عاشوراء العرب والمسلمين.. بين طفولتين!
في طفولتنا الأولى كنا نتسلل إلى »مجالس العزاء« المحظورة على الصغار واليافعين، نتلطى خلف أبواب البكاء، ننتظر أن تفرغ النساء من النواح على الشهداء الذين صرعهم الظلم في كربلاء، لننال حصتنا من البسكويت وراحة الحلقوم، مقابل أن نقرأ الفاتحة ترحما، وأن نلعن الذين قتلوا ورثة الأنبياء.
كان الرجال يقبعون خارج »المقام« مختنقين بعار »أجدادهم« الذين تخلفوا عن نصرة الحق، وخجلهم هم من أن يواجهوا متأخرين الظلم بدموع لا تردعه ولا تمنع المذبحة، فإذا ما انتبهوا إلينا اتخذوا من »خرقنا« لتعليماتهم ذريعة للصياح تنفيساً لما في صدورهم من غيظ مكبوت أو حرقة على الدم المراق ظلماً وتجنباً للبكاء الذي يرون فيه إهانة للشهادة والشهداء… فضلاً عن رجولتهم!
كانت »عاشوراء« مناسبة حميمة، كسر عائلي، كتجربة فريدة في حب المطلق عبر الأسماء التي أسبغت عليها الشهادة إضافة إلى النسب ملامح القداسة. وكان الحزن فيها كثيفاً يليق بوقائعها المفجعة، وكان معنى الاحتفال كاعتراض على الظلم وتأكيد رفضه، عميقاً يليق بدلالاتها السياسية وبرموزها الإنسانية الباهرة.
وفي عيوننا، نحن الأطفال، صار العراق موطناً للبكاء، وصار الفرات نهراً من الدم الطاهر المصفى وصارت كربلاء ملحمة الشجن، واكتسب الحسين ملامح البطل الإنساني النبيل.
لم تكن تجارة »المصرع« قد انفتحت على مصراعيها، بعد.
لم يكن ثمة من احترف »استبكاء« الناس، ولا من أتقن بل وفلسف »البكاء المصنع«.. ولم تكن »مجالس العزاء« قد غدت استثماراً سياسياً مجزياً، يتوسله الطامحون إلى الزعامة طريقاً سريعاً، بالمبالغة المنافية للعقل، و»بالأسطرة« التي تضرب العاطفة الصادقة، وبتحويل اللعنة من القتلة والحاكم الظالم يومذاك، إلى »الآخرين« كل الآخرين الذين لا يشجون رؤوسهم ولا يرفعون أصواتهم بعويل مصطنع، ولا يشقون أثوابهم مبالغة في إظهار الحزن.
وكانت رواية »المصرع« بسيطة إلى حد السذاجة، كالحقيقة، وكان »القارئ« شبه طبيعي، ميزته في »صوته الحنون« وفي ذاكرته التي لا يضعفها التأثر، وكان الجمهور يجيء بإيمانه لا بعصبيته، تشده ذكرى الحسين وعائلته المباركة أكثر مما يستنفره الحقد طلباً لاستعادة سلطة مغتصبة، ولم يكن التزوير ضرورياً أو مطلوباً بوصفه المدخل إلى زعامة أو وجاهة راهنة، تمسحاً بذكرى الذين خلدهم رفضهم الخضوع لسلطة باغية، بينما أصابت اللعنة الحكام والمتحكمين.
كان الحزن نبيلاً يليق بالشهادة، لم تتحول مظاهره المدعاة إلى مدخل البروز السياسي، عبر مدخل طائفي، بل مذهبي، وإلى »سبق صحافي« تتنافس عليه المطبوعات والإذاعات والفضائيات التي تزايد في شراء الفضائح والصور الطريفة (دموع الزعماء غالية…).
وكانت عاشوراء مناسبة لاستذكار ما لا يجوز نسيانه من أن الرسالة أسمى من الحكم وأقدس، وأن السلطة غالباً ما تكون نقيضها، ولو حكمت باسمها، بالسيف أو بالدينار أو بكليهما معاً، وأن مقاومة الخطأ والظلم والعسف والتزوير لا تكون إلا بالناس المؤمنين والمهيئين بوعيهم والمعرفة لخوض نضال طويل وعبر عمل منظم وجهد دؤوب مع استعداد مفتوح للتضحية وبوعي صارم لأهمية التوقيت وحتمية التحالفات والقراءة الدقيقة للحظة السياسية.
… أما في »طفولتنا الثانية« فقد بات مقدراً علينا ان نعيش في كربلاء مفتوحة تمتد بامتداد الوجود العربي والإسلامي، نموت غالباً خارج الشهادة، ونعيش عموماً خارج الرسالة!
***
في »طفولتنا الثانية« نقرأ حكايات ملفقة عن وقائع الماضي فتكاد تأخذنا الى الفتنة في الحاضر.
في »طفولتنا الثانية« يراد لنا ان نستحضر كربلاء وأن ننسى العراق، وأن نستذكر الحسين بالبكاء ونغفل مقاومة الظلم، ولو كان جباراً عاتياً، بما ملكت أيدينا.
في »طفولتنا« الثانية يسحبنا البكاؤون بعيداً عن فلسطين. يغلقون علينا المنافذ بالرايات السوداء، ويطاردوننا بأشباح القتلة في الماضي (الذين لا يجوز ان ننساهم او نغفر لهم) فيطمسون صور قتلة شعوبنا في أيامنا هذه.
الحسين، اليوم، هو كل فلسطين، وهو كل العراق، وهو كل هذه الشعوب العربية المهددة في يومها وفي غدها وفي مصيرها.
لقد جاء زمن المواجهة، بدلاً من البكاء: مواجهة الحاكم الظالم المختبئ تحت عباءة الاحتلال، وعلينا ان نواجه القتلة جميعاً، من أرييل شارون وسائر السفاحين الذين تجمعوا في حكومته العنصرية الجديدة ليشنوا حرب الإبادة ضد فلسطين وأهلها، الى إدارة جورج بوش وسائر الطغاة ومفلسفي صراع الحضارات الذين توحدوا في »الحملة الصليبية« ضد الإسلام والمسلمين، وضد المسيحيين الصادقين أيضاً. فهذه جماهير فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وحتى بريطانيا، تملأ الشوارع بقبضات الغضب ورفض الحرب الباغية ضد فلسطين وضد العراق وسائر العرب. وها هو البابا في روما والبطريرك الماروني ومعه المطارنة في لبنان يقولون: لا لقتلة الشعوب!
في طفولتنا الأولى كانت المأساة تخص خلق الله كلهم: حاكم ظالم يواجه بالبطش حتى الابادة، صاحب رسالة… لم تُفهم واقعة كربلاء على أنها »مذبحة« ضد الحسين وأهل بيته فقط، بل رأى فيها الناس مأساة للأمة، كل الأمة، ومأساة للدين الحنيف كله. فالرمز فيها جلي لا يمكن طمسه او التخفيف من توهجه إلا بالمبالغة، وبحرف الدلالات عن غايتها الأصلية.
وفي »طفولتنا الثانية« تزايد عدد القتلة، وتعاظمت قوتهم، أما الضحايا فصاروا بعشرات الملايين.
وأبسط شروط المواجهة ان يتوحد الضحايا.
»الشهداء« يخرجون لاستقبال »قاتلهم«
في »طفولتنا الأولى« شكلت ثورة الجزائر ضد الاحتلال الاستيطاني الفرنسي النموذج الفذ في بطولة المواجهة يقوم بها شعب مستضعف، أُنكرت عليه هويته، ومُنع من ممارسة دينه، بل ومن معرفته أيضاً، فكيف يعرف الإسلام من يُمنع من تعلم اللغة العربية ليقرأ القرآن ويفهم دلالاته ومعانيه السامية؟!
وعبر سني الكفاح الثوري المجيد، والمواجهة الباسلة، والالتفاف الشعبي العارم الذي وحد المشرق والمغرب، والاسناد المتميز الذي قدمته مصر الثورة بقيادة جمال عبد الناصر، جرى دم الشهداء نهراً، وانخرط الجزائريون جميعاً، أهل الغرب وأهل الشرق وأهل الشمال وأهل الجنوب، العرب والبربر والشاوية الخ، في مسيرة النضال العظيم…
وانتصرت »ثورة المليون شهيد« فتحررت الجزائر واستعادت هويتها الأصلية، وبدأ أبناؤها »يهدرون« بالعربية، وارتفع صوت الأذان من فوق منارات المساجد التي تزايدت أعدادها أكثر مما يجب، كما هي التقاليد المتبعة: الإكثار من المساجد بطريقة طردية مع تناقص عدد المصلين، والإنفاق المتعاظم على دور العبادة، طلباً للوجاهة… فالمال منهوب من أهله، لكن التمسح بالمساجد قد يعيد إلى »المتبرع« شيئاً من الاعتبار، كأنما سارق المال العام وظالم الناس في رزقهم وأسباب أمنهم في حياتهم، يمكن أن »يشتري« السمعة الطيبة أو صفات »المؤمن«.
… أما في »طفولتنا الثانية« فقد رأينا شعب الجزائر يخرج برجاله ونسائه وشبابه وأطفاله لاستقبال الرئيس الفرنسي الذي جاء في زيارة إلى »المستوطنة المستعمرة« السابقة، بعد أربعين عاماً من استقلالها، ليجدها كأنها نادمة على الثورة وعلى التحرر وعلى عودتها إلى هويتها العربية.
وقال أحد الخبثاء: إن الشهداء جميعاً قد خرجوا مع أولادهم لاستقبال مستعمرهم السابق… وان المليون شهيد هم الذين هبوا للترحيب بجاك شيراك، بينما اندفع مليون آخر من ذويهم إلى استقباله في وهران.
وقال خبيث آخر: إن الذين خرجوا إلى الشوارع يرحبون بشيراك ليسوا إلا جمهور الشباب الذين يطمحون إلى الحصول على تأشيرة دخول إلى فرنسا، هرباً من البطالة في بلادهم.
أما رمز الثورة الجزائرية الذي خلعه عسكرها وهو يكافح لتعريبها فلم يجد، بعد خروجه من السجن، من يوفر له المقام الآمن إلا… فرنسا التي قاتلها سنوات طويلة وسجنته سنوات أطول، لكن »رفيق كفاحه« وصديق عمره الذي خلعه من سدة الحكم قد أمر بسجنه بغير محاكمة أكثر من مجموع مدة النضال ضد الاستعمار والحبس في سجونه البعيدة.
ندمر قوتنا.. ويبقى الذين ضيعونا!
في »طفولتنا الأولى« عشنا لحظات فرح نادرة ونحن نقبع أمام الشاشات الصغيرة نتفرج على انطلاق الصواريخ العربية الأولى التي أنتجها العرب، بمعاونة معلنة مع خبراء ألمان علموا ودربوا وخرجوا أجيالاً من العلماء العرب في مصر ثورة عبد الناصر.
انطلق »الظافر« وبعده »القاهر« فبلغت قلوبنا الحناجر، وتساقطت دموعنا ابتهاجاً وافتخاراً وثقة بأننا قد دخلنا أخيراً ساحة المواجهة المفروضة علينا مع العدو الإسرائيلي من موقع المقتدر، علماً وقوة وكفاءة في استخدام المتطور من السلاح.
ثم جاءتنا »النكسة« بخيبات غير محدودة، وبكينا هذه المرة بدموع من دم، لأن الحرب التي ذهبنا إليها بأقدامنا انتهت قبل أن يتاح لجيوشنا المطهمة أن تستخدم أسلحتها.
منذ ذلك اليوم، 5 حزيران 1967، لم نعد نسمع بالصواريخ العربية، ولم نعرف أين اختفى »الظافر« و»القاهر«.
في »طفولتنا الثانية« نعيش واقعة أقسى بمرارتها وبالمهانة التي تجعلنا نتجرعها فنكاد نختنق بجراحها التي لا تداوى:
مع مغيب الشمس من كل يوم نسمع »الإحصاء الأخير« لعدد الصواريخ العراقية من طراز »الصمود 2« التي فرض على النظام العراقي فوافق أن يفجرها، باعتبارها »مخالفة« لقوانين محاكم التفتيش التي تمزق الآن كرامة العراق وقدراته العلمية والعسكرية والاقتصادية الخ…
فقط، لو كان لهذا الصاروخ اسم آخر!
فقط لو اننا لم ننتج مثل هذه الأسلحة المتطورة التي نعجز عن حمايتها، فكيف باستخدامها؟!
في »طفولتهم الأولى« كان العرب الأولون يئدون بناتهم منعاً لعار قد يصيبهم بسببهن!!
أما في »طفولتهم الثانية« فإن حكام الهزيمة يئدون الأسلحة التي أنتجت بعرق الجباه والعقول والزنود وبثمن الخبز!
وفي »التاجي«، التي لا تبعد عن بغداد أكثر من أربعين كلم، مقبرة للكفاءة العربية في مجالات العلم والعمل والانتاج، مقبرة لكرامتنا.
ندمر صواريخ الدفاع عن أرضنا، ويبقى الذين ضيّعوها!
من اقوال نسمة
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
أعظم عطايا الحب أنه يمنحك سعادة غير محدودة.
أحيانا أشعر بالرغبة في ان أقف على مفترق الطرق، فأوزع من سعادتي على الغادين والرائحين. الحب »سبيل« من السعادة، لكل عاشق او معشوق، فيه نصيب… أما من لم يعشق بعد فله نصيبان، لعله يهتدي الى إنسانيته.