عن الذين يكتبون بدماء زغرتا شعر الأغاني
لكأنهم يغطون أقلامهم وريشهم وفرشاة الألوان بالدم المسفوح على الأبواب والجدران والطرقات الضيقة التي كان يتربص فيها المقتول بالمقتول.
لكأنهم يستمدون الحبر من أثواب الحداد التي طالما اتشحت بها الأمهات والزوجات اللواتي على موعد مفتوح مع الترمل والثكل.
لكأن الوقوف عند حافة الهوة السحيقة التي يفتحها الثأر فيتعذّر من بعد إغلاقها إلا بالمزيد من قرابين الاستشهاد على مذبح خرافة الندية في احتقار الحياة وتأليه الموت.
لكأن الفاجعة التي التهمت في الطفولة البراءة، وفي الفتوة شبق المراهقة واحلام اختراق المستحيل للوصول إلى »الجامعة« والشهادات ذات الاختام والتواقيع الموقرة،
… لعل ذلك كله يفسر هذه »التظاهرة الثقافية« التي ملأت بها زغرتا دنيا الكتابة وفنون الإبداع، شعراً ورواية وقصة، لوحات وتماثيل ومهرجانات للفرح بالتميز بعدما انتصرت على ذاتها فعرفت طريق الخروج من نفق الموت العبثي إلى الفضاء الرحب لعشق الحياة وابناء الحياة.
… وجورج يمين الذي »عبر سريعا كومضة«، يكاد يكون عنوانا مبتوراً لكوكبة من المبدعين الذين انجبتهم سنوات الرعب في زغرتا الخمسينيات، والذين بدأوا ينثرون أحزانهم ومواجعهم فيضيفون الى لغة الكتابة في لبنان نكهة من الذات مثقلة بمرارة تجربة العيش في ظل الموت الممتد من جيل إلى جيل.
عقل العويط، انطوان الدويهي، رشيد الضعيف، جورج يمين ومبدعون آخرون عديدون، رسماً ونحتا، شعراً وزجلاً، قصة ورواية، ارتفعوا بزغرتا اهدن الى مكانة مرموقة في عالم الكلمة والفنون الجميلة.
هل هم الذين ارتفعوا بزغرتا ام ان زغرتا هي التي انجبتهم من قلب مأساتها الدامية التي استمرت دهراً ثم اثمرت على الصعيد السياسي رئيسين للجمهورية وقيادات سياسية ووزراء ومرجعيات دينية في الوطن والمهجر، كأنهم جميعاً خرجوا من كوة الدم التي انفتحت فيها بأيدي ابنائها… ولا غريب!
جورج يمين الذي ارتحل متعجلاً وجد في زغرتا الثانية التي استولدت نفسها من قلب مأساتها، والتي حلت الاقلام وأدوات الرسم (وحتى الكومبيوتر) محل البنادق والرشاشات وكمائن »القتل على العائلة«، فيها وجد من يستبقيه اضافة إلى وجداننا فوق رفوف المكتبات في البيوت التي صارت قصوراً وفيلات ودوراً بجنائن تزدحم امام أبوابها السيارات التي تبرق اثمانها ذهبا.
… وها هو نتاجه الذي تفوح منه رائحة الزعتر البري، قد بات كتبا تنشقع على رفوف في بيوتنا، وها هو العشب قد افرخ بالحبر، قبل ان يجيء الشعر عاريا مثل الماء، عاليا مثل دق الجرس.
جورج يمين في بيوتنا الآن بعدما غادر بيته الزغرتاوي الضيق.
هو الآن أربعة: »صبي في قصر الساحرة« و»نقطة في الفراغ« وديوان »خيط الصلا« ثم اغانيه »راحوا الغجر«.
جورج يمين حمل حاله وسافر من »قارة« كبيرة اسمها زغرتا في وطن صغير اسمه لبنان، »ولماذا يبقى؟ فالصبية امنا خطفها الثلج، ثلج الحرب… جن من القمر، قفز كأنما يمسك على الراس في الدبكة، وبقي في الهواء، حافيا، وطار الى بلاد لا تعرف الثلج«.
جمهور الثأر في دولة »شيخ الصلح« والثروة
يافعاً كنت حين سمعت اسم »زغرتا« للمرة الاولى، وقد اطل عبر حديث الأب الدركي مضرجاً بدماء ابنائها الذين كانت »حزبياتهم« العائلية تلغي اسماءهم: لماذا الأسماء حين يصير الموت هو الرابط الفاصل بين »هم« و»نحن« من أهل البلدة نفسها التي تكاد تكون بالدم عائلة واحدة؟!
»فصلونا على زغرتا لنفصل بين الذين سيُقتلون«.
توالت حالات »فصل« الدركي الى زغرتا لتعزيز قوة »الدولة« التي فشلت في ان تكون العدل، فحاولت ان تكون شيخ الصلح بين »العشائر« المتصارعة في قلب ضِيق الرزق وضِيق الصدر وضيق الأفق وضيق المكان على »قوة الشكيمة« التي لا يمكن تأكيدها إلا بالدم.
كان الدركي يعيش حالة انفصام: فهو كان يفترض انه انما يدخل »السلك« فينتسب إلى »الدولة« بوصفها مصدر العدل والقاضي الذي لا ينطق عن الهوى ولا تأخذه في الحق لومة لائم، فإذا »بالدولة« تتحول في لحظة الى »قوة فصل« بين ابناء بلدة واحدة، تمنع ان يخترق احد من هذا الحي »الخط الأحمر« الى اصدقائه بل أهله في الحي الآخر.
كان الدركي يصير نجماً، حين يجلس الى أهل بلدته الذين لا يختلفون في عاداتهم كثيراً عن ابناء زغرتا، سواء في حالة السلم ام في حالة الحرب التي يصعب تحديد اسبابها الفعلية الغائرة في بطن الحكايات والأساطير والتي تجللها المبالغات ليخرج منها »الابطال« الذين يصنفهم القانون خارجين عليه، حتى لو أخذ بالاعتبار تركيباتهم القبلية.
الدركي يروي، والجمهور المتلهف الى التفاصيل تروي حكاية أفراده (وعائلاتهم) بالذات، بتقاليدها العريقة التي تقدم »الثأر« على الحق، وتعتبر القتيل »عدوا«، يستمع بشبق، ويستعيد ما يريد الدركي اختصاره لضيق الوقت وضيق صدره بمهمته التي تبعده عن أسرته وان وفرت له دخلاً إضافياً (خرج راح) له رائحة الدم.
الجمهور هنا ليس محايداً. انه لا يعرف احداً من ابناء الضيعة التي جعلها دمها المنثور حكايات خرافية، اشهر من العواصم. الجمهور يتمثل نفسه هناك، ويكاد ينشق الى مؤيد ومعارض بين مقتولين. انه يهتم بالتفاصيل ليقرر: من الذي صان شرف عائلته، ومن هو الذي تهاون حرصاً على… السلم الاهلي؟!
الجمهور؟! لطالما عاش مثل هذه الحالة التي يسمعها الآن حكاية عن الآخرين. لطالما اقتتل أفراده من قلب عائلاتهم المترابطة بالنسب والمصاهرة على اللاشيء… فاللاشيء يغدو، بعد اول قتيل، قضية تستحق ان يموت من اجلها الآخرون، وتستحق ان يقتل الآخرون فيها الآخرين: فكل طرف هو آخر طالما انه ليس منك في منزلة موسى من هارون.
زغرتا… ولكن ماذا عن بلدته بالذات؟
كم مرة انشطرت بلدته بالرصاص، فأقفلت الدكاكين، وتلطى العابرة في اي منزل »محايد« او عند نواصي الطرق، يحاذرون ان تقتلهم المصادفة او الاشتباه او الخطأ؟!
وكم مرة، انطلقت نداءات الاستغاثة تستصرخ أهل الشهامة ان يتدخلوا لوقف النار كي يمكن انقاذ الجرحى وتحديد اسباب الخلاف قبل ان يمددها الدم المهدور فيتعذر الوصول الى سبب الانفجار، وتحديد المسؤولية، ومن ثم مباشرة مسعى الخير من اجل هدنة يتم خلالها بذل المساعي الحميدة من اجل مصالحة لن تدوم إلا بالمسافة بين مصادفتين؟!
ان ذاكرته مثقلة بمآسي الخلافات التافهة التي يعظمها الفقر ويفجرها الظلم، ويديمها الاستثمار السياسي؟
كم من البلدات عاشت نساؤها بالأسود طوال العمر؟
كم من البلدات لعلعت اسماؤها بالاحمر في صدر الصفحات الاولى… والاحمر هنا دم ابنائها، او دم المقتولين بسوء الحظ او بالسوء في توقيت العبور في الخط الفاصل بين جبهتين؟!
لا يُنبت الدم المهدور ظلماً ادباء وشعراء وكتّابا وعلماء، في عالم من التخلف والفقر والجهل.
لكنه في زغرتا أنبت دواوين وروايات واغاني فرح وقصصاً عن الموت تزيد من حبنا للحياة، وحكايات عن المقتولين الذين أُعيدوا إلينا قصائدَ فسكنوا وجداننا بعدما اخلوها من ذكريات الايام التي طلست بالأسود الرؤوس والقلوب والصدور والعقول وليس الثياب فحسب؟!
هل يمكن الفصل بين الواقع الاجتماعي لزغرتا الذي استولد فيها الكوارث، وبين موقعها الممتاز في ما بعد من السلطة، ثم في السلطة، والذي اتاها بالمال والاعمال مباشرة او بشكل ملتبس، والذي رش الذهب على مجتمعها الصغير، فإذا الذين كانوا منذورين للموت قد غدوا رؤساء ووزراء ونوابا ومديرين واصحاب شركات ومقاولات ناجحة واصحاب نفوذ يبيعونها نقداً وبالتقسيط في الداخل والخارج؟!
لكن ذلك حديث احزان فلنرجئه الى يوم آخر، ولنواصل الآن الاحتفال بجورج يمين الذي انجبته مأساة بلدته، وصار برحيله المبكر مأساة للكلمة المجنحة التي تأخذ الى الفرح وحب الحياة.
»زين الشباب، في زغرتا هذه المرة، لم يمتع بالشباب«… وان هو وجد من احتفى بما يبقى من جورج يمين فجعله قصيدة نحفظها ونغنيها ولا نتركها »جلدة سميكة على ورق«، في كتب على الرفوف في البيوت التي تحب الحياة ملوّنة بربيع الشعر واحلام الشعراء.
الفرار من الأندلس
هبط المشرق على المغرب من خارج الزمان.
كان الوقت عصرا فسألت: لماذا تأخرت؟
لم يجد لديه عذرا، ولم تكن تنتظر الجواب.
تصرفت كأن لحظة وصوله هي الموعد.
التمع البرق وارجأ الرعد دويه الى ما بعد المطر.
قامت فقام، وترك لها ان تقوده الى مجلس الخليفة.
اطلب وتمنَّ!
تلعثم وارتبك. قالت تطمئنه: لن يجرؤ احد على ان ينظرك، فأنت آت محمولاً على الشعاع المقدس.
حملته على كفها وطارت به الى ما خلف الخوف والريبة والاحساس بذنب التعجل.
ولكنك لا تعرفين.. ولكنني لا اعرف!
كان النهرَ، وكانت العطشَ.
كان البرقَ، وكانت المطرَ.
وذهب الرعد في اثر دويه الى صحاري الجفاف، يبشر بسيول من زبد لتسقي العطاش.
الاسم حرف نداء، وفي العيون المنادى.
تناثرت الكلمات همساً وآهات بأجنحة اندلسية.
تمهلت الشمس حتى كادت تخطئ موعد مغيبها.
كانت تعرف ان الشرق قد بات خلفها وان المغرب امامها، وان لا وداع للضوء، فهو يأتي من البعيد فيسقط في حضنها تماماً… كسقوط الشمس في البحر، لا هي تنطفئ ولا هو يتوقف عن السعي الممتع بين شاطئي الاستحالة.
الاندلس أمامك والتاريخ فوقك وتحتك وخلفك، عن يمينك وعن يسارك، ايها الآتي من الماضي… فأين المفر؟!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لولا الحب لما كان الشعر، ولظل الكلام مجرد ميزة للإنسان على الحيوان.
ولولا الحب لبقي القمر جرماً يسبح في الفضاء بلا هدف.
الحب يعطي المعنى للورد والغناء والشعر والجمال، ويحول القمر الى آهات…
لهفي على »الآه« ترفعني من أرضي الى سماء حبيبي.