ما حدث، ويحدث في إيران، هو ثورة ثقافية. ثورة في الإسلام ضد الإسلام السياسي، ضد أن يفرض رجال الدين أسلوب المعيشة، دون أن يكون الدين، بالأحرى الاجتهادات الدينية لرجال الدين، هو كل المجتمع وثقافته. أعلن الثائرون أن هناك مجالا في حياتهم لا يمكن للملالي النفاذ إليه. وسيكون لهذه الثورة الثقافية امتدادات في كل المجتمعات الإسلامية.
الثورة تحدث دون توقع مسبق، وإلا لكان باستطاعة أهل السلطة تلافيها. هي دون برنامج لأن أصحابها لا يريدون ما يشبه الانقلاب العسكري. نتائجها لا يمكن حسبانها إلا على المدى البعيد. ما يختمر في نفوس الناس وأرواحهم ضد السلطة وأدواتها القمعية مواجهة تبدو لأول وهلة في غير صالح الناس لكنها من النوع الذي لا يمكن للسلطة وأجهزتها القمعية والبيروقراطية اختراقه. هي ثورة في الوجدان ضد ما هو قائم؛ ثورة في الضمير ضد ما يفترضه النظام السياسي بديهيات أو يحاول فرضه كبديهيات. بديهيات السلطة تصير لدى الناس استنتاجات خاطئة مبنية على فرضيات خبيثة تعارض الوجود الإنساني وتحتقره. تصادر الله وتتصرف باسمه، وكأن الأمر تكليف شرعي. بيت من ورق يهوي سريعاً أو بعد حين. لكنه لا يستطيع الصمود أمام رياح التغيير التي تهز ركائز السلطة.
الإنسان عميق الغور، كما كان يقول أستاذنا ياسين الحافظ. أغوار النفس البشرية يستحيل على مسبارات السلطة الوصول الى أعماقها. الثورة في إيران، والحقيقة هي ثورة في المجال الإسلامي، دليل على أن السلطة في إيران، ولا في أي بلد ذي سلطة إسلامية، لا تفهم شعبها، ويصعب عليها معرفة ما يجول في أعماقه. ثورة في الوجدان، في أعماق النفس البشرية، على بنيان ثقافي أشاده الإسلام السياسي المعاصر. الرمز هي الحجاب لكن المضمون هو الحرية. لا يستطيع الملالي وكل رجال الدين السياسي تعريف الحجاب انطلاقا من معطيات الدين، وخاصة في الكتاب العزيز. هو كتاب التأسيس. الحجاب بدعة فيها كل الحداثة التي تجعلها أداة سيطرة على المرأة وعلى الرجل الذي يضطر لقبول المرأة كما تصنّع له. لم يعدر الرجل والمرأة يريدان أن يكونان من منتجات السلطة. يريدان أن تكون حياتهما بعيدة عن متناول السلطة. وأن يكون نمط عيشهما كما يقررانه، ولا تصل إليه أيدي السلطة السياسية. ليس في الأمر مناقشة في الإيمان. هذا بين الفرد وربه. علاقة بين الإنسان والله تقرر خارج العقيدة الدينية وطقوس هيكلها. ليس صحيحا أن لا رهبانية في الإسلام، كما كان التمني في الحديث الشريف. الاكليروس الديني طغى على الدين، والدين طغى على المجتمع. وما هو دين ليس استنباطات استخرجها الملالي (رجال الدين) من كتبهم التراثية الصفراء. الصفحات التي تكاد أن تتمزّق من كثرة التمحّك فيها. الحاضر لا يُبنى على الماضي بل على الخروج منه. الحاضر هو صنع المستقبل. هو إرادة أن يكون الإنسان غير ما كان عليه وغير ما تريده السلطة. الدين ليس خضوعاً لسلطة سياسية، سواء دينية أو غيرها، بل هو اندماج في ذات الله اللامتناهية. تعلن هذه الثورة أن سدنة الهيكل، ملالي الشيعة و”علماء” السنة، صاروا خطراً على الدين ذاته. عندما يصادر الدين الضمير البشري، بتكليف يدعي أصحابه أنه شرعي، ليصير سلطة هي في الحقيقة سلطة بشرية أخرى، يصير خطرا على نفسه وعلى المجتمع. هذا ما تقوله الثورة، أو ما نقوله عنها، ولدينا شعور عميق أن اجتهادنا صحيح؛ بعد الحكم على اجتهادات سدنة الهيكل أنها خطأ لاندراجها في خانة السيطرة والاستبداد والتلاعب بعباد الله.
الدين فطرة، في كل المجتمعات البشرية، وفي كل الأزمنة. هو كذلك لأن الإنسان يفكر في الموت. جلال الموت لا يخضع لوصفات عقدية تسمى الفقه.
الثورة في إيران ثقافية حضارية، ولا يدري المرء أي التعبيرين أنسب. المهم أنها تظهير لما في أعماق النفس البشرية حيث لا تستطيع السلطة السياسية أو الدينية، أو كلاهما معاً، الوصول. هي ثورة لا تجف منابعها وقد تدفقت شلالاتها. هي ليست صراع بين إصلاحيين ومتشددين. هي بين الناس والسلطة؛ الناس بإيمانهم والسلطة بعقيدتها. الناس بإيمانهم الصادر عن الضمير، والضمير لا يكون إلا فرديا، والسلطة التي ترسم العقيدة وتضعها في جملة طقوس لتكون برهاناً على الإيمان (الذي لا يحتاج الي برهان). هو يزيد ولا ينقص. بل يكون أو لا يكون. هو علاقة مع الله لا دخل لأهل السلطة السياسية فيها.
خلط مؤسسو السلطة الإيرانية المعاصرة، وما زالوا يسمونها الثورة الإسلامية في إيران، بعد مضي أكثر من أربعين عاماً، بين الدين والسياسة. ولم يخدموا الدين في ذلك بل خدموا السياسة، بمعنى التسلّط السياسي. سيطرت السياسة على الدين، وما اعتبروه ديناً تتضعضع أسسه الآن. لم يخدموا الدين بتهميش المرأة وصولاً الى تهميش الإنسان لصالح العقيدة التي أسموها دينية.
لا يستطيع الدين، بمعنى الحلال والحرام، احتلال كل مجالات النشاط الإنساني. ما بينهما لا يخضع ولا يمكن أن يخضع لاعتباراتهما. الدين عنصر أساس في كل ثقافة، لكنه لا يمكن أن يحتويها ويشمل كل دقائقها وتفاصيلها. الحياة الدنيوية أوسع بكثير ما يفترضه أي دين. هذا ما لم تدركه السلطة الإيرانية وهي لا تعرف الآن مواجهته إلا بالقمع والإكراه. المظنون أنه عندما قيل “لا إكراه في الدين” كان ذلك المقصود منه.
تمنى أحد رجال المخابرات المقيمين في لبنان، في الثمانينات، لو كانت هناك آلة يستطاع بواسطتها النفاذ لمعرفة ما يدور في الذهن البشري. قيل له أن من حسن الحظ أن مثل هذه الآلة لا توجد ولن توجد.
هي ثورة ما في أعماق النفس البشرية على سلطة القمع والإكراه. وسيكون لها أثر كبير على كل المجتمعات الإسلامية لإخراجها من كونها مجتمعات مغلقة الى الصيرورة لمجتمعات مفتوحة. هي ثورة على تهميش الإنسان وطمس الضمير لبداية عهد جديد يُدفن فيه الدين السياسي ويعود الدين ديناً من الفرد وللفرد. وتتألق السياسة في نهوض مجتمعي بانت بعض إرهاصاته.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق