عبر »وادي الشبهات« إلى ماضي الأيام الآتية
ما اطول المسافة وما اقصر الدرب بين جرح بيروت وياسمين دمشق المحترق بنيران سوء الظن او سوء التقدير من قبل ان يأتي الربيع.
لقد مضى زمان اللهفة، صار »السفر« الى دمشق بحاجة الى تخطيط مسبق، وعذر شرعي. صار اجتياز الحدود »تهمة«. صار »البديهي« مريباً، وصار »الطبيعي« موضع تشكيك، ربما اوصلك الى لجنة »التحقيق الدولي«.
عادت »الحدود« حدوداً، من يعبرها فعليه ان يجتاز حقلاً من العيون المفتوحة بالتساؤل الممض: هل أنت مضطر الى هذه المخاطرة؟!
وينتفض فيك شعورك المكين بالانتماء الى هذه الارض: هذه بلادي وحقي ان اتجول فيها كما اشاء، فكل بيت فيها هو بيتي، وكل الناس فيها هم أهلي، قبل السلطة وبعد السلطة، وبمعزل عن صراع الدول التي تستهدف اسقاط هويتي واحراقها في اتون مصالحها والاغراض.
على الجانب الآخر من الحدود تستقبلك اللهفة، وكأنك في طريقك الى عملية فدائية.. لكن الترحيب مغلّف بشيء من الحذر، يترك لك ان تقبل منه قدر ما تشاء، منعا لإحراجك.
تبلغ وادي القرن، فتتهاطل عليك ذكرياتك وقد اختلط فيها الشخصي بالوطني بالقومي: هنا ميسلون. هنا استشهد يوسف العظمة. لطالما حدثك منح الصلح كيف كان أهل لبنان يتوقفون، وهم في طريقهم الى دمشق، عند هذا المفترق من التاريخ كي يقرأوا الفاتحة على أرواح الشهداء الذين تساقطوا هنا وهم يحاولون منع جيش الاحتلال الفرنسي الذي كان قد سيطر على لبنان، من مد استعماره الى سوريا، وكيف تلاقت كوكبة من مجاهدي الأمة لمواجهة الاحتلال الجديد بعظيم ارادتها وقليل سلاحها وعتادها.
***
يستقبلك المولجون بالتنظيم. ويصحبك احدهم الى داخل القاعة الأنيقة في قصر المؤتمرات، ترافقك صورة افتتاح هذا الصرح الذي اكمل بناءه ذلك الرجل الذي ذهب به الغل او الغرض او سوء التقدير او الانخراط في حرب وهمية بينما ساحات الحروب الفعلية مفتوحة يتزايد عددها ويتزايد ضحاياها كل يوم.
تتخذ مقعدك بين عدد من الزملاء الذين، مثلك، لم يرغبوا في الاعتذار عن عدم تلبية الدعوة، معظمهم جاء من مصر، ونفر قليل من لبنان، تتبادل معهم نظرات ذات دلالة. لماذا يطوقك هذا الشعور بالانكسار؟! لماذا تشعر بأن هذه القاعة تغرق في بحر من الضياع؟!
لعل صورة »الحزب« قد تكسرت وتشوهت بممارسات السلطات التي حملت في ازمان مختلفة وجهات مختلفة اسمه، حتى وهي تقاتله و»السلطة« في كل مكان وزمان قاتلة للمبادئ والشعارات والمثل العليا.
لكنه الحزب البشارة… او هكذا كان عندما اطلقه مؤسسوه قبل ستين عاماً، ثم عندما تمكن من ان يستقطب الجمهور الذي كان يفتقد الاطار الناظم لحركته في اتجاه امنياته: الوحدة والحرية والاشتراكية.
لم نكن نرى من حيث اجلسونا إلا أقفية رؤوس الاعضاء والمندوبين المشاركين في المؤتمر، وانظارهم مشدودة مثلنا الى المنصة التي سيتوالى على الوقوف خلفها المخولون بأن يتحدثوا الى العالم، فالنقل مباشر، والكل في الخارج ينتظر ما سوف يقال ويعلن، والى اي حد سيكون متوافقاً او متناقضا مع التوقعات التي اضفت على هذا المؤتمر الحزبي اهمية استثنائية فحمّلته ربما فوق ما يحمل، اذ اعتبرته منعطفا تاريخيا.
اكتمل النصاب، وكان التصفيق ايذانا بافتتاح المؤتمر.
في البداية: نشيد البعث..
وكانت خيبة الامل الاولى: كنا نتوقع ان نسمعه من هذا الحشد من الرجال والنساء، »المناضلين الحزبيين« المتلاقين بعد افتراق، في هذه القاعة، بأصواتهم.. للصوت الحي طعم مختلف، اما الشريط فيلغي اللهفة، ويطمس النبرة الكاشفة لعمق الالتزام. ان تهدر اصوات الرجال والنساء بنشيد معتق امر مختلف عن ادارة آلة تسجيل لتبث شريطا منسيا.
وتوالت خيبات الأمل، خصوصاً علينا نحن الذين اجتزنا »وادي الشبهات« الى »دولة الوصاية«. كان علينا ان نقارن مرغمين بين اليوم والأمس. كان علينا ايضا ان نقارن بين الشعار والممارسة. كان علينا ان نفتش عن الحزب.
لقد غاب »الآباء المؤسسون« بصور مفجعة: كبيرهم انتهى بجعله »نبيا« لاخراجه من دائرة التأثير في الحياة، وكي يحتكر »القائد الذي لم تلد الامهات له شبيها« المواقع العليا جميعا، الحزبية والسياسية، المدنية والعسكرية، الاقتصادية والثقافية، الفكرية والدينية، وكي يقامر بالوطن بذريعة تحرير الامة فانتهى به الامر اسيراً ذليلا في قبر من اسمنت، دفن فيه الوطن والامة معا لعله رأسه.
… وكان بديهيا ان تسحق دبابات الاحتلال قبر »النبي التائه« وان تسقط اسطورة قداسته مع سقوط قائد عسكر الوهم الذي لم يصمد لانه اكتشف فجأة ان لا قضية له ولا عقيدة، فالتزوير يتهاوى مع دوي الطائرات من قبل ان تسقط قذائفها عليه.
اما الثاني الذي كان نظيفاً في تفكيره، ضعيفاً امام اغراء السلطة، فقد انتهى شهيد الغلط المضاد في بلاد بعيدة، وامتنع عليه ان يحظى بمدفن في مدينته التي يحتشد في مقابرها جلادون وطغاة، محتلون وابطال محررون، مناضلون وسماسرة، والتي يعبر بها التاريخ فلا تغادر ارضها وتبقى.
واما الثالث الذي اضاف الى »المناورة« فنونا كثيرة، واضاف الى الدهاء المكر، فقد ظل في المنفى حتى هدّته الخيبات، فعاد الى مسقط رأسه في كفن.
واما الرابع فقد طال الاضطهاد اسمه، بعدما امتنع فكره على المشوهين.. وصار التلاقي في ظلال ذكراه تهمة تستوجب ان يأتي »زوار الفجر« لاعتقال من استذكره، او اتخذه درعاً واقية من سوء الظن، او نورا هاديا الى الصح في الحزب او في ما يجب ان يكون عليه.
ما علينا، كل اولئك صاروا في ذمة التاريخ، فلنسمع عن اليوم..
الخطاب رصين، ولا خروج عن النص، فالمناسبة اكثر جدية من ان تسمح بخواطر شاردة او بردود مرتجلة على مؤامرات متقنة التخطيط.
ولكن.. اين لبنان المهدد حاضره ومستقبله؟ اين العراق المضيع شعبه وكيانه؟ اين فلسطين ضمير المناضل وروح القضية؟ اين العروبة؟ اين البعث في نسخته الواعدة بانتصار العقيدة على السلطة، والمؤهلة للتصدي للمهمات الصعبة في زمن القهر الامبريالي الجديد؟ اين الانتفاضة ضد الغلط والقصور؟ اين اعلان التمرد على الواقع المترهل في قوقعة جموده، بحيث يعطل ولادة المستقبل؟! اين الثورة بالعلم على الجهل؟ اين الشعب من الحزب؟ اين الحزب من السلطة؟ اين السلطة من الانجاز؟!
… وكان علينا ان نسمع نصيحة من نصح بانتظار خطاب الاختتام.
لكن الخطباء الذين تعاقبوا على المنبر بعد ذلك، والذين لم يستطيعوا في اية لحظة ان يقنعونا بأنهم يعيشون في ايامنا هذه، ويتحدثون عن غدنا نحن، وان اقنعونا بأنهم صامدون حيث تركهم تاريخ ما قبل التاريخ، فقد جاءتنا اصواتهم وكأنها مسجلة فعلاً على آلة تسجيل منسية، جنبا الى جنب مع ذلك النشيد المنسي.. لولا ان تكنولوجيا القرن الماضي قد حفظته.
* * *
لم تكن سفراً في الزمان، تلك الرحلة عبر »وادي الشبهات« الى »دولة الوصاية«،
لم تكن رحلة نحو الغد، بل ان الماضي فيها كان مجتزأ ومبتوراً، حتى ليمكن لكثيرين ان يقولوا انهم وهم الذين عاشوا فيه وكانوا بعض مداميكه لم يعرفوه.
وحتى اشعار آخر فان العروبة محتجزة في »وادي الشبهات«، بينما خطباء انسحاق آمالنا بالأمس ما زالوا يتغرغرون بكلماتهم الجوفاء التي لم يتعرف الناس الى معناها في اي يوم… فالكلام بقائله.
… وأخيرا دمشق، ولكن ادهم اسماعيل كان يطلب انطاكية، او هكذا قال ذات يوم احمد عبد المعطي حجازي، الشاعر الذي خسر القاهرة ولم يربح دمشق »التي قدمت لي كأسا وحزت وريدي«.
المرأة تقتل الملكة!
هي لا تصدق، بعد، ان ما جرى قد جرى فعلا: ان لمسة واحدة، ابتسامة واحدة في فضاء مزدحم بعيون الريبة والفضول، قد اذابت جبل الثلج الذي حرصت على تصفيح نفسها به حتى غدا بعض طبيعتها.
هو ساحر بشبابه الغض، هذا صحيح، وفي عينيه الناعستين وعود غامضة تشبه نداء مكتوماً، وفي تصرفه تهذيب ملكي يمنعه من الاندفاع خلف رغباته ولو انه يفتح الابواب امام رغبات غيره فيه، ولكن…
هو بهي الطلعة، يمكن اعتباره عنوانا للوسامة، يمد يده بكثير من الدعة ولا يتعجل في سحبها، ويقارب دون ان يقترب، فإذا ما انصرف لا يغادر تماما، بل ان شيئاً منه قد بقي فيها وأسئلة كثيرة حامت في أفق رأسها بغير ان تجد لها جوابا، ولكن…
ولكنها »الملكة«…
منذ سنوات طويلة اتخذت، تحت ضغط المحيط، ذلك القرار المجنون: ان تقتل المرأة فيها كي تصير ملكة. والملك عقيم، ثم انه بلا قلب. علموها ان عواطف الملك نزوات عابرة، لو صدف ان جنحت به واحدة فانها لا يجب ان تترك غباراً فوق العرش، فان طمح غبي الى تحويل النزوة الى قصة حب دفع رأسه جزاء اندفاعة قلبه.
بلّغوها ان الملك »عاقر«. ما هم! العرش اثمن من الولد.
بلغوها ان الملك »ذكر«، فاستغنت عن كل ترف الانوثة في اللباس والسلوك، حتى لقد فرضت على لغتها نبرة رجالية. ما حاجتها الى الحنان، ما دامت لا تتحدث الا بلهجة الامر، ولا تقبل ان يخاطبها الآخرون، من الرعية، الا وقد احنوا رؤوسهم ونطقوا الكلمات مهشمة وبصوت خفيض، حتى لا تخدش الأذن الملكية المرهفة.
مع ذلك ظلت جميلة، يشرق وجهها الذي البسته قناعا من الصرامة من تحت خميلة شعرها الفاحم، وينفر صدرها من قلب طوق الحديد الذي فرضته عليه، وينساب جسدها برشاقة في ملابسها الطويلة حتى أسفل القدمين، وتتكفل الخطوة شبه العسكرية في فضح ما اجتهدت في اخفائه.. فتبلغ الاثارة الذروة.
لكنه ليس من رعيتها، وليس عليه ان يحترم تقاليد مملكتها، فملكه أعظم، والنساء مشاع له، ليس له غير ان يغمز بعينه، او يشير بيده حتى يأتينه صاغرات.
عبثاً تحاول طرد خياله من بالها، ان اغمضت عينيها تبدّى لها طيفا ساحراً، وإن هي فتحتهما لا تجد فيهما غير صورته.
حتى حين وقفت امام المرآة رأته يظللها، بل انها شعرت بأنفاسه على رقبتها، ثم انه تركها تتكوم بين احضانه.
انتفضت »الملكة« فيها وأمرت باعدام »المرأة«.
جاء الحرس فحملوا المرأة الى المحرقة… لكنه اعترض طريقهم وامرهم بأن يسجدوا لها فسجدوا، وبأن يترنموا باسمها صلاة فترنموا، وحين همّ بأن يمضي في طريقه خرجت اليه »الملكة« فقاتلته وقاتلها حتى سالت الدماء.
ووجدت نفسها تشهق بالبكاء، ثم تحمل سيفها وتقاتل الملكة حتى القتل، تظللها ابتسامته التي تختزن النداء المكتوم الى حب الحياة حد الجنون.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
يرغب حبيبي في ان يُظهر نفسه ضعيفا امامي ليشعرني بالقوة، ولكنني اعرف انه يعرف انني منه أستمد القوة. ليس الحب معجزة، ولكنه يمنحك الشعور بالقدرة على إتيان المعجزات. انه، مثلا، يجعلك تحب نفسك عبر الناس جميعا.