فلسطينيو لبنان: صورة جانبية لمأساة قومية!
في شتاء 1949، وفي قرية رشميا، قضاء عاليه في جبل لبنان، رأيت وأنا فتى في العاشرة الصورة الأولى للمأساة العربية التي سيًقدّر علينا أن نعيش في ظلها طوال العمر: نجاح المشروع الصهيوني في احتلال معظم فلسطين وإلحاق الهزيمة بشراذم الجيوش العربية، واقتلاع الشعب الفلسطيني من أرضه ورميه في برد الشتات »كلاجئين«!
أتذكر تلك الصورة الأولى بتفاصيلها الدقيقة:
توقفت شاحنة عسكرية مغطاة بشادر، تتبعها حافلة متصدعة الهيكل، في ساحة القرية، وسط جمهرة بسيطة من الأهالي، وبإشراف المختار ورئيس مخفر الدرك وكاهن الرعية، أفرغت السيارتان »حمولتهما«،
ترجل الرجال والنساء والأطفال الآتون من البعيد بصمت موجع. كانت عيونهم تنضح بخليط من الانكسار والرعب وبكت بعض النسوة وهن يتلقين دفعة المطرودين من نعيم فلسطين تطاردهم أشباح السفاحين الإسرائيليين وهم يقتلون الناس والبيوت والأشجار والضوء ويطردون التاريخ من أرضه.
بعد زمن كان عليّ أن أعيد اكتشاف بعض الوقائع التي لم أكن مستعدا لأن أنتبه إليها وأدرك مراميها، إذ عرفت متأخرا ان النازحين الفلسطينيين الهاربين من الموت قد تم فرزهم فور وصولهم إلى لبنان على أساس انتماءاتهم الطائفية، ووزعوا على قاعدة »المسيحي عند المسيحيين والمسلم عند المسلمين!!«… وكانت ضربة أولى للقضية السياسية لهذا الشعب المطرود من أرضه، حيث لم يعرف الطائفية، ولا العدو الإسرائيلي تعامل معه وفق هذه القاعدة التقسيمية الخبيثة.
في صيف 1960 شهدت في مخيم البداوي، في الضاحية الشمالية لطرابلس، حالة قمع دموي لتظاهرة فلسطينية.
كان »اللاجئون« يتظاهرون ضد نقص الخدمات التي تقدمها »الأنروا« وهي المنظمة التي أنشأتها الأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين وتشغيلهم، وقد حذفت المصالح السياسية الأجنبية الداعمة لإسرائيل بالتحالف مع الضعف العربي حرف اPب الذي يرمز إلى هويتهم الفلسطينية، فتم إسقاط الدلالة السياسية لقضيتهم وصاروا مجرد مساكين مشردين وبؤساء لا يستحقون أكثر من العطف والشفقة والإحسان.
ولأن »اللاجئين« هم بعض الشعب المطرود من أرضهم، ولأن قضيتهم سياسية فقد أخذوا يتجمعون للعمل من أجل العودة، وأبسط الشروط أن تتاح لهم حرية تنظيم أنفسهم والانضواء في الأحزاب السياسية القائمة أو التي قامت باسم فلسطين وتحريرها.
وبديهي أن يلتفتوا أيضا إلى ما يجري في وكالة الغوث وأن يحصّلوا منها فعلا على ما هي مكلفة بإيصاله إليهم، وأن يحاولوا وقف بعض مظاهر الفساد والرشوة التي يتواطأ فيها رسميون لبنانيون مع بعض موظفي الوكالة.
وكان تزوير الأرقام، أي عدد »المستفيدين« وبالتالي عدد »المقيمين« في المخيم، رفعا وخفضا حسب حال التوافق أو الاختلاف بين »المستفيدين المحليين والدوليين«.
خلال هذه المسيرة الطويلة كان وجهاء الفلسطينيين واثرياؤهم قد عرفوا الطريق للحصول على الهوية اللبنانية…
وكانت اللعبة الطائفية الداخلية قد وفرت الفرصة لأعداد من أرمن سوريا وكلدان العراق وسريان القطرين وبعض اقباط مصر ومسيحيي الاردن لكي يدعموا »التوازن« المهدد بالتهاوي بأن يصيروا »لبنانيين« مائة في المائة!
وجاء الاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف العام 1982، ليشهد خروج منظمة التحرير والمنتسبين الى جيش التحرير والى المقاتلين في المنظمات الفدائية…
وفي عهد امين الجميل تمت »صفقة« مؤثرة مع القيادة الفلسطينية ضمن الصراع المفتوح ضد حركات الاعتراض الوطني المدعومة من سوريا… وكان بين بنود هذه الصفقة ان سلمت الادارة اللبنانية اعداداً هائلة (بمئات الالوف) من جوازات السفر اللبنانية الى متحدرين من اصل فلسطيني.
وصحيح ان معظم هذه الجوازات قد سحب او انتهت مدة صلاحيته، ولكن الله وحده يعرف من »تسرب« من هؤلاء الى »نعيم« الهوية اللبنانية الممتازة ومن طرد الى جحيم »الجنسية قيد الدرس« او »الوثيقة« المميزة للفلسطيني بوصفه لاجئاً وبلا وطن.
بمعزل عن الرقم السر الحربي، فان الغرض السياسي قد ادخل موضوع اللاجئين الفلسطينيين في »العملية السلمية« من بابها »المالي«، اذ عم الترويج لادعاءات ومزاعم تصور ان »المجتمع الدولي« بقيادته الاميركية قد فتح صندوقه لشراء »فلسطينيي لبنان« على وجه الخصوص، بوصفهم »قنبلة موقوتة« فيه، تتهدده بانفجار لا يبقي ولا يذر، لانها ستدمر »توازنه النفسي«؟ الهش القائم على الاخذ بمقولة »المناصفة« و»المثالثة داخل المناصفة« و»توازن الصلاحيات بين السلطات« الممثلة للطوائف الكبرى في البلاد الخ.
ولان رفع الرقم من شأنه ان يزيد من »السعر الافتراضي« للاجئي لبنان الذين ستدفع اثمانهم الدول الغربية الغنية، وسيجري ترحيلهم الى بلاد هي بحاجة الى ايديهم العاملة (اوستراليا وكندا على سبيل الافتراض).
ولأن الترحيل يحقق الغرضين معا »حماية« التوازن الوطني من خطر توطين هذا الجيش اللجب من الفلسطينيين (المسلمين بأكثريتهم الساحقة)، ثم تفريج الازمة الاقتصادية الخانقة وتوفير المال (المجاني!!) اللازم لسداد الديون المتراكمة (أكثر من 25 مليون دولار) مع خدمة الدين التي باتت تتهدد الدولة والشعب في لبنان بخطر انهيارات مفجعة.
لهذا كله تضيع الحقيقة حول اعداد الفلسطينيين في لبنان.
إن الغرض السياسي يطمس الحقيقة، ويجعل الارقام مجرد مطية أو وسيلة لتحقيق المكاسب أو إلحاق الهزيمة بالخصوم.
وهذا الغرض السياسي قد سعى ويسعى لأن يزج بالفلسطينيين في قلب اللعبة الطائفية السياسية في لبنان.
بذريعة مواجهة خطر التوطين يعامل »الفلسطيني« في لبنان معاملة أقل ما يقال فيها إنها غير إنسانية، وانها مخزية، وانها تكاد تسقط ادعاءات الرسميين حول هوية لبنان العربية، ويكاد يدمغ الشعب جميعا بتهمة »العنصرية«، خصوصا وان المؤسسات الرسمية (مجلس الوزراء ثم المجلس النيابي بكل القوى السياسية الممثلة فيهما) قد أقرت أكثر من قانون جائر وغير إنساني، بل ومطعون في دستوريته، آخرها يتناول حق الفلسطيني بتملك شقة لسكناه… فضلا عن أن الفلسطيني (المؤهل الطبيب، المهندس، أستاذ الجامعة، المحامي الخ) ممنوع من العمل بموجب القانون!
(من مقدمة لكتاب »آلام النكبة« لفتحي كليب)
قصة مبتورة
} قالت وفي لهجتها رنة عتاب: ألست تذكرني؟! صحيح أنني لست ملكة جمال، وان غيري قد قطع عليّ مشروع حديث معك، ولكنك قلت لي أنك معجب باهتمامي بالفن، وانك تقدر أنني سبقتك الى اللوحة التي اخترتها.
غرق في حرجه، وبادرت فورا الى نجدته فقالت: سأرسل إليك اللوحة، لعلها تنعش ذاكرتك وعلاقتك بالجمال، فتميز بين الأصل والصورة!
} قالت تشكو زوجها: إنه لا ينتبه الى النساء. حين نعود من حفل أو من مناسبة اجتماعية أستذكر بعض الوجوه وبعض الثياب وبعض التصرفات وبعض المجوهرات، فأُصدم بأن ذاكرته ممسوحة، وليس فيها الا ما علق في ذهنه من آراء »خارجة« أو تعليقات فاضحة لبعض الرجال… ومعظمها سياسي!
وردت جارتها: هنيئا لك، كيف لو كان زوجك مثل زوجي لا يهمل امرأة ولا ينسى إسما في زحام اللقاءات والمهرجانات النسائية.
قالت الأولى: كلانا في الظلم سواء، واحد يتجاوز غيرتنا بالتجاهل وآخر يتجاوزها بالزحام… لعل العيب فينا؟
ردت الثانية بحنق: كنت أعرف دائما أنك منحازة الى الرجال؛ زوجي أرحم منك، وها أنا راجعة إليه!
شامة على الريشة
حين توغلت في القراءة داهمها الشعور بأنها هي المقصودة بكل كلمة، بكل حرف.
نخزتها علامات التعجب وكأنها دبابيس تشك في مفاصلها، وكادت تنتفض غضبا أمام بعض المقاطع المثيرة، في حين اخذتها مقاطع اخرى الى الخدر، بل هي لم تتورع في لحظات عن التوقف عن القراءة لتغرق في تأملات مبهجة… ولعلها انتبهت، فجأة، الى انها تقارن تقاسيم وجهها، وتقاطيع جسدها بالتوصيف ، وكأن كاتبه يقف على كتفيها يتأملها ليرسمها بعينيه قبل قلمه.
في نهاية الصفحة السبعين وجدت نفسها تترك الرواية لتقف أمام المرآة مصعوقة: كيف عرف بهذه الشامة تحت إبطها الأيسر؟! ثم من أين له هذه القدرة على الوصف التفصيلي لبعض مواطن الجمال الخفية التي كانت تدخرها للحبيب الذي لا بد آت، حتى لو تأخر او تاه لبعض الوقت عن طريقها؟!
اما حين انتهت من الصفحة الاخيرة فكانت قد حزمت أمرها: ستكتب الى هذا اللعين الذي اقتحم عليها دنياها السرية فكشفها لكل الناس، واشتط مع مخيلته احيانا، فأخذها الى مغامرات ليست لها الجرأة للإقدام عليها ، مع انها شديدة الرغبة في تذوق ملذاتها.
ولكن، بأي صفة تكتب لمن لا تعرفه، وتعاتب من لم يعرفها.
أخيرا كتبت. لم تعاتب، ولم تنتقد، ولم تظهر اعتراضا، بل وجدت نفسها تقارب الشعر وهي ترصد »تحولات« الشامة السمراء عندما يترقرق فوقها ماء الاستحمام نازلا الى مثاوي الظلال في الجسد العاجي الذي يعرفه البعيد بالتشهي ، بينما هو يتشهى لمسات تلك الأنامل التي تفضل مداعبة القلم البارد على الغرق في مكامن اللذة.
»لن تحيي موات الريشة فتعال نمنح الشامة مداها الخصيب«.
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
للحب لمسة سحرية تجمّل الزمان والمكان والأشياء. إنه يغير دنيانا ويلغي القبح والكراهية والأحقاد. لكأنه يعيد صياغة مشاعرنا ونظرتنا إلى الحياة والناس. من قال إن الحب أنانية لم يعرفه. حبيبي هو الدنيا، هو كل الناس… ولا أحد يرغب بنقص بعد اكتمال.