اللغة العربية مضطهدة من الحاكم والمحكوم
كضيف طارئ على المجمع الثقافي بنشاطاته الدوارة على العواصم العربية، ثم على ندوة »اللغة العربية والعولمة« التي تحتشد فيها مجموعة من الأساتذة والدارسين العرب، ومن موقعي الإعلامي، ألفت الانتباه إلى مجموعة من الملاحظات التي قد تبدو أقرب إلى السياسة منها الى الثقافة، وأبرزها الآتية:
إن لغتنا العربية مهددة. نعم. وهذه قضية سياسية من الدرجة الأولى، وليست مسألة ثقافية إلا في مظهرها.
فاللغة العربية، كما تعرفونها وتدرسونها، وكما نتعبّد بها ونتحاور، وكما يترقرق بها الشعر فتحمل على جناحها شغاف قلوبنا، وكما نمخر بها عباب الأفكار والعقائد،
هذه اللغة التي نقولها فتقولنا ليست مهملة فحسب بل ومضطهدة ومنبوذة ومقهورة بأهلها، كما أهلها.
وقبل أن نناقش مخاطر العولمة لا بد أن نلحظ أن بعض تقارير الأونيسكو قد صنّفت العربية بين اللغات المهددة بالانقراض… وكان هذا الأمر الخطير موضوعاً للقاء أعد على عجل، قبل بعض الوقت في لبنان، فلامس المشكلة بالتفجع والخطاب البليغ!
أول الأسباب في قهر العربية واضطهادها أنها ليست لغة الحاكم… فالغالبية الساحقة من حكامنا، ملوكاً ورؤساء وأمراء وشيوخاً مالكين، لا تعرف من اللغة حتى مبادئها الأولى، ولا تعرف الحد الأدنى من قواعدها، وتهرب منها في الغالب الأعم الى اللهجات المحكية.
يكفي أن نستذكر الصور التي طالعنا بها حكّامنا في بعض مؤتمرات القمة العربية، والفصاحة التي جللت كلمات العديد من أصحاب الجلالة والفخامة والسمو والعظمة، مع الإشارة إلى أن واحدا على الأقل من هؤلاء الذين يقتعدون القمة لم يسبق له أن خطب أو علق على خطاب أو عقب على بيان لأنه لا يعرف من اللغة العربية شيئاً، فإذا ما اضطر إلى الحديث لجأ إلى العامية، أما إذا أراد الإيضاح فإنه يستخدم لغة أجنبية.
إن مؤتمرات القمة هي بمجملها فضيحة ثقافية إضافة الى كونها فضيحة سياسية.
ثم لا بد من ملاحظة نافرة أخرى: أن البعض من حكّامنا يضطهدون هذه اللغة، فيهجرونها، ويخالفون أصول الحكم ويخرجون على أبسط المبادئ الوطنية حين يجرون محادثاتهم الرسمية مع الملوك والرؤساء الأجانب، ولا سيما كبيرهم، بلغة أجنبية، هي غالباً الإنكليزية، التي نشك في أنهم يتقنونها ويمكنهم أن يعبروا بها عن مواقفهم التي يصعب عليهم أن يدافعوا عنها أمام رعاياهم وبلغتهم الأم.
ولقد بات مألوفاً أن نتفرج على بعض حكامنا وهم يرطنون مع بعض مضيفيهم أو ضيوفهم من المسؤولين الأجانب باللغة الإنكليزية.. الفصحى!
لم تعد العربية لغة الحاكم، إلا في ما ندر، وفي العديد من الأقطار العربية لم تعد أيضاً لغة المحكوم.
وها إن مسألة التعريب في أقطار المغرب العربي قد تحولت أو هي تتحول تدريجاً إلى مسألة سياسية متفجرة… وليس سراً أن حركة الاعتراض على التعريب قد بلغت مستوى جدياً يبعث على القلق والتخوف من أن تستخدم عامل تفجير لحرب أهلية، ظاهرها ثقافي وباطنها سياسي، ومحركها الأجنبي، وضحيتها أهلها الفقراء أو المفقرون، والذين يبحثون عن الرغيف حتى لو اضطروا إلى هجر لغتهم إلى اللغة التي تطعمهم.
في أقطار أخرى جرى تهجين العربية بذريعة عصرنتها، وفي أقطار أخرى اعتمدت اللهجات المحكية في نشرات الأخبار في أجهزة الإعلام المرئي الرسمية أو شبه الرسمية.
كذلك لم تعد العربية لغة الأم، ولا هي الآن لغة الطفل.
في لبنان وفي مصر وفي أقطار الخليج، فضلاً عن المغرب العربي، يهرب الأطفال من العربية بحجة أنها شديدة الصعوبة، ويدفع الأهل مبالغ طائلة لتعليم أطفالهم في مدارس خاصة، بعضها أجنبي، وبعضها إكليريكي، والذريعة دائماً هي هي: العربية صعبة عليهم، ثم إنها لا تطعم خبزاً. إنهم لن يستخدموها متى كبروا إلا.. عائلياً!
فالعربية لم تعد، بالنسبة لأهلها، لغة العلم، أو لغة الفنون، فضلاً عن أنها ليست لغة ثورة المواصلات والاتصالات والكشوف العلمية المذهلة.
قد يرى البعض في هذا الكلام خروجاً على النص، وتوغلاً في الجرح المفتوح في الوجدان العربي.
لكن كيف السبيل إلى الهروب من الحريق في فلسطين حيث تلتهم النار الإسرائيلية القضية وشعبها وأرضه العربية.
وكيف السبيل إلى تجاهل الاحتلال الأميركي للعراق بكل التصدعات التي أحدثها في الوجدان كما في الواقع السياسي العربي، وأشعرنا بالمهانة والضعة وافتقاد اليقين والثقة بالنفس.
لقد تهاوى الكثير من المسلمات ومرتكزات اليقين، وبات علينا أن نواجه جدياً عيوبنا وقصورنا وأسباب تخلفنا وتقهقرنا.
ولا يمكن أن ننقذ لغتنا الجميلة إذا نحن لم نواجه عيوبنا مباشرة وفي عينيها… مع التمني بأن تكون هذه الندوة العلمية حول »اللغة العربية والعولمة« فرصة لمواجهة الذات في مجال شديد الأهمية والخطورة، إذ هو يتصل بمكونات الوجدان وبالقدرة على التعبير عن هذا الوجدان بكل ما يختلج فيه من آلام وآمال وتشوّق الى غد عربي أفضل.
(مقتطع من كلمة في ندوة »اللغة العربية والعولمة« التي نظمها المجمع الثقافي وعقدت برعاية جامعة دمشق)
محمد السماك وهولاكو الأميركي… فأين »قطز« العربي؟
»العلمانية أو فصل الدين عن الدولة لا يعني أن الحاكم ترك عقائده الدينية، بل إن آثارها تظهر جلية في قراراته السياسية وبخاصة عندما تصدر هذه القرارات عن حكام أقوى دولة في العالم وتتعلق بأخطر منطقة فيه«.
هذا التقديم للكتاب الجديد الذي أنتجه محمد السماك تحت عنوان »الدين في القرار الأميركي« والذي »يبيّن أن المسيحية الصيهونية هي المحرك الأساس للسياسة الأميركية الحالية في المنطقتين العربية والإسلامية، لأن الرئيس بوش ومعظم أعوانه ومستشاريه من أتباعها«.
ومحمد السماك الذي يعمل بدأب النملة، والذي لا يمل من محاورة المؤمنين معتمداً الدعوة »إلى كلمة سواء«، والذي ينتج بغزارة، تأليفاً وترجمة، وتجد لمساته ومساهماته في العديد من الندوات والمحاورات التي تحوّل النوايا الطيبة إلى النهج، قد ترجم أو ألف عدداً من الكتب التي تكشف عمق العلاقة بين الصهيونية المسيحية والاستغلال الديني في الصراع السياسي.
من كتابه الجديد اخترنا هذه الواقعة من الماضي التي تتكرر الآن على لسان الخصم، ولكن في غياب »قطز« العربي ومن بعده »الظاهر بيبرس«.
يقول محمد السماك:
»إن قراءة المفردات المستعملة في خطب وتصريحات الرئيس جورج و. بوش حول قوة أميركا العسكرية، وحول التهديدات التي وجهها إلى العراق، عشية مباشرة الحرب لاحتلاله، تشبه إلى حد بعيد، المفردات التي استعملها هولاكو في القرن الثالث عشر في رسالة الإنذار التي وجهها إلى الملك قطز، ملك مصر في عهد المماليك. في تلك الرسالة قال هولاكو:
»إنا نحن جند الله في أرضه. خلقنا من سخطه، وسلطنا على من حلّ به غضبه، فلكم بجميع البلاد معتبر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم، قبل أن ينكشف الغطاء وتندموا على الأخطاء. فنحن لا نرحم من بكى، ولا نرق لمن اشتكى، وقد سمعتم أننا فتحنا البلاد، وطهّرنا الأرض من الفساد، وقتلنا معظم العباد. فعليكم بالهرب، وعلينا بالطلب، فأي أرض تؤويكم؟ وأي طريق ينجيكم؟ وأي بلاد تحميكم؟ فما من سيوفنا خلاص، وما من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وأعدادنا كالرمال، فالحصون معنا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاكم علينا لا يُسمع«…
وردة في صحراء الغياب
ورد الصحراء يُذبله العطش، أما ورد المدينة فقد غادره عطره، ملتحقاً باليد التي كانت تنسقه وتحمّله رسائل ما بعد الكلام.
الليل ثقيل الوطأة بفراغه الذي تحتله الرطوبة، لا تعوّض الموسيقى المستعارة عن لهفة الحنين التي تمدد النشوة فوق مساحة الصمت فتجعله عميقاً كالصلاة ومنعشاً كابتسامة ما بعد القبلة الأولى.
تخترق اللهفة المسافات بسؤال القلق: هل تسمع لطائر الحب رفيفاً؟ لقد غادر عشه بغتة كمن يخاف مداهمة صياد مبكّر! إنني أسهر على العش حتى لا تقتحمه غربان الصحراء.
رفع رأسه إلى السماء الصيفية التي تغشيها الرطوبة بطبقة من الغمام الخفيف. كان شطر من قمر صيفي يتهاوى شاحباً في الطريق إلى الاكتمال. احتسب المسافة: كم يوماً يحتاج الضوء ليغزل الشطر الآخر مستولداً البدر الصحراوي الذي يدور في الفضاء المفتوح باحثاً عن ظله الذي أضاعه في غزوة ذات ليلة صيف.
قال لنفسه: هي خيمة السر. لا بد من نثرها خصلة خصلة حتى يتهاطل المطر مدراراً على صحراء الغياب، فينبت فيها الورد الذي يستدعيه الحضور.
حكاية: صيادة الحب عن بعد
وقع اللقاء الاول كصاعقة في سماء صافية: لم يكن يتوقع ان يلتقي بمثلها صبا في ذلك الاحتفال الرسمي بجوه البليد الذي ذهب إليه مضطراً وكان ينوي مغادرته بعد دقائق، ومن باب الخدم إذا اقتضى الامر!
حاول ان يتجاهلها ففوجئ بها تقتحمه، وحاول ان ينظر الى غيرها فإذا بالكل يحاصرهما بنظرات يختلط فيها الفضول بالتشوق الى حكاية ما تسلي هذه المجموعة من العجائز والعوانس في اوقات فراغها الطويلة.
همست بشيء من الحنق: هل تخاف مني؟
فوجئ بالسؤال وبنبرتها المستفزة فاكتفى بهزة من رأسه مع ابتسامة قصيرة.
قالت بصوت عال الآن: أليس في هذا الحفل موسيقى؟!
شده سفير سابق من كمه ليعرفه الى ضيف الشرف، وكان بعد تحت تأثير الصدمة، فإذا به يبادر الضيف بالقول: يبدو بلدنا مخيفاً للبعيد، فإذا دخله وجده آمناً، بل ربما أحبه…
ابتسم المضيف، في حين رد الضيف: لقد احببته على البعد، ولست ادري ان كان بإمكاني ان احبه اكثر وأنا فيه.
تدخلت في الحوار بغير طلب، قالت: بوسعنا دائما ان نحب اكثر! ليس للحب حدود. لعلنا نظل دائماً اضعف من ان نلبي احتياجنا الى الحب.
قرر ان يهرب من هذه المنازلة الطارئة التي لا يملك تصوراً واضحاً لنتائجها، ورأى فرصة ممتازة في اقتراب صديق غاب عنه منذ زمن، فمشى إليه ثم سحبه الى البعيد راجياً منه ان يغطي انسحابه.
حاول، في طريق العودة، ان يتذكر اسمها فعجز، وإن بقيت ملامحها ملء عينيه، وعطرها يغمره ولا يترك له باباً للنجاة، وصوتها يتردد بكلماتها المباغتة في ذهنه فيسد عليه باب الاجتهاد: لا مجال للالتباس، ولكن لماذا انفجرت بغير تحفظ أمام من لا تعرف؟
نسب الامر بداية الى ظروف خاصة تعيشها.. لكنها لم تكن تبدو تعيسة، ولا تعكس ملامحها او عيناها ضيقاً بحياتها. واستقر تفكيره آخر الامر على أنها تمارس بطولة المغامرة بالكلمات… وارتاح الى هذا الاستنتاج، وافترض انه قد عاد بحكاية مبتورة والسلام.
بعد أيام، وفي مناسبة رسمية اخرى، وجدها تجادل بعض المدعوين عن الحب من بعد، وحين لمحته تجاهلته تماماً، فكاد يندفع نحوها ليرد لها »التحية« بمثلها ثم لجم رغبته مكتفياً بهزة رأس خفيفة. وقال صديق كان يراقب الموقف: ألا تعرفها؟ إنها »الصيادة«! في كل حفلة تصطاد ضحية، تتسلى بها وتسلي الحضور، ثم تنصرف مزهوة بانتصارها الجديد على »آدم« الذي لا يفتأ يدعي انه قادر على إدخال كل النساء الى »حريمه«. إنها تقول إنها ستبني هرماً من »شنبات« الرجال!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
الحب يبتدع لغته، حتى الأمي يستطيع معه أن يقرأ ويكتب ويتحدث بلغة لم يكن يعرف منها حرفاً.
منذ حين أتابع طائري حب وهما ينسجان حكايتهما بالإشارة والهمهمة وحركة العيون. الحب هو المعلم الأعظم. إنه يخلق العشاق. الحب ألفباء الحياة.