صورة قديمة للمدن التي يهدمها مجدداَ الكاوبوي الأميركي…
إلى ما قبل أيام كانت في العراق مدن عامرة، فيها اسواق ومساجد ومقاه ومشارب وبيوت، كثير من البيوت، تفصل بينها طرق تظللها الاشجار، الكثير من الاشجار، تتقافز بينها عصافير، الكثير من العصافير، وتخطر فيها بين العصر والمغرب أسراب من الحمام، فتختلط أصوات المؤذنين بالهديل مشكلة موسيقى ذات شجن لنهاية النهار.
… وقبل أيام، وفي ظل التدمير المنهجي للعراق بمدنه وقراه ودساكره، وصلتني هدية ثمينة هي عبارة عن مجموعة من كتب منتقاة عن ادب الرحلات، وقد انتبه إليها أحد حراس الثقافة العربية والمشرف على المجمع الثقافي في ابو ظبي، محمد احمد السويدي، فاستعان بمجموعة ممتازة من المدققين والدارسين والبحاثة، لإعادة اصدار سلسلة مختارة منها في كتب انيقة الطباعة مدققة المضمون.
بين هذه الكتب، وربما افضلها، »رحلة المقدسي احسن التقاسيم في معرفة الاقاليم«، وقد حررها وقدم لها شاكر لعيبي.
أما المقدسي فهو محمد بن احمد، من ابناء بيت المقدس في فلسطين وقد قام برحلته في نهايات الألفية الاولى 995985، وأما ما اخترته هنا فهو اجزاء من حديثه عن العراق، وعن بغداد بالذات.
بدأ المقدسي حديثه عن العراق الاقليم فوصفه بالكلمات التالية:
هذا إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء. لطيف الماء، عجيب الهواء، ومختار الخلفاء. اخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء. ومنه كان ابو عبيدة والفراء، وابو عمرو صاحب المقراء. وحمزة والكسائي وكل فقيه ومقرئ واديب، وسري وحكيم وداه وزاهد ونجيب، وظريف ولبيب. به مولد ابراهيم الخليل، وإليه رحل كل صحابي جليل. أليس به البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، والكوفة الجليلة وسامرا، ونهره من الجنة بلا مرا. وتمور البصرة فلا تنسى ومفاخره كثيرة لا تحصى. وبحر الصين يمس طرفه الأقصى، والبادية الى جانبه، ومعدن السمك، جامع الحجاج وقبته في الغربي في طرف الاسواق بعيد عن الشط متشعث عامر بالقرآن، اختطها الحجاج وسميت واسط لأنها بين قصبات العراق وبين الاهواز، رفقة صحيحة الهواء عذبة الماء حسنة الاسواق واسعة السواد، وقد جعل في طرفي الجسر موضعان يدخل فيهما السفن، وفيهم ظرف. وسائر مدنها صغار مختلف اعمرها الطيب وقرقوب، إلا ان ناحيتها جيدة.
بعد ذلك ينتقل الى الحديث عن بغداد… فيقول:
÷ بغداد: مصر الاسلام، وبها مدينة السلام. ولها الخصائص والظرافة، والقرائح واللطافة، هواءٌ رقيق، وعلم دقيق. كل جيد بها، وكل حسن فيها، وكل حاذق منها، وكل ظرف لها، وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وكل ذبٍّ عنها. هي اشهر من ان توصف واحسن من ان تنعت وأعلى من ان تمدح. احدثها ابو العباس السفاح ثم بنى المنصور بها مدينة السلام وزاد فيها الخلفاء من بعده. ولما أراد بناء مدينة السلام سأل عن شتائها وصيفها والامطار والبق والهواء، وأمر رجالاً حتى يناموا فيها فصول السنة حتى عرفوا ذلك ثم استشار أهل الرأي من اهلها فقالوا نرى ان تنزل اربع طساسيج في الجانب الشرقي بوق وكلواذي، وفي الغربي قطربل وبادوريا، فتكون بين نخل وقرب ماء، فإن اجدب طسوج او اخرت عمارته كان في الآخر فرج، وانت على الصراة تجيئك الميرة في السفن الفراتية، والقوافل من مصر والشام في البادية، وتجيئك آلات من الصين في البحر، ومن الروم والموصل في دجلة، فأنت بين انهار لا يصل إليك العدو إلا في سفينة او على قنطرة على دجلة وفرات. فبناها اربع قطع: مدينة السلام وبادوريا والرصافة وموضع دار الخليفة اليوم. وكانت احسن شيء للمسلمين واجل بلد وفوق ما وصفنا حتى ضعف امر الخلفاء فاختلت، وخف اهلها، فأما المدينة فخراب، والجامع فيها يعمر في الجمع، ثم يتخللها بعد ذلك الخراب. أعمر موضع بها قطيعة الربيع والكرخ في الجانب الغربي، وفي الشرقي باب الطاق وموضع دار الامير، والعمارات والاسواق بالغربي اكثر، والجسر عند باب الطاق الى جانبه بيمارستان بناه عضد الدولة، حصل في كل طسوج مما ذكرنا جامع، وهي في كل يوم الى ورا، واخشى انها تعود كسامرا، مع كثرة الفساد والجهل والفسق وجور السلطان.
وذكر الشمشاطي في تاريخه أن المنصور لما أراد بناء مدينة السلام، أحضر أكبر من عرف من أهل الفقه والعدالة والأمانة والمعرفة بالهندسة، وكان فيهم أبو حنيفة النعمان ابن ثابت والحجاج بن أرطاة، وحشر الصناع والفعلة من الشام والموصل والجبل وسائر أعماله وأمر بخطها وحفر الأساسات في سنة 145 وتمت في سنة 149. وجعل عرض السور من أسفل خمسين ذراعاً، وجعلها بثمانية أبواب أربعة داخلة صغار وأربعة خارجة كبار، باب البصرة وباب الشام وباب خراسان وباب الكوفة، وجعل الجامع والقصر وسطها، وقبلة جامع الرصافة أصح منه. ووجدت في بعض خزائن الخلفاء أن المنصور أنفق على مدينة السلام أربعة آلاف ألف وثمانمئة وثلاثة وثلاثين درهماً، لأن أجرة الأستاذ كانت قيراطاً والروزكاري حبتين.
غادة السمان ومنشورها السياسي »البوم«.. شعراً!
في بيوتنا الريفية العتيقة التي سطوحها من تراب وجدرانها من طين وسقوفها من خشب، كنا نتوارث »التشاؤم« بطير البوم. لم نكن نلمح هذا الطير الجاحظ العينين الغليظ الصوت الا نادرا، فهو من أهل الليل ولم تكن الكهرباء قد فضحتنا وفضحته فأبعدته.
كنا نسمع صوته أحياناً، أشبه بالشكوى، على حافة البكاء.. أما ظهوره فكان »حدثاً« يستنفر الجميع: الآباء الذين يستعيذون بالله من الشيطان الرجيم، والأمهات اللواتي يلجأن الى شفاعة الله وأنبيائه والأولياء الصالحين، والفتية الذين كانوا يخرجون إليه وقد جمعوا الحصى وأخذوا يتبارون في من يصيبه أولاً فيكسر جناحه ليصطاده حياً. وهؤلاء لم ينجحوا أبداً: كان »يهرب« منهم، إلى حيث لا تطاله حصاهم، فيختفي عن أنظارهم ثم يطلق »نعيبه« فيخافون ويرتدون إلى منازلهم. وفي داخلهم شيء من الفرح بأنه ما زال حياً.
لم يكن ثمة سبب لأن يخصه الناس بكراهيتهم، فهو لا يكلفهم شيئاً، ولا يزعجهم مطلقاً، فلا هو من هدم المهدم من البيوت، ولا هو السبب في أي خراب، وإن كان الخراب يستدعيه.
قبل جيل واحد فقط ظهر من يتبنى قضية رفع الظلامة عن البوم.
برزت غادة السمان في ثوب القاضي لا المحامي وقلبت الآية: أعادت تقديم البوم في صورته الأصلية كطير جميل، و»أنسنته« فإذا هو رقيق الحاشية، يحمل على جناحيه خطايا الناس، مرآته القمر، يكره الاضواء، يطير بين قارة منتصف الليل وقارة الفجر، ينشد طوال الليل أحزانه… يرفض التسول العاطفي، لا يهز ذيله ككلب، ولا يحبس في قفص يغرد لذله، لا يباع، يستعصي على التدجين فلم يره أحد مرة في سيرك!
ولقد أخذ حب البوم غادة السمان إلى الشعر.. وها »ديوانها« الجديد »الرقص مع البوم« قصيدة حب طويلة، تتسع للموقف من الحياة والناس والجمال والحرية والحزن.
ولأن العشق بين غادة والبوم قديم وموصول، فهي لم تعد معنية بالدفاع عن البوم. البومة الآن في موقع الهجوم، وكيفما وجهت ضرباتها أصابت مقتلاً في حسادها وكارهيها والذين يحمّلونها أوزار فشلهم وخيباتهم وخطاياهم الثقيلة.
الديوان الجديد الذي لم تهجر فيه غادة القصة وإن وظفتها مع الشعر لمطالعتها الهجومية البليغة التي جاءت أقرب ما تكون إلى المنشور السياسي، يكفي ان تجمع عناوين »القصائد« لتكتشف كم ان غادة قائدة هجوم ماسح كاسح على »أعداء البوم«، لحماية هذا الطائر اللطيف الجميل.
لم تكتب غادة في ديوانها هذا حرفاً خارج السياسة. انها ارشق قلم روائي »دس« لنا السياسة في قصص الحب وحكايات الموت ومآسي القتل على النية أو على الهوية.. وهي في ديوانها الجديد تكاد تدينك بنقص الوطنية ان لم تستجب لدعوتها إلى الحب، ثم الحب، ثم الحب… والبومة عنوانه من اخطأ فيه اخطأ في السياق جميعاً!
هو منشور سياسي لأن غادة تقول بلسان حبيبها البوم آراءها جميعاً: في الحاكم الظالم، في السياسة، في وطنها العربي الذي ستحبه قرناً آخر، في الموسيقى، في الشعر، في القمر، في السلاحف والصقر والديك، في »طالبان«، في الشك والكبرياء، وخاصة في الكبرياء، ثم في الحاكم المحتل، في بيروت ودمشق وأولاهما عمر العشق والثانية عشق العمر، في المكابرة والجنون، في المسافة بين البكاء والكبرياء وذكريات الياسمين.
»متكئة على أنقاض وطني في المسافة بين الجعة والشمعة… وذكريات البارود والدم
عينان زرقاوان تمطران افراحاً، وفم ينفث دخان غليونه عطراً«.
ان السياسة في هذا الديوان المنشور تتلفع بثوب مرقش من لغة مرهفة تكاد تنكسر تحت وطأة ما حُملت من مضامين وقيم ورؤى وأحلام:
السياسة… أجل، بمعناها الشامل.
مع قليل من التحريف يصير هذا الديوان سيرة ذاتية لغادة السمان، التي تختار دائماً من النظارات ما يجعلها أكثر شبها ببومتها المحبوبة: أحب ان اظل مقيمة داخل جسدي، كي أذهب إليك وأفرح بلقائك، وليظل حبنا غرفة لشخصين داخل ذاكرة. الحب لحظة جمالية عابرة مترعة بأجمل أكاذيبنا، فلا تقترب كثيراً كي لا تصير بعيداً.
ليس البوم، بل غادة ثقيلة الاحمال تحمل على جناحها خطايا الناس.
ولذلك فهي تكشف امراء كذبة نيسان: لو صدقت ليلى مجنونها قيس لكف عن كتابة الشعر، ولخانها مع حسناء الخيمة المجاورة.
البوم الحب، الحب البوم، الحب الموت، الموت الحب، الموت الشعر، الشعر الحب: أنت لا تطلق سراح اللحن إلا حين تكسر العود!
غادة بومة قلبها في بيروت: ما زلت أحبك رغم كل شيء، ففي شواطئك تعلمت كيف أشرب ضوء القمر في صدفة بحرية.
غادة لها عينا بومة. و»العين نافذة بلا ستائر لذا أحرص على ارتداء نظاراتي السوداء حين ألتقيك«.
غادة السمان: لقد نجحت هذه المرة أيضاً. جعلتنا نزداد عشقاً للحياة بطوفان حبك هذا الذي أخذك إلى الشعر وأعادنا إليك.
من أقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
لم أعرف حبيبي رقيقاً كالشعر، صلباً كالايمان، متدفق العاطفة كفيضان دجلة إلا في زمن الحرب المفروضة هذه.
ليس أبهى من الحب حين يصير الرجل وطنك ويصير وطنك حبيبك.