حسين صُلَح »يدبك العرجه« كتابةً في تاريخ بعلبك
مصادفة التقينا، بعد انقطاع ألفناه كواحدة من »خصال« حسين صُلَح الذي ما زال يكابر فيرفض الاعتراف بهزيمته وجيله، حتى وهو يحس بشيء من تأنيب الضمير لانه قد ورط ابنه الاكبر باسمه »نضال«.
ومصادفة عرفنا، من غيره، انه قد اصدر قبل فترة كتابا (ليسلي وقته الضائع بأطروحة قد تنفع!)، وفي موضوع له اهميته الخاصة، اذ هو ينفض الغبار عن حقبة مجهولة او منسية او يراد طمسها من تاريخ بعلبك والبعلبكيين (وهذا امر مألوف ومعروف باعتباره سياسة رسمية دائمة).
فأما الكتاب فيحمل عنوانا جذابا: »تجليات العمل القومي في بعلبك (19201908)«. ولهذا التحديد معناه: انها الفترة الفاصلة بين بدايات انهيار الخلافة السلطنة العثمانية وبداية الحقبة الاستعمارية الغربية (المتجددة) لبلادنا، وعبرها ظهور بشائر الحركة القومية العربية التي كان عليها ان تستولد نفسها بنفسها عبر التصادم مع المشروعين، ثم مع قصورها الذاتي وهي تحاول صياغة نفسها فكريا وعمليا في لحظة تاريخية حافلة بالالتباسات بين الوطني والديني والقومي، مع افتقار الى الثقافة والمعرفة وفهم التحولات.
وبديهي ان يكون حسين صلح قد تعب كثيرا وهو يسعى لاكتشاف مراجع موثوقة تدرج بعلبك ومنطقتها في سياق ما شهدته منطقتنا عبر الصراع بين المشاريع الاستعمارية المختلفة التي تصادمت فوق ارضنا، وتقررت في ضوء نتائجها خرائط الكيانات ومواقع العروش والرئاسات، تارة بذرائع سياسية تتصل بالآخرين (من غير اهل المنطقة)، وطورا باستغلال التمايزات الدينية والطائفية لأغراض سياسية تخدم مصالح اجنبية.
المهم ان حسين صلح قد سعى فجمع المعلومات من اكثر من ستين مصدرا مكتوبا، ومن بضعة مراجع شفهية كشهادات بعض من كانوا بعدُ على قيد الحياة ممن عاصروا تلك المرحلة وعاشوا وقائعها، بل هو قد استعان ايضا بدفتر الحسابات في مطرانية بعلبك للروم الكاثوليك وهو يتقصى مواقع المدارس المعدودة واجور المعلمين فيها. وفي هذا السياق وقع على وثيقة يثبت فيها آل المطران أنهم ورثة الغساسنة الذين ملكوا لاكثر من ثمانمئة سنة سوريا وفلسطين، وبنى احد ملوكهم (حسان الغساني) مدينة تدمر على اسم ابنته، ثم ظهر احد احفاده أذينة الغساني الذي ضرب دولة فارس قاهرة الرومان وسُمي لذلك امبراطور روما، وكانت امرأته زنوبيا، اشهر امرأة في العالم.
وقد اضافت الشهادات التي سمعها حسين صلح مباشرة من بعض من كانوا »شهود الحال« على تلك المرحلة التي حفلت بارهاصات النهوض القومي، صدقية حارة على الكتاب (الاكاديمي)، واستذكرت وقائع مطموسة عن مذابح الحرافشة الذين حولوا بعلبك من مدينة الى دسكرة صغيرة لا يزيد سكانها على مئتي نسمة، ومذابح الاتراك في مختلف ارجاء المنطقة، واشهرها المذبحة في عرسال التي حمل فيها جند الاتراك 14 رجلاً من هذه البلدة الصابرة الى بعلبك ليعلقوهم على المشانق عند مرجة رأس العين، ليكونوا عبرة لمن يعتبر… هذا قبل قدوم الفرنسيين كمستعمرين جدد يحاولون ان يثبتوا انهم أقسى من المستعمر العثماني المهزوم.
في الكتاب نتف من الروايات عن الحركات (الثورية) التي انشأها او انخرط فيها الباحثون عن طريق الى الغد، في ايام الظلمة تلك، من جمعية الاخاء العثماني، الى اللجنة المركزية السورية، الى المنتدى الادبي، الى جمعية العربية الفتاة، الى جمعية حزب اللامركزية الادارية، الى مؤتمر باريس… كما يتضمن اشارات الى الحقبة الفيصلية في دمشق وبعض لبنان.
الشهادات لنخبة من كبار آل حيدر وآل المطران وآل ألّوف وآل الرفاعي وهم بين العائلات العريقة في بعلبك، كذلك ثمة روايات لبعض احفاد ملحم قاسم (المصري) الذي احترف القتال متنقلا من الجبهة ضد الاتراك الى الجبهة ضد الفرنسيين، والذي اعطى لقبه العائلي »أبو علي« لكل راغب في ادعاء بطولة… ولو على امرأته!
ويذكر الكتاب لمحات عن اصول بعض العائلات البعلبكية الاصيلة او التي وفدت مهجّرة من بعض جبل لبنان، فيشير الى ان آل حيدر يعودون بنسبهم الى بني اسد، وان عسيران وعلي وحيدر هم اشقاء فرق بينهم قهر الاجنبي فتوزعوا في البلاد. ويستذكر اغتيال ندره المطران الذي اسس مع حسين حيدر »المنتدى الادبي«، كما يلفت الى الشاعر خليل مطران »الذي درس على الشيخين خليل وابراهيم اليازجي، ونظم قصائد عن الاستبداد الحميدي فحاولوا اغتياله، فهرب الى باريس ومنها جاء الى مصر وعمل مع بشارة تقلا في »الاهرام« واتصل بالخديوي عباس ورافقه الى استنبول…«. ويذكر ايضا عائلة الرفاعي، التي كانت لها نقابة الاشراف، ولعبت دورا ممتازا في حفظ اللغة العربية.
ولأن التاريخ يعيد نفسه فلا بد من الاشارة الى ان بعلبك كانت، ايام العثمانيين، لواء حتى سنة 1871، ومن ثم سلخ عنها شرقي البقاع واصبحت قضاء قبل ان تضمها مصالح من انشأوا »المتصرفية« في الجبل اليها.
لقد صمت حسين صلح دهرا حتى افترضنا انه تفرغ للدبكة »العرجه« مع شيخنا »ابي يحيى«… لكنه كان في حالة كمون وها هو يعود بما يستحق غفران غيابه في انتظار ان يكمل آخرون هذا الجهد الطيب في اعادة الاعتبار الى بعلبك والبعلبكيين.
»أحمد« يروي تاريخ الفراعنة الذين قتلوا أجداده
تهادت بنا الباخرة النيلية الانيقة التي تحمل اسما فرعونيا فوق صفحة النهر الساحر الذي لا يحتاج الى الهدير كي يؤكد عظمته، فينبسط كفراش من حرير رائق الزرقة تشوبه بعض الخضرة عند الضفاف التي ما تزال تُنبت الفلاحين السمر بمواويلهم التي تتلوى لها خصور الصبايا في الرواح وفي الغدو، ويرق لها الهواء فيأخذك الى خدر النشوة.
كنا قد امضينا سحابة النهار في الأقصر، في صحبة الفراعنة: ودليلنا »احمد« الذي تشي سحنته النوبية بانه واحد من احفاد اولئك الذين قضوا نحبهم وهم يحملون صخور الغرانيت الضخمة من المحاجر البعيدة، على طوافات، في موسم فيضان النيل، الى حيث اقيمت المعابد العابرة للزمان. زرنا مقابرهم في »وادي الملوك« التي تشي بأنهم كانوا يحاولون مصادرة الآخرة والقيامة، بعد مصادرتهم الحياة بملكهم… فهم قد اعدّوا عدتهم للعودة، مجددا، وهكذا فقد حرصوا على ان تدفن معهم، والى جوارهم، كل مفاتن الدنيا في حين قضى آلاف من الفنانين اعمارهم في تزيين هذه المقابر بالرسوم المنحوتة على الجدران، والتي ما تزال محتفظة بألوانها الزاهية وأشكالها المستوحاة من الطبيعة: التمساح، وطيور النهر، والقردة والافاعي والاكباش والجمال. الفن الاصيل اقوى من مرور الايام، ويبقى بعد مبدعيه فيُبقيهم.
كان »أحمد« يروي احداث العصور المنصرمة بحماسة شاعر الارض، مفترضا ان الفرعون يسمعه، فارضا علينا جوا من التهيب: انه يحترم تاريخ بلاده حتى ولو كان من بين الضحايا، فهو من البنائين الذين يحق لهم المفاخرة بهذه التحفة الفنية الاقوى من عاديات الزمان، والتي بقيت لمصر في حين ان من بُنيت لأجلهم قد ذهبوا.
استمعنا الى الاساطير حيث تختلط الوقائع بالخرافات وتنضح حكايات الصراع على السلطة بين ورثة العروش بالدم، فيقتل الأخ أخاه، وتتزوج الابنة بأبيها لتستكمل شرعيتها، ويعمد المنافس الى تقطيع جسد مزاحمه على العرش ورميه في صناديق تطوف فوق النيل فتتوزع في جميع انحاء مصر، ويكون على حبيبته ان تدور فتجمع اجزاءه لتعيده الى الحياة فتستعيده ومعه المجد…
تأمّلنا الملوك الآلهة بوجوه الطير والكبش، والشمس التي يحرسها افعوانان، واخذتنا الرهبة ونحن نسمع عبر صوت الليل حكايات الصراع الرهيب بين المتنافسين على السلطة بدماء رعاياهم العبيد، الذين قضى الوف الألوف منهم تحت السياط او تحت صخور الغرانيت الهائلة الضخامة. كان »أحمد« يروي وكأنه يقرأ قصيدة حب. هو يتحدث عن مصر والمصريين، والفراعنة عنوان مشع… والصبايا الشغوفات بالسمرة يستمعن بعيونهن، اما الكهول فيسافرون مع نهر الصمت الى البعيد: لقد جاؤوا تعبيرا عن الرغبة في الحياة، والصخور باردة كالماضي.
مع هبوط الليل ينبسط سطح الباخرة لاحاديث السمر، في حين تشتعل صالاتها الداخلية بالموسيقى الصاخبة التي يعشقها الفتية ويتلقونها بأقدامهم حتى اذا ما بلغت رؤوسَهم غابوا تماما.
»أحمد« يروي راقصا الآن، والباخرة تتقدم بنا نحو »اسنا« ثم »كوم امبو« ف»ادفو« وصولا الى اسوان. »احمد« الآن في صحنه، وهؤلاء أهله بناة كل ما مر بنا من معابد ومن مقابر، في حين ظلت بيوتهم التي من طين وخوص على حالها، لحظة بداية الخلق.
»احمد« خريج معهد جامعي، لكنْ له وجه رمسيس الثاني وقامته المنتصبة كمسلة فرعونية، فإذا ما رقص فهو افريقي، واذا ما غنى استعاد لكنته النوبية… لكنه بداية »مصر« وانتهاؤها، التي بقيت وستبقى بعد رحيل الجميع، طغاة محليين او اجانب عابرين.
يقترب مني المدير »جورج لوقا«، فتأخذني »لبنانيتي« الى حديث الطوائف، فاذا »جورج« هو »أحمد« وان كانت صفحة وجهه اكثر بياضا… انه ايضا مصر، بينما »اللبنانيون« على السفينة يتوزعون حلقات حسب طوائفهم، في حين ان الاجانب يتحركون مجموعات والكل واحد.
أخرج الى السطح أسامر النيل، في هدأة الليل، وأسمعه يقول كل ما اغفله التاريخ وأستمع الى ملحمة صمته التي تقرأ فيها الغد فوق صفحته الهادئة الى حد الاثارة. الجعجعة لا تصنع التاريخ. حدد طريقك وواصل السير تصلْ. ويشق الليلَ موالُ فلاح اعطى عرقه لارضه فاعطته الرغيف والرضا، لكن الحزن ظل رفيقه الابدي حتى وهو يغني الفرح الذي يستقدم الفيضان.
تهويمات
قالت: أراك قد نسيتني… ألا تفتقدني أحيانا؟!
قال: من امتلأ بنفسه فقد القدرة على حب غيره.
***
قالت: اراك حيثما ذهبت. لكم تمنيت لو كنا معا في تلك العواصم البعيدة. كنت معي دائما. كلما طالعني جمال في الطبيعة او في الناس تذكرتك.
قال: لا أحب ان اكون شجرة او نهرا او جبلا او صورة تستهوي السياح. ولن انتظر على الطرف الآخر من الارض حتى تعودي الى حيث تبدأ الدائرة. الحب لا يسكن البطاقات البريدية، مهما كانت جميلة.
***
كتبت اليه تقول: أخاف من شوقي اليك. انه يأخذني الى مراهقة متأخرة، وتفرض علي كل صباح ساعةً امام المرآة لاختار ثوبا لن تراني فيه، وعطرا لن تشمه… وعند المساء أنام في احضان الحزن، لكنني مع الصباح اعود اليك، وحيدة.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
ليس للحب مكان اقامة، وليس له زمن. قد يفاجئك في أقصى الارض، وقد يصلك متأخرا عن تقديرك لموعده.. لكنه متى جاء انساك الحساب وجمّل كل الامكنة، وأخذك الى قلبه حيث يبدأ الزمان ويعطي للحياة وجهها الأبهى. لا تنتظر جامدا، اقتحم حياتك تجدْ حبك.