه، وأخيرا مجلة »الصياد« لاستاذنا الكبير سعيد فريحة. ذات يوم، أبلغني موظف المدخل ان شيخا معمما قادم لزيارتي، ولما سألته عن اسم هذا الضيف غير المتوقع، قال: لم يقل لي اسمه، ولكنه افادني انه صديقك!
دخل »الشيخ« فاستقبلته بشيء من التهيب لم تخفف منه تلك الابتسامة العريضة التي افترشت وجهه وكادت تغطي على لحيته الكثة. قال بهدوء: لن تعرفني ما دمتَ مشغولا بالعمامة واللحية والجبة!
عدت أدقق في وجه »الشيخ« فأطل اسمه عبر عينيه اللامعتين، وهتفت: محمود؟! ماذا فعلت بنفسك؟!
انتبهت الى انني تجاوزت حدي فحاولت ان اعتذر، لكنه قاطعني وهو يقول ضاحكا: وهل لمتك انا لأنك صرت صحافيا؟! انك تضلل الناس وانا اهديهم!
جلسنا نتعارف مجددا… وأبلغني انه في المجلس الاسلامي الشيعي الأعلى، مع الامام (المغيّب) موسى الصدر. وكنت أقرأ اسمه، احيانا، في بعض نشرات المجلس فلا اربط بينه وبين زميل الدراسة ورفيق الصبا القديم.
بعدما أصدرت »السفير« تجدد التواصل. وكان بين الحين والآخر يتصل منبها الى خطأ او منوها بتميز، او محذرا من خطر استفحال الفتنة (بعد تفجر الحرب الاهلية)، او مشيرا الى صدور كتاب جديد له مقررا انه سوف يهديني بعدما ضللتني السياسة الى سَواء السبيل.
دارت بنا الايام دورات، فبدلت في الجغرافيا وفي النفوس وفي الأخلاق، وظل الشيخ محمود فرحات يكرز علينا فصل ايمانه رابطا بين الله والعقل، رافضا الغيبية ومعها التقدم من خارج القيم الروحية، مهاجما همجية التمدن الذي يقود الى الاستعمار واستعباد الانسان.
… وذات رحلة الى عربصاليم نبهني الزميل ساطع نور الدين الى وجود الشيخ في بلدته فقصدناه لزيارة اطمئنان: كان هو هو الانسان الطيب، عميق الايمان، ثابت اليقين، بسيط الثياب والرياش واللغة.
ذلك لقب فقط، قال مشيرا الى رتبته كمدير عام للمجلس الاسلامي الشيعي الاعلى. ما زلت اعمل لتوحيد الايمان والمؤمنين، بينما انت تعمل لتوحيد العرب، وكلانا مهمته مستحيلة!
… الشيخ محمود فرحات يواصل الآن مهمته في رحاب الجنة. الى اللقاء، يا مولانا!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
الحب إبداع… فحبيبي الأُمي غدا شاعراً يطرب الناس لقصائده التي تحملني الى قلوبهم فأستقر فيها.
الحب مشاع لكل من اراد ان يكون انساناً.
قلبي الآن اوسع من الدنيا، وحبي هواء لعشاق الارض جميعاً.