تداعيات عراقية: الحاكم الوطن الدولة الاحتلال!
أين مكمن الخلل؟ أين مصدر الزلزال الذي يجتاحنا بين حقبة وأخرى؟!
ننام وفي تقديرنا ان في بلادنا »دولا« عربية، وان »للدولة« سلطانا بألقاب مفخمة او متوجة بأصحاب الجلالة والسمو، وحكومات يرأسها »اصحاب دولة« وتحتوي كمّاً محترماً من »اصحاب المعالي«، ووزارات وادارات، وهيئات قضائية، وجيوش فيها ضباط برتب سامية: فريق، مشير، لواء، زعيم، عميد… الخ، وفيها »وحدات خاصة« حسنة التدريب على الاقتحام وتسلق الجبال بالحبال، و»قوات« لمكافحة الشغب لا يفلت منها متظاهر ولو كان يموّه نفسه بطاقية الاخفاء…
تحدث هزة، كمثل حرب غير متوقعة!! او »غزوة« لم تكن مقررة!! او »هجوم غادر« من طرف العدو الذي احترف »مباغتتنا«، فإذا نحن في العراء: لا دولة، ولا حكومة، ولا جيش، ولا ادارة، ولا قوى أمن داخلي، ولا خزانة، وبالطبع لا كهرباء او هاتف، ولا قضاء… فنسّلم بقضاء الله وقضاء القوى الاستعمارية الباغية كارهين!
بل ان الهزة تتجاوز بمفاعيلها الدولة الى المجتمع ومؤسساته المدنية، فتتهاوى جميعاً، ولا تتبقى إلا المرجعيات الدينية كأعمدة الملح في صحراء التيه.
تتوالى الاكتشافات المفجعة: ان منظومة القيم في مجتمعاتنا في غاية الهشاشة، بحيث يمكن ان يخلخلها حدث عابر.
لكأننا في حفلة تنكرية يأتي إليها الكل في ألبسة او أقنعة تموه حقيقتهم لتقدمهم في شخوص »الرواية« التي »يمثلون«، فإذا طرأ حدث جلل سقطت الأقنعة، وافتُضحت الهويات الاصلية، وهرب كل منهم من »دوره« المزعوم.
العراق ليس »شواذا«. انه »النموذج« لاختصار الدولة في شخص »الرئيس« الذي لا يكتفي بأسماء الله الحسنى ألقاباً، ولكنه يمارسها فعلاً: فهو العليم، الحكيم، الجبار، المنتقم، القدير، المنير، الهادي، المهتدى به… الخ.
ثم انه الدين والدنيا وقد اجتمعا: فهو ايضا المفتي الاكبر والامام الاكبر والبطريرك الاكبر، وهو حفيد الرسول (ولو زوراً وبهتانا) وهو حامل مفاتيح الجنة، وهو ايضاَ القيّم على جهنم يرسل إليها من يغضب عليه او يشك في اخلاصه له او يُشرك في حبه أحداً غيره.
… فإذا ما سقط »الحاكم« اندثرت الدولة تماماً، وتهاوت منظومة القيم الاجتماعية التي اعيدت صياغتها لتكون بمثابة »حزام العفّة« حول سمعة الحاكم المتألّه.
أين المجتمع في ظل هكذا طغيان يمتد من السياسة الى الاقتصاد ومن العسكر الى الثقافة ومن الزراعة الى الطب والهندسة، ومن علم الفلك الى الدين والاخلاق والعلاقات الأُسرية؟!
هل يُستغرب في مجتمع كهذا، ان تكون القيم الاجتماعية السائدة هشة بحيث يمكن ان تتحطم مع اول صدمة مع »المختلف« عن »المقرَّر«؟!
لا يحتاج الأمر الى احتلال اميركي بقوة العدوان العسكري وصواريخه العابرة القارات وقذائفه الخارقة للاعماق!
ان كتابا واحداً مخالفاً للسائد قد يهز مثل هذه المجتمعات فيصدعها ويتركها مشلولة في مواجهة هذا »الطارئ« الذي لم تستعد له!
ليس ضرورياً ان يكون المؤلف بمستوى نجيب محفوظ في »ابناء حارتنا« او سلمان رشدي في »الآيات الشيطانية«، او حتى حيدر حيدر في »وليمة لأعشاب البحر«… يكفي ان يتجرأ كاتب مغمور على مخالفة »السائد« لكي تثور ثائرة الهانئين في قلب ركود المستنقع.
ان »فورات غضب« قد اصطُنعت في مواجهة كتاب جنسي رديء، او في مواجهة كتاب نقدي لسياسات بعض الخلفاء الذين حكموا باسم الاسلام، او في الرد على كتاب حاول ان يناقش بعض »السائد« من المفاهيم المعتبَرة إسلامية، او من »التقاليد« المصنَّفة إسلامية، سواء في ما يتصل بالزواج والإرث او الحجاب فضلاً عن مبطلات الوضوء والسنة في اللباس او الشارب او شعر الرأس!
ان عصمة الحاكم اليوم امتدت بأثر رجعي على عصمة الحكام السابقين، لا سيما من رأى فيهم »الطاغية« خلَفه الصالح وحاول إيهام الناس انه »وريثهم« الشرعي!
وبقدرة القادر تحول الحاكم المعاصر الى »خليفة«، بل انه صنف نفسه امتداداً للخلفاء الراشدين، يتمتع بحصانة مثل حصانتهم، بحيث يغدو نقده مدخلاً الى »الفتنة الكبرى« مجدداً!
ولأن الحاكم مقدَّس فهو فوق الوطن. يصبح الوطن هبة من الحاكم، وتصبح دولة الوطن تجسيداً لإرادة هذا الحاكم المقدس، لا تكون إلا به فإذا زال زالت… ذلك ان الدولة اهم من الوطن، والحاكم اهم من الدولة… ولا بأس من التفريط بالوطن ان بقيت الدولة الشخص الخليفة الحاكم بامر الله والممثل الشرعي الوحيد للارادة الالهية في اقوام الرعايا الذين لا يكونون إلا به.
ولان الحاكم الفرد يتحكم بإعادة صياغة المجتمع وقيمه، وبمواقع ممثلي الرعايا وصلاحياتهم، فإن منظومة القيم الاجتماعية تنقلب رأساً على عقب، هذا اذا بقيت »منظومة«!!
على هذا، لا تعود خيانة الوطن جريمة إن كانت لمصلحة الحاكم وفي خدمته…
بالمقابل، فلا أهمية »للمستوى« في اي مجال من مجالات الانتاج!
وبديهي ان تسود الرداءة في كل جوانب الحياة العامة التي لا تتصل مباشرة بشخص الحاكم المتألّه وبطانته: نافقِ الطاغية واشتمِ الوطن، امتدحِ الطاغية ودمِّر الاغنية الوطنية، انظمْ قصيدة في الطاغية ودمِّرِ الشِّعر،
وماذا إذا ما تردَّت الحياة، طالما ان »البطل المظفّر« يجول فوق حصانه المطهّم بين قصوره واستراحاته المتناثرة في مختلف ارجاء البلاد؟!
ما اهمية الكتب المدرسية، ومدى ما يتعلم فيها الناشئة من صح او غلط، طالما ان أغلفتها تحمل رسم »القائد المعلم«، وفي بداية كل فصل منها بعض اقواله الخالدة؟!
وماذا إذا ما تردّت الموسيقى، واذا هبط مستوى الغناء، واذا ما اندثرت السينما، طالما ان التلفزيون يعوّض الناس عن ذلك كله بلقاءات القائد، وتعاليم القائد، وخطب القائد، والقصائد التي حُولت الى اغان او الى »فيديو كليب« توصل صوت القائد وصورته الى كل الناس؟!
الحاكم حصيلة جمع الوطن والشعب. كلما سمت مكانته كان ذلك ارتقاءً بالشعب الى السماوات العليا وتوطيداً لمكانة الوطن بين الامم.
ومن حول الحاكم وبما يتناسب مع مزاجه السامي تمكن صياغة منظومة القيم الاجتماعية…
لذا، فإن سقوط الحاكم يُفجع المجتمع الذي نسي ما كان قبل حاكمه الفرد، ولا يعرف شيئاً عن بَعده، فإذا الدولة ركام، وإذا الشعب مزق وأشتات من الرعايا المقطوعي الرؤوس، وإذا الوطن في مستوى الاحلام.
وفي انتظار عودة الوعي يتحكم الاحتلال بإعادة صياغة المفاهيم ومنظومة القيم الاجتماعية… لتبدأ، ولو بعد حين، حركة النضال ضد الاحتلال التي وحدها إذا ما كانت معافاة فنجحت يمكن ان تعيد صياغة المجتمع بما يكفل بناءً صحيحاً لدولة الوطن!
القبيلة التي شردتها الآهات!
تلاقى العائدون الى منبع النشوة بعد طول افتراق: كانوا يتزاحمون على مقاعد السفر الى النسيان!
المصعد لا يتسع لكل هذه الاثقال: اترك همومك لريح البحر تذرُها في الفضاء الفسيح، وتخفف من سمات الوقار التي احتلت وجهك حتى كدت تنكره، وادخل الى سفينة نوح التي سترتفع فوق الطوفان.
نغمة، نغمتان، ثم ارتفع الموج رقيقاً رقيقاً، وكانوا يرتفعون معه الى ذواتهم المهجورة منذ زمن بعيد.
انتظم النغم نهراً متدفقاً وأخذ يحفر مجراه الى ما خلف الحزن.
صار البدوي ساحراً: أخرج من صدور الجمع آهات معتَّقة كانت تختزن الوجع، وأعاد الى عيونهم الضياء والقدرة على اختراق الحجب، وأعاد الى آذانهم الصمّاء سمعها، فإذا هم يصغون الى ابتهالات إلهة العشق ويطربون…
صار السباق ممتعاً: بين نقرات الوتر ونبضات القلوب التي كان اصحابها قد اغلقوا عليها ابوابها فنسيت كيف تقول الحب.
رق الحبيب حتى بات روحاً مطلقة تتغلغل في النفوس التي هجرها الوعي فغفلت عن طبيعتها وغرقت في تيه اليباس وبلادة المكرَّر.
رق الحبيب حتى صار فجراً، ورق الفجر حتى صار نغما، ورق النغم حتى صار خيمة تؤوي إليها تلك القبيلة التي شردتها الآهات!
كرسي فارغ لنشوة مشرَّدة!
طغى حضور الكرسي الفارغ حتى ملأ المكان، وألغى وجود الحاضرين.
وحين انهمك الاصدقاء في احاديث الذكريات كان المقعد المنتظر صاحبه يثرثر بلا انقطاع، ربما ليبرر الغياب، وربما ليغطيه او يعوضه.
جاء رفاق سهر بشوقهم، بعضهم حيّا واقفاً ثم قصد مقعده، وبعضهم تجرأ فاقتحم فراغ الكرسي الممتلئ بالغياب.
تعلقت العينان بالباب الذي كان ينفتح بين برهة واخرى ليدخل المزيد من الباحثين عن النسيان، او ممن يملكون فائضاً من الوقت قد يصلح لمصادفة التلاقي مع غرباء يبحثون عن غرباء ليحبوهم.
ارتفع صوت المطرب بأغنيات طالما أحب ان يسمعها، وانتشى الجمع الواقف على حافة السكر، وداخ الباب لكثرة ما انفتح على سر وأغلق على آخر.
لكن الكرسي الفارغ ظل يصرخ في الفراغ فيعكر صفو السامعين!
وظلت النشوة في الخارج لا هي دفعت الباب لتدخل، ولا خرج إليها من ذلك الباب من ينام في ظلها الوارف.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ليس للحب عمر. نمشي الى الكهولة والحب فينا، لا يخذلنا فيغادرنا الى غيرنا لأنه »للشباب فقط«. الحب لا يشيخ ويمنع عن المحبين الاحساس بثقل العمر. كلمة »حبيبي« تديم الربيع في صدري وفي ارادتي وفي علاقتي بالحياة. لكن حبيبي بخيل لا يقولها إلا مرة مع كل نفَس من أنفاسه!