صحافة مطفأة الروح والعيون… فماذا يهم من رئيس التحرير؟!
أخيرا، وبعد انتظار طال أكثر مما يجب، اصدرت السلطات المعنية في مصر قرارها بتبديل »القيادات« التي تحتل مواقع القمة في الصحافة المصرية التي هي »رسمية« لكنها ليست »حكومية«، و»مهنية« لكن القرار فيها »سياسي«، وبالتالي فمرجعه هو المرجع الذي لا بديل منه ولا شريك له.
والقرار »تاريخي«، بمعنى انه منتظر ومتوقع منذ دهر…
… ثم انه يطوي حقبة من عمر الصحافة في مصر ليفتح صفحة جديدة. وكان ضروريا طي الصفحة العتيقة لاسباب »انسانية« اولا، فأعمار الزملاء الذين شملهم قرار التبديل تتجاوز سن التقاعد، ثم إنهم في مواقعهم منذ ما يزيد على ربع قرن، ما فرض جمودا يستولد اليأس في نفوس جيل او جيلين من زملائهم او »تلامذتهم« الذين كان يستحيل عليهم ان يجدوا فرصة للترقي والبروز وامتحان كفاءاتهم في المواقع العليا المشغولة بمن لا يحول ولا يزول إلا بتدخل مباشر… من العناية الإلهية!
… ومن شابَهَ حاكمه فما ظُلم!
ومع الاحترام الشخصي للزملاء الذين كبروا بالوظائف والألقاب والرواتب والتعويضات أكثر مما كبروا بإنتاجهم المميز وبالتطوير الدائم للمؤسسات الصحافية الكبرى التي كانوا يتولون مسؤولية قيادتها، فإن ثباتهم في مواقعهم فرض حالة من الجمود والشلل على المؤسسات، وأصاب مرؤوسيهم باليأس.
أعدى أعداء الصحافة إخضاعُها لإرادة الحاكم… فكيف إذا كان الحاكم ابديا؟!
الصحافة معارضة بطبيعتها… فإذا والت ماتت.
الصحافة صوت الناس، فإن هي صارت صوت الحاكم اختنقت بفعل تزوير طبيعتها، فتحملت تبعات خطاياه وأخطائه، وانفضّ عنها جمهورها المفجوع بها وعاقبها بهجرها وسحب عليها موقفه من حاكمه.
وفي انظمة الحكم الفردي او الحزبي (على الطريقة العربية، اي الحزب الذي سرعان ما يُذوَّب في فرد) لا مجال للصحافة، ولا فرصة لنشوء اجيال من الصحافيين الذين يتخذون من مهنتهم اداة لخدمة الحقيقة وفضح الغلط، وينتدبون انفسهم لاضاءة الطريق ولمحاسبة الحاكم، حماية لشرف الوطن وحق المواطن في المعرفة، والأهم: حقه في دوره الطبيعي باعتباره »المرجع« و»مصدر السلطات«.
وليست مصادفة ان الصحافة العربية، عموما، كانت اقرب الى ضمير شعوبها حين كانت معظم الاقطار العربية تحت الاحتلال الاستعماري وتحت الانتداب الاجنبي.
كانت الصحف الفقيرة بإمكاناتها التي تعيش على مدخرات اصحابها وتبرعات الطامحين الى الاستقلال، منابرَ للقضية الوطنية ومنارات لنشر الوعي السياسي والاجتماعي… ولو ضمن حدود المتاح.
***
… وأستدرك، حتى لا أتَّهَم بالغرض او بالكيدية، فأقول إن لي اصدقاء شخصيين بين من اقيلوا من مناصبهم على رأس المؤسسات الصحافية في مصر، بعدما تم التمديد لهم مرات ومرات، لكن صداقتي لا تمنعني من الاعتراف بأن البقاء الطويل في الموقع، وما يستولده من مصالح، يقضي على روح المهنة ويُضعف الإحساس بنبض الشارع. هو »رجل الرئيس« رذن فهو باق طالما بقي الرئيس.
وليس أخطر من ان يصير الصحافي جزءا من النظام القائم، ومن سلطته، حتى لو كان مؤمنا بإخلاص قيادته وبأهدافها السياسية.
ولقد عرفتُ »الأهرام« ومحمد حسنين هيكل على رأسها، و»أخبار اليوم« وعلى رأسها الكفاءتان التوأمان مصطفى وعلي امين، و»روز اليوسف« وعلى رأسها احسان عبد القدوس، و»دار الهلال« وعلى رأسها احمد بهاء الدين… وكنت أعتز، مثل كثير من ابناء جيلي، بأننا قد تتلمذنا عليهم، على اختلاف المدارس التي ينتمون اليها ويحاولون تطبيق مبادئها في عملهم المهني.
كانت »الاهرام« تحتاج من واحدنا الى اسبوع، يتجول بين الرابع حيث مكتب هيكل، وقاعة التحرير المركزي وقد كان فيها مكرم محمد أحمد وفهمي هويدي وسامي منصور وحمدي فؤاد، وغيرهم كثير من الكفاءات، وبين »دور الخالدين« في السادس حيث كنا نلتقي الكبار: توفيق الحكيم وحسين فوزي ولويس عوض وصلاح عبد الصبور ونجيب محفوظ، اطال الله في عمره.
وكان ثمة منافسة جدية بين الجيل الجديد من الكفاءات المهنية والأساتذة الكبار، لا سيما بعدما اطلق سراح الشيوعيين وفتحت امامهم ابواب الصحافة يسهمون فيها بأفكارهم وآرائهم المختلفة عن زملائهم »الناصريين« بتحفظ، او المحافظين المتربصين بهؤلاء واولئك.
وبرغم الاختلاف السياسي العلني مع »اولاد أمين«، فقد كنت أقر لهم بالأستاذية وبالغزارة في الانتاج، وبالقدرة الهائلة على التكيف مهنيا مع مقتضيات الحال سياسيا. ولقد تتلمذ على ايديهم نخبة من الكتاب بينهم الراحلان موسى صبري وسعيد سنبل. أما آخرهم فهو مفجر الأزمة التي استبقت التغييرات وبشرت بها: ابراهيم سعده.
في »دار الهلال«، كان احمد بهاء الدين، المثقف الكبير، وصاحب الرؤية الحضارية، والعروبي المؤمن بالديموقراطية الى حد الاختلاف مع بطانة الزعيم الكبير جمال عبد الناصر، يشرف على اصدار بعض افضل المطبوعات العربية: مجلة »المصور«، ومجلة »الكواكب الفنية«، ومجلة »الهلال« الثقافية الشهرية، وكتاب »الهلال«… إلخ.
وكان بهاء، الدقيق في التعبير كما في التصرف، والفائق التهذيب من دون تنازل عن رأيه، يرعى ويواكب التطور المهني (السياسي) لمجموعة من الكفاءات المهنية، يتقدمها رجاء النقاش ويوسف القعيد وحلمي التوني ومصطفى نبيل وراجي عنايات ومجموعة من الفنانين الذين لحقوا به من »روز اليوسف« وأبرزهم رسام الكاريكاتور المتميز الراحل بهجت عثمان.
وكان في »روز اليوسف« صلاح حافظ ومعه مجموعة من المحررين الشبان الذين تتلمذوا على ايدي الكبار الذين خرجوا الى منابر اخرى.
لم يكن كل أولئك »ناصريين« بالمعنى السياسي، لكنهم كانوا مهنيين ممتازين، ومؤمنين بالخطوط العريضة للتحول الذي قادته ثورة جمال عبد الناصر، والأهم: انهم كانوا يؤمنون بشعبهم، وبأنهم إنما هم »خدَم للحقيقة« ومقاتلون من اجل التغيير نحو الأفضل.
أين صحافة مصر اليوم، قبل التغيير وبعده، من صحافة ذلك الزمن الذي كانت أيامه بشائر انتصارات لم تكتمل؟!
***
المعضلة سياسية وليست مهنية: صحف الحكومة للحكومة، اي انها نشرات رسمية، مضبوطة الحركة داخل قيود مفروضة من خارجها كما من داخلها، حتى لا تقول ما ينبغي ان تقوله.
وما لم تنتزع الشعوب حرياتها العامة، وأولاها حقها في اختيار نظام الحكم، ديموقراطيا، ومن ضمنه حرية القول والعمل والاعتراض على حاكمها، لا سيما متى أخطأ، فلن يكون ثمة مجال لصحافة عربية تستحق مثل هذه التسمية. وما دام الحكام العرب لا يخطئون فهم أبديون.
ان العيب في النظام كله، وليس في الاشخاص الذين استمروا بقرار حكومي، لأنهم من صلب عائلة الحكم والمنتفعين به، بمعزل عن كفاءاتهم المهنية.
ولقد أزاح النظام بعضا من »رجاله« ليقدم »الصف الثاني« ممن تتلمذ على ايدي هؤلاء الذين تقاعدت الصحافة قبل ان يتقاعدوا.
لكن هذه »المكرمة« لن تعيد الروح الى صحافة مصر.
… ولا مجال لصحافة ما دام الحكم يقمع الروح في مصر كما في سائر أرجاء الوطن العربي العظيم، الذي كان واحدا فبات مجموعة من الكيانات القابلة للتقسيم والتجزئة دائما، في غياب الشعب المقموع والمهان والمطفأ العيون لأن صحافته مثل ارضه، ومثل القرار ليست له.
نهم إلى المواء!
تكورت مثل قطة عند خاصرته اليسرى، محاذرة ان يحتويها حضنه المفتوح على مصراعيه للنساء، دخولا وخروجا.
لا وقت للتعارف ولا حاجة اليه. هو تلاق على الرصيف بين محطتي سفر. قال: سأسميك »لين« مهما كان اسمك الاصلي، أما أنا فيمكنك ان تناديني »المنصور«!
أغراها تواضعه بأن تدغدغه، فهي جلسة أنس، وليس بين ذلك النفر من اصدقاء المصادفة الذين تكأكأوا على المقاعد الوثيرة من يريد غير ما يرى وما يسمع ويشرب وما سوف يأكل عما قليل.
كان المطرب المتدرج يغني فلا يسمع احد غير النغم الذي يأخذ الى الرقص، وتضيع كلمات الأغنية تحت الأقدام مع الصوت المشبع باليأس من اقتناص الفرصة للشهرة. قال في نفسه: المكافأة تغْني عن الصيت، وفي العمر متسع للارتقاء نحو القمة التي لا يبلغها إلا المخنثون!
كان الجمهور المندفع متعجلا نحو السُّكْر، يُظهر استحسانه لضابط الايقاع، لا سيما حين استبدل الرَّق بالطبلة مستدرجا الساهرات الى حلبة الرقص.
رقصت الاولى بالطلب، ورقصت الثانية بالتمني، ورقصت ثالثة بالرغبة.
التفتت اليه، من قلب خاصرته تسأله: أتريدني ان ارقص.
وحين اكتفى بأن هز كتفيه بغير اهتمام، انتبهت الى انها قد تكون تسرعت، وقد تفسد الامر على نفسها، فاعتذرت مصححة خطأها: سأرقص لك حتى لو لم تطلب!
رقصت للجميع مرة، ورقصت له مرة ثانية، ثم أخذتها النشوة فانطلقت ترقص لنفسها. وكأنما تريد ان تثبت انها افضل من منافساتها الموسومات جميلات!
رفت النشوة بجناحها في تلك القاعة المزدحمة الآن بالشهوات، وانزل الرجال النساء جميعهن الى الحلبة، وجلسوا باسترخاء لجنة فاحصة مكلفة بتحديد الفائزة في مباراة يحكمها الجن.
وحين جلسوا الى المائدة خيل اليهم انهم يسمعون »مواء قطة«، لكن نهمهم الى الطعام اللذيذ سرعان ما شغلهم عن كل ما عداه.
تهويمات
قالت: احببت الليل لأنه موعدنا..
قال: الليل يحمل ملامحك، فغلالته سوداء، لكن عينيه اشراقات واعدة، وقمره قصيدة، أما هلاله فحضن مفتوح للمتعبين يهدهدهم حتى يأخذهم الى النوم.
***
قال لصديقه: تعال اعرفْك إلى هذه الجميلة.. ان ثقافتها غنية، وهي تعرف كل شيء عن كل الناس.
وفاجأها بقوله: التعريف غير دقيق، فهو لا يشملني.
ردت من خلال ابتسامة: لقد وفرت عليّ الجهد، فجملة واحدة لخصتك جميعا.
***
قالت معابثة: شوشت عليّ سياحتي. كان خيالك يطاردني فيشغل كل الامكنة التي زرتها. في الساحات والمتاحف والقصور كانت صورتك هي المدخل والمخرج.
قال ضاحكا: ها أنت تهينين غروري، كنت أراني نسخة واحدة!
من أقوال نسمة
قال لي »نسمه« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
الحب ليس نزوة. الحب الحياة. قد يغفر لك حبيبك النزوة إذا كان مطمئنا الى رسوخ حبك، وإذا ما عدت إليه تائباً لأنه معنى حياتك.
تستنقذ حبك بالحب. الحب وحده يعيدك الى الحياة… حبيبك!