تواجه الحكومة اللبنانية تحديا كبيراً، ربما يفوق تحديات أخرى عديدة، وهو الارتفاع المستمر لسعر الدولار مقابل الليرة، او الانخفاض المستمر لسعر صرف الليرة مقابل الدولار بحيث تجاوز سعر الدولار الـ 3 آلاف ليرة مقابل 1500 للسعر الرسمي. وغني عن التعريف الآثار السلبية لهذا التدهور في سعر صرف الليرة على مستوى الأسعار وعلى تضاؤل القدرة الشرائية للمواطنين.
وتتناقل الأخبار ين الحين والآخر توجه مصرف لبنان او الى تثبت سعر الصرف في السوق السوداء على مستوى معين. حيث حدده مصرف لبنان قبل فترة ب 2000 ليرة ومعاقبة كل من يتجاوز هذا السعر من الصرافين. ولكن السعر واصل ارتفاعه حتى وصل الى 3350 اليوم 22/ 4/2020. والسؤال الأول الذي يجب طرحه هنا ه و: هل تستطيع السلطة النقدية او الحكومة بشكل عام تحديد سعر الصرف في السوق السوداء؟ ولماذا فشلت محاولاتها بهذا الصدد رغم تهديداتها للصرافين بالعقوبة في حالة التعامل بسعر أعلى من السعر المحد د؟
قبل أزمة انهيار الليرة، كانت الحكومة تسمح للصرافين ببيع وشراء الليرة مقابل العملات الأخرى ضمن سعر الصرف الرسمي مقابل عمولة لتقليص الضغط على المصارف وتسهيل تبديل العملة من قبل الأفراد خارج نطاق دوام المصارف. ولم يكن الصرافون في حينها يعتبرون سوقا سوداء. ولكن بعد انهيار سعر صرف الليرة وفقدان الدولار لدى المصارف، بدأ الصّرافون ببيع وشراء الدولار من الأفراد مقابل الليرة بأسعار يحددها عام لاا عرض الدولار والطلب عليه الأمر الذ ي أدى إلى تغير السعر لديهم عن السعر الرسمي؛ وبذلك تغير دور الصرافين من الوضع السابق الى وضع جديد وهو السوق السوداء. وأعتقد البعض ان السوق السوداء يمكن السيطرة عليها من خلال مصرف لبنان عن طريق فرض سعر محدد يلتزم به الصرافون والا يعرضون أنفسهم للعقوبة. وبالفعل قامت الجهات الأمنية بإقفال بعض محلات الصرافة وتوقيف بعض الصرافين. ولكن السعر في السوق السوداء استمر بالإرتفاع لأنه لا يمكن السيطرة على السعر في حالة شحة الدولار مقابل ارتفاع الطلب عليه الا في حالة تدخل مصرف لبنان وضخ دولارات في السوق لامتصاص فائض الطلب عليه. ولكن مصرف لبنان ليس قادرا على مزاولة هذا الدور بسبب شح الدولار لديه.
إن تدخل المصرف المركزي في السوق للحفاظ على سعر الصرف الرسمي للعملة، هو إحدى وسائل السياسة النقدية التقليدية. ولكن في السنوات الأخيرة ضعف هذا الدور كثيراً بتأثير العولمة وثورة الاتصالات بحيث اصبح بالإمكان نقل مبالغ ضخمة بين الأسواق خلال فترة وجيزة. لذلك أصبحت الدول ترى في هذه السياسة طريقة غير مجدية لأنه في ظروف كهذه مهما طرح البنك المركزي من عملة أجنبية في السوق، يمكن ابتلاعها بسهولة من دون ان تترك أثراً إيجابيا على سعر صرف العملة المحلية. وما حدث في مصر عام 2016 كان مثالاً واضحا على ذلك. فعندما حاول البنك المركزي المصري التدخل في السوق لمنع تدهور الجنيه، استنفد كثيراً من احتياطاته من العملة الأجنبية من دون أن يحقق النتيجة المطلوبة. وتسببت الحادثة في حينه بخسارة محافظ البنك المركزي المصري لمنصبه.
إن الهدف مما ذكر أعلاه هو توضيح أن السوق السوداء لا يمكن السيطرة عليها بتعاميم من مصرف لبنان أو تدخلات من جمعية المصارف أو وزارة الاقتصاد. فهو سعر حر يتحدد بالعلاقة بين عرض الدولار والطلب عليه.
وفي ظل استمرار تهاوي سعر صرف الليرة مقابل الدولار ولإتخاذ إجراء يحد من هذا التدهور، يستطيع مصرف لبنان أن يتبنى رسميا سعرين لصرف الليرة مقابل الدولار أو ما يسمى بـ”نظام سعر الصرف الثنائي” “Dual Exchange Rate System”. وهو نظام تتبعه بعض الدول ولا يمانعه صندوق النقد الدولي إذا لم يكن تطبيقه لفترة طويلة أو دائمة. السعر الأول؛ هو السعر الرسمي الحالي والبالغ 1500 ليرة على أن تتم فيه المعاملات الأساسية كاستيراد الأدوية والوقود والأغذية الأساسية. والثاني؛ هو سعر السوق ويستخدم لكافة الأغراض الأخرى كالسياحة وتحويلات العاملين في الخارج والصادرات والاستيرادات غير الضرورية وتحوي لحسابات ودائع صغار المودعين.
إن تبني سعرين رسميين لصرف الليرة مقابل الدولار يمكن أن يحقق إيجابيات كبيرة للوضع الاقتصادي المتأزم ومنها:
1) تستفاد المصارف، التي تعاني من شح كبير في الدولار، من خلال استقطاب الدولار إليها بدلاً من ذهابه إلى الصرافين؛
2) سيخفف استقطاب المصارف للدولارات وبيعها إلى الأفراد بسعر السوق أيضا من الضغط الحالي على السوق السوداء وتميل الحركة في سعر الصرف إلى الاعتدال وعدم تسجيل قفزات في السعر كما يتم حاليا.ً وقد يميل السعر تدريجيا إلى الهبوط عن مستواه الحالي؛
3) زيادة الصادرات اللبنانية التي ستنتعش بانخفا ض أسعارها بالدولار وتشجيع الصناعيين والمزارعين على زيادة الإنتاج لأغراض التصدير والاستهلاك المحلي؛
4) انخفاض الاستيرادات غير الضرورية وتلك التي لها بدائل محلية بسبب ارتفاع أسعارها بالدولار مما يؤدي الى العزوف عنها والتوجه نحو الإنتاج المحلي؛
5) زيادة السياحة، بعد الانتهاء من مرحلة الحجر الصحي المرتبط بمرض كورونا؛
6) بزيادة الصادرات وتقليص الاستيرادات السلعية سيتقلص العجز في الميزان التجاري. وبتحسن
السياحة وزيادة تحويلات العاملين واستقطاب الاستثمارات الخارجية سيتحسن وضع ميزان المدفوعات؛
7) لا يشعر صغار المودعين ومتوسطيهم بالغ بن عندما يتم صرف ودائعهم لدى المصارف بالدولار بسعر السوق وليس بالسعر الذي حدده مصرف لبنان بـ 2600 ليرة وبذلك تزداد قوتهم الشرائية شرط السماح لهم بإبقاء حساباتهم بالدولار إذا رغبوا بذلك؛
8) سيؤدي زيادة الإنتاج الصناعي لأغراض الاستهلاك المحلي والصادرات وانتعاش السياحة واستقطاب الاستثمارات الخارجية إلى خلق الكثير من فرص العمل التي تلاشت في ظل الأزمة النقدية والاقتصادية الحالية وظروف الحجر الصحي؛
9) في حال نجح مصرف لبنان والمصارف في تطبيق هذه الخطة بنجاح، فإنها ستعيد الثقة بالنظام المصرفي اللبناني الذي يمر حاليا بنكسة غير مسبوقة؛
10) سيلعب نجاح هذه الخطة دوراً كبيراً في إنجاح خطة الحكومة الاقتصادية.
ولا بد من التأكيد ان سعر صرف العملة خصوصا في ظروف كهذه التي يمر بها لبنان، يكون حساسا جداً لتصريحات المعنيين والخلافات السياسية والتعاميم المفاجئة. لذلك يستوجب على الحكومة والمعارضة توخي الحذر لأن أي انهيار اكبر سيأخذ البلد بمن فيه إلى المجهول.