هوامش
عن الصراع بين الإنسان والسلطان!
*****
قال بلا مقدمات: السلطة أشهى من مارلين مونرو.
لم يعلق أحد، فعاد يقول: السلطة أقوى من كنوز قارون.
ظل الصمت مسيطراً فخرقه مرة ثالثة بقوله: السلطة جبارة حتى على أصحابها! وغالباً ما تتقدمهم فتجرهم خلفها صاغرين. يفقدون السيطرة عليها، لأن لها منطقها الخاص، المنفصل عن صاحبها. ونادراً ما يقدر الرجل أن يلجم سلطته فيضبطها في الإطار الذي يريده أو يناسبه أو يبقيه سيدها.
قال ثالث الرجال: سأروي لكم ما وقع قبل أيام مع صديقي الذي كان ولياً للعهد، ثم استلم السلطة في بلاده. ذهبت لأجامله مهنئاً فطلب مني أن أعود ليلاً للعشاء والسمر.
كان الكل منتبهين مما أسعد صاحبنا فأخذ يتأنق في ألفاظه مما خلق جواً روائياً ظريفاً.. قال: فاجأني صديقي بسؤالي مباشرة وبلا مواربة عما إذا كان في صدري متسع لهموم غيري، وهل يمكنني أن أمنحه فرصة لكي يفرغ ما في رأسه ووجدانه من هواجس وأسباب للقلق الذي قد يعتبره البعض ترفا أو أخذا ببعض المذاهب الفلسفية كالوجودية… ثم أضاف، فقال: أنا في الحقيقة متعب، بل أنا مرتبك وضائع، ولعلني خائف.
صمت الرجل فقال واحد من رفاق الصبا الذي تجمعه، هو الآخر، صلة بولي العهد الجديد: عجيب أن يصدر مثل هذا الكلام عن هذا الذي كنا نعتبره مثالاً في ضبط الأعصاب وفي مواجهة التحديات، وكنا نسميه »الحامل رأسه بين يديه«، أما الخوف فكنا نفترض انه يخاف منه.
عاد الرجل إلى الكلام فقال: لقد أبلغته مثل هذا المعنى، فاتهمني بأنني أسخر منه، ثم انطلق يتحدث كمن إلى نفسه، بعدما رجاني عدم مقاطعته… رمى في وجهي عشرات الأسئلة، ولم يتوقف لأشاركه البحث عن جواب. أذكر بعضا مما قاله، وسأعيده من دون ترتيب: أتعرف ما معنى أن تكون صاحب الأمر؟ ان تصبح كلمتك حكما على الآخرين أخطر من كلمة »القاضي« وأسرع في النفاذ؟! ان الأمر ينسى سيده، الأمر قد يصبح أهم من مصدره. يتشخصن الأمر في البداية، ثم يؤلهه الناس. كلما خضع المأمور نفاقا أو خفاقا انتفخ الأمر وتورم وخرج عن إطاره المقصود، من دون ان يجرؤ أحد على الاعتراض. النكتة، حتى النكتة، قد تتحول الى كارثة على غيرك! ابتسامتك تكتسب معنى لم تقصده، عبوسك، تجهم وجهك، كلمات المجاملات، الثرثرة العادية الخ… وتدريجا تنفصل عن إنسانيتك فتصبح أنت »اثنين«، و»الآخر« منك يتفرج عليك، يضحك منك ساعة ويبكي عليك ساعات.
كان الجميع يتابع بشغف هذه الرواية عن صاحب الأمر، مما أسعد محدثهم فأكمل يقول: تعرفون ان ولي العهد في شرخ شبابه، وان تجربته محدودة، وما زال »الإنسان« فيه قوي التأثير، ولعل هذا بين ما يفسر أسباب قلقه. المهم انه أضاف، في ما يشبه التفلسف، فقال انه بات يحس انه »اثنان«، أي ان له »قرينا«… وان البعض يحرص على »قرينه« فيلجأ إليه أحيانا، يستمع الى صمته أحيانا، يقرأ في بئر الصمت الرضا أو الاعتراض، في حين ان بعضا آخر يسجن »قرينه« حتى لا يسمع منه ولا يتلقى اللوم. يهرب من الحساب، أو يرجئه على الأقل!
أشعل الراوية لفافة فأشعلوا لفافاتهم، واستزادوه فقال:
بين ما يقلق صديقي ان ليس للسلطة في بلادنا حدود ولا ضوابط. في البداية تفترض ان لها حدودا، من الشريعة، من الأعراف، ولكن في غياب المؤسسات يصبح الأمر مطلقا، ولك أن تأخذ أو لا تأخذ، أو تفسر الشريعة والأعراف وفق رغباتك.. وما أكثر المتطوعين للتفسير، بل لفبركة »الأحاديث« وابتداع الأعراف.. المهم ان الحدود المفترضة لسلطتك قد تنهار في لحظات، وتمتد السلطة الى أقصى مما تريد أو تطلب. تتجاوز الأجساد الى الأرواح. السلطة أهم من الثروة، ربما لأنها جلابة ثروة. السلطة أخطر من الحب. نادرا ما استطاعت امرأة ان تقهر السلطة وتغلبها، ولكن من داخلها تقتحمها فتغدو شريكة فيها، أما إن هي خيرتك فالجواب سيكون خروجها من حياتك. السلطة جذابة للنساء، وليس الحب شرطا للهوى والمتعة. والسلطان لا يحب. هو المحبوب فقط. ليس له حب خارج السلطة، لذا تأخذ حبك من سلطتك. كلما أعطتك حباً أخذت سلطة. وفي حالات محدودة جدا أخذت المرأة السلطة وحولت إليها حبها. الرجل سلطة واحدة، المرأة سلطتان!
رشف الراوية من قهوته فطلبوا قهوة ثانية واستزادوه فأضاف يقول:
كان صديقي ولي العهد يريد أن يفرغ كل ما في صدره دفعة واحدة، ولذا فقد زاد فقال ما مفاده »قد لا تكبر أنت بالسلطة، لكن غيرك يقزِّم نفسه فيخرجك من حقيقتك ويضفي عليك حجما أسطوريا إن أنت صدقت أنه لك هلكت فيه، وإن أنت أظهرت زيفه تهاوت سلطتك وخرج عليك الناس الذين يعشقون الوهم ويدارون ضآلتهم بتعظيم موقع السلطة!
في لحظة انفجر صديقي ولي العهد وهو يقول: المسافة قصيرة بين الآلهة وبين مركز السلطة. كثيراً ما ينادي الناس السلطان بأسماء الله الحسنى من دون شعور بالذنب. انهم يشترون رضى القائم بالأمر على حساب طاعة الخالق. الخالق أرحم وأرأف بهم من السلطان. لقد أعطى الله الناس الأعذار والأسباب المخففة سلفا، ودلهم على طريق التوبة، ووعدهم بالغفران. أما السلطان فلا يغفر ولا يسامح! انك قد تتجاهل الكبراء من رجال الدين، ولكنك ربما اندفعت الى ملاطفة قطة السلطان أو امتدحت كلبه أو حملت إليهما مما يحبانه أكثر مما تحمل الى أهل بيتك!
صمت الرجل قليلاً، واكتسى وجهه ملامح حزينة وهو يضيف:
تصوروا!! قال لي ولي العهد بكثير من الجدية انه قد غدا بلا صديق: كلما دخل عليّ أحدهم فكرت فورا بما جاء يطلبه. لم أعد أتبين الوجوه. لم أعد أعيش مشاعري وعواطفي. صرت أرى الآخرين من خلال السلطة لا من خلال ذكرياتنا ومغامراتنا وأهوائنا وأحلامنا التي كانت مشتركة وصارت لي وحدي! السلطة باهظة الكلفة يا عزيزي! انها تحرمك من حياتك. لم يعد بإمكاني ان أتصرف كإنسان. حيثما تحركت تسبقْني الكاميرات والطبول والدراجات والزمامير والعسس الذين يخلون المكان من الناس. حين أصل أغرق في الفراغ والنفاق والخوف مما خلف الضجيج. لا أملك مثلاً، أن أزورك في بيتك، ان أجلس إليك، فنأكل معا ما تعده زوجتك من أطايب الطعام.. ان أخرج الى الطبيعة في نزهة مع أطفالي، لأنني لو فعلت سينطرح الناس على درب الأطفال ينشدونهم آيات التقدير فيفسدونهم عليّ! أنا محروم من حياتي الطبيعية. ان حاولتها اتُّهمت بأنني أتظاهر أو أسعى الى الشعبية، هذا إن »هم« سمحوا لي بذلك، وإن أنا امتنعت عنها اتُّهمت بالتكبر والتجبر والابتعاد عن الناس! لم أعد أعرف غير صيغة الأمر. سحبت من قاموسي كل كلمات الحب وكل صوره أيضا. شحبت علاقاتي الإنسانية فلم أعرف من يعامل فيَّ صديقه ومن ينافق سلطانه.
وختم صديقي صاحب الأمر بالقول: هنيئا لكم أنتم الذين تحت. انتم بشر. أما الذي فوق فهو يعبث مترفا ولكن في فراغ مخيف!
انهى الراوية كلامه فدار نقاش سرعان ما تحول، كالعادة، الى ثرثرة، قبل أن ينتبه الجميع الى أنهم إنما يتحدثون في ما قد يحاسَبون عليه، فتفرقوا أيدي سبأ وكل منهم يهتف لكي يسمعه الآخرون: أدام الله ظل السلطان!
عن »فلسطين« الأوروبية
***
المشهد »فلسطيني« الملامح تماما لكأنه عربيا يخرج من الذاكرة لا من عدسات المصورين الذين يحققون »انتصارات« بلقطاتهم المجانية، حيث يغرفون من بحر المآسي وجوها للخوف والذعر والجوع واليتم والظلم وافتقاد الهوية والاسم والمستقبل.
الرجال حطام يحملون حطاما، والنساء نادبات وهن النعوش، والأطفال في نظراتهم التائهة تبحث عن المعالم المألوفة، عن الوجوه الحبيبة، عن الأنفاس التي طالما غمرتهم بالدفء، ثم يتلهون بكسرة خبز ترمى إليهم أو بنبتة برية اقتلعها أب ليجعلها طعاما لهؤلاء الذين لم يعد قادرا على حماية حياتهم من غائلة الجوع، عدا حماية المصير.
الصواريخ لا تؤكل، ولا تستقيم فوق الأرض بيوتا.
والقذائف التي تدوي انفجاراتها، في البعيد، لا تحمل الكثير من الطمأنينة الى هؤلاء الهائمين على وجوههم على التخوم بين الأحقاد والأعراق والصفحات الممحوة من التاريخ.
لا يعيد إليك منزلك ان يهدم الآخرون منزل غيرك.
توسيع دائرة الموت لا ينفع هؤلاء الهاربين من موت أكيد الى موت محتمل.
الأميركي ببراثنه الحديدية وعيونه الصاعقة لا ينفع كرجل اسعاف. لا تُغسل الأحقاد بالنابالم.
التاريخ لا يُقتلع. جذوره تبقى وتستعيد أهلها الذين على البعد يظلون فيه، ويظل حتى وهم في الشتات يحمل ملامحهم وأسماءهم.
ينتشر الوطن عبر طوابير المقتلعين من أرضهم. يبدون في الصورة وكأنهم يمدون حدود الوطن معهم ولا يخرجون منه. يوسعونه فيرمون دماءه على أوطان الآخرين كاللعنة، لا تغسلها مياه الدانوب ولا الأمواج التي اعتقلتها فجمدتها البوارج وحاملات الطائرات في الأدرياتيك.
الوحش الأميركي المستمتع باغتيال الحضارة التي ولدته سِفاحاً، يطير في الأجواء الموحشة التي هربت منها العصافير والحمام والسنونو والربيع، يتصيد الجسور وملامح العراقة، يُفرغ المدارس ويملأ المستشفيات والمقابر، ويصور من علُ طوابير الهاربين من الموت العنصري الى موت العنصر ذاته.
أحدث جرائم العصر: القاتل لا يترك بصماته… لكن توقيعه يملأ الفضاء برائحة الموت.
لقد أنجز الوحش الأميركي الجريمة الكاملة: قتل المدعي والمدعى عليه والشهود والقاضي والنائب العام.
تحيا عدالة من يمارس الحب بالسيكار، ويحقق السلام باغتيال الأمم.
ما أكثر النساء!
****
دلفت أنوثتها في القاعة دفعة واحدة، ثم جلست تتفرج على انهيارات جبال الثلج والتهاب العيون الزجاجية وذوبان الوقار الاجتماعي بنيران الرغبة التي تفجرت مسقطة حواجز الرقابة الآن.
امتلأت بها القاعة عن آخرها، وانغرزت العيون في وجهها، في العنق، في الصدر وما دونه، في الشعر، في الكتفين مع محاولة للتسلل الى المقعد الذي حسده كثيرون على ما انطوى فوقه.
أما عيناها الوسيعتان فقد احتلتا صدر القاعة، وبدا انها قادرة على أن ترى الجميع، بل لقد توهم بعضهم انها غمزت له، في حين ازدهى بعض آخر بادعائه انها لم تنظر الى غيره، وانها قد أغمضت جفنيها على صورته بعدما فرغت من استعراض المعجبين.
قال أحد الذين »عبرت« من أمامهم لتصل الى مقعدها، انه قد شعر بدوار بسيط بعدما لفحته رائحتها.
وقال من كان خلفها انه لم ير أحدا غيرها ولم يسمع كلمة مما قيل، وانها قد خصته بالتفاتتين، بل بثلاث، فبات سكران وما هو بسكران.
انتهى الحفل، فازدحم الجميع في المدخل لوداعها.
مرت بهم شاهقة الأنف، واثقة الخطوة، وقد أمسك بيمناها أصلع بدين بنظارتين سميكتين، لم يره أحد لا عند الدخول ولا في الصالة.
لم تصافح أحدا، اكتفت بهزات قليلة من رأسها، وابتسامة قصيرة قرأها كثيرون سخرية أو مجاملة مبتورة تفرضها لياقة الغريب.
تبادل »عشاقها« النظرات بعدائية، ثم اكتشفوا انهم في الوهم اخوة، فتقاربوا، ولوى البعض عنقه، بينما هز آخرون رؤوسهم كأنما يطردون عنهم الخيبة.. قال أولهم: هل لاحظتم ساقيها؟! انهما رفيعتان كساقي البجعة!
قال الثاني: مستحضرات التجميل تحيل القردة وردة.
تأوه الثالث: كلكم الآن يتحسر على حصرم حلب..
قال الرابع متشفياً: إضرس وحدك يا أخانا، ودعنا نحلم!
اما الخامس فقد رفع ياقة معطفه ومشى مبتعدا عنهم وهو يهمس لنفسه: ما أكثر النساء حين يصرن واحدة…
أما المرأة التي كانت تتابع هذه المشاهد بغير دهشة، فقد ودعت تظاهرة الإحباط بسؤال موجع: هل بينكم رجل يوصلني بطريقه الى مقهى الرصيف؟!
من أقوال »نسمة«
***
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
بعض الرجال ينسى الأنثى في حبيبته. انه بذلك يظلم الرجل فيه. والحب تكافؤ وعدالة في إشباع الرغبات. الجسد ليس خارج الحب. لا يعيش الحب معلقاً في الفراغ. ليس أغنى من الإنسان كعالم. هنيئا لمن ملأ مساحته الإنسانية كاملة!