بلغت الهستيريا لدى طرفي الحرب في أوكرانيا حداً يبعث على الضحك. لا شيء في الحرب سوى الخراب والقتل. ليس ما يبعث على الضحك. هو ضحك البؤس؛ بكاء من نوع آخر. أن ترى البرلمان الأوروبي، ثم بقية برلمانات أوروبا، ثم البرلمان الأميركي، يصفقون لخطباء الحرب طويلاً هو أمر مأساوي. نخب تسعى للحرب ولا تسعى الى السلم. نخب الرأسمالية والنيوليبرالية تمارس فاشيتها في إظهار العدو للآخر. أصبحت تعابير سندمر اقتصادهم، سنقضي على نظامهم، سنحطم إرادتهم، شائعة، وما معها من حديث حول التأهب النووي؛ كأن في الأمر إعلان عن نهاية أبوكاليبتية للبشرية. لم يعد الآخر يطاق. أصبح العيش معه مستحيلاً. فلتكن نهايته، التي إذا جاءت على يدنا فهذا انتصار. ما فائدة الانتصار بعد أن يموت المنتصر أو يشوهه السلاح النووي، أو ينوء تحت عبء إعادة الاعمار إذا سلم؟
الفاشية عند الطرف الآخر ليست أقل تطرفاً. تعتيم إعلامي كامل. إستسلام إعلامي. عجرفة قومية. لا يمكننا الاسترسال في وصف فاشية هذا الآخر وقد أغلق على نفسه؛ ساهم في الإغلاق مع الحصار الإعلامي والاقتصادي المضروب عليه.
تتحالف الحرب والكورونا. قال أحد الظرفاء (على وسائل التواصل الاجتماعي) أن الشرطة كلفت بمهمة البحث عن كوفيد 19؛ فقد اختفى عن الميديا. حلت صور الخراب والدمار وضوضاء الخطب وتحليلات الخبراء الاستراتجيين وخرائط أوكرانيا وعليها توقعات الأطراف المتحاربة والأسهم التي تشير الى تحركاتهم في هذا الاتجاه أو ذاك مكان الإحصاءات عن إصابات الكورونا والبيانات التي تشير الى تزايدها أو تناقصها. الحرب والكورونا كلاهما يقود الى الفناء. الإبادة هدف النظام العالمي. وضع كل طرف نفسه في موضع الدفع حتى النهاية. نهاية العدو والصديق.
مأساة بدء الخليقة والخطيئة الأولى تصورها لنا الايديولوجيا الدينية بخيال دافق. خيال فائق التصوّر. أوصاف الجنة وما بعد الحياة، وعن ما قبل آدم وبعده. أضافت كتب التفسير حكايات كثيرة عما بعد الموت وقبل الخلق. كتب الحديث والتفسير تفيض بالقصص حولهما. يبدو دائما الوصف دقيقاً لما يصدّق أنه حصل فعلاً. يؤرخ المفسرون لما قبل الخلق وما بعد الموت. نقلاً عن فلان عن فلان عن فلان، الخ… وكأن الأحداث تاريخية ولا يجب أن تؤخذ على سبيل المجاز.
يحضّرنا تحالف الحرب والكورونا لإبادة تميتنا وتنقلنا الى حياة آخرة، تبدو وكأننا نعرف عنها كل شيء. مكتوبة في اللوح المحفوظ. نفتش عن اللوح؛ نجده لدى المتلاعبين بالحرب والكورونا والآمرين بتكتيكات واستراتجيات كل منهما.
انتصار العمامة على الحداثة في بلادنا يبدو في ضوء ذلك أمراً غير مستغرب. هم يعرفون عن الحياة بعد الموت أكثر مما يعرف أهل الحداثة. وقد وضعوا الترتيبات اللازمة لاستقبال العباد في الجنة أو في النار حسب الحكم المقضي عليهم بالثواب أو العقاب. إلمامهم بعلوم الآخرة وتأكيداتهم عن روايات الماضي السحيق، والمستقبل القريب والبعيد يجعلهم أكفاء لمهام الاستقبال في المكان المناسب بعد الموت.
يضاف الى هذا التحالف بين الحرب والكورونا ترسانة السلاح النووي. هو حتى الآن لا يتعلّق بالقنابل النووية ذات الصواريخ طويلة وقصيرة المدى، وإن تم تداول التعبير إعلامياً، بل هي المعامل النووية المشادة للسلام ومن أجل إنتاج الطاقة التي بدأ أحد الأطراف بتفجيرها. في أوكرانيا بضعة معامل نووية لأغراض سلمية، أي لإنتاج الكهرباء. وهذه ليس ما يمنع أن تفجّر مفاعلاتها النووية من قبل هذا الطرف أو ذاك، مع امتناع جميع الأطراف عن تبني التفجير. المهم أن معامل الطاقة النووية التي بنيت “لأغراض سلمية” صارت “سلاح دمار شامل”، يستخدم عند الحاجة، وتتبدل وجهة الاستفادة منه. هي حرب تستخدم فيها جميع الأسلحة، وكل ما يتاح لقتل العدو، حتى ولو كانت الأدوات غير معدة بالأصل للحرب، بل لأغراض سلمية. هذه حرب بضراوتها وشموليتها لا حياد فيها ولا موضوعية. تفرض على الجميع في أوروبا وخارجها أن يعلنوا “مع” أو “ضد”. الهستيريا عامة في أوروبا، والامبراطورية تخترق مجتمعاتهم من الأعلى اجتماعيا الى الأسفل اجتماعياً. لا نعرف عما في روسيا، لأن هناك تعتيم إعلامي وقمع عنيف للقوى المعترضة على الحرب. لكننا نحسب أن اعتماد السيد بوتين على الفاشية الدينية والقومية يمنع انتشارها الواسع. فهما على كل حال ضاربتا الجذور في هذه المنطقة.
هستيريا الحرب أصواتها عالية لدى الطرفين. في الحالتين الأسباب توسعية. الأسباب التوسعية معلنة عند الطرف الروسي، وإن جرى التمويه أو التزرّع بأسباب أمنية (تمدد الحلف الأطلسي) أو عداء نازية جديدة في أوكرانيا لروسيا؛ والأسباب المعلنة عند الطرف الغربي هي توسّع الديمقراطية. وإن كانت الامبراطورية هي المقوّض الأساسي لممارسة حق الشعوب بتقرير المصير؛ وذلك حول العالم. الديمقراطية في العالم تقلصت مساحتها ولم تتوسّع بعد الحرب الباردة، ومنذ القطبية الواحدة في السيطرة على العالم. الديمقراطية لم تتقدم في السنوات الخيرة. كل من سادة الطرفين دعم الطغاة في بلادنا وساهم مساهمة فعالة في القتال الى جانب الثورة المضادة. جاءت الكورونا، ففُرِض على الجميع “كم الأفواه” و”التباعد الاجتماعي” (تزرير المجتمع) والغسل (للتطهير من إرادة التغيير). كما فُرِض على الجميع المساهمة في هستيريا جُنّدت لها طوعا دون قسراً جميع وسائل الإعلام.
الحرب بالسلاح في أوكرانيا ربما تتوسّع، لكنها بالتأكيد تفرض على الجميع تطبيق الإجراءات وشحن الهستيريا التي تشابه ما كان أيام تأجج الكورونا. على كل حال، تراجعت الأخبار عن الوباء في الأشهر الأخيرة. لا ندري إذا كان ذلك بسبب تراجع الوباء واقعيا أو افتراضياً، أو أن الحرب تكمل ما بدأته الكورونا بإبادة شعوب لا دخل لها في هذا أو ذاك. الحرب والكورونا، يُضاف إليهما معامل النووي السلمي، تساهم في حرب الإبادة؛ إبادة شعوب لم تعد تلزم لنظام رأسمالي مالي يتصارع فيه طرفا القتال في أوكرانيا من أجل الهيمنة على العالم.
يقال أن في النظام العالمي، وهو خاضع لامبراطورية عالمية ينضوي تحت لوائها جميع الأطراف، شيئاً يتغيّر جذرياً. ويقال أن شيئا ما انتهى وشيء آخر لم يبدأ بعد. الامبراطورية لم تنته بل يعاد تشكيلها في الداخل؛ بعضها (أوروبا الغربية) ليصير أكثر مطواعية للامبراطورية العليا، وإبعاد من يراد أن يبقى عدواً (روسيا) في داخل النظام العالمي. مصادرة الأوليغارشيا الروسية في العالم، وإلغاء للملكية الخاصة دون محاكمة. يجب أن لا يبقى سوبر أغنياء إلا تحت أعين الامبراطورية العظمى وفي حراستها. الملكية الخاصة أساس قامت عليه الرأسمالية منذ بدايتها. حتى هذا الأساس يجري تقويضه. في سبيل المجهود الحربي. من حق الكل أن يتساءل، ألم يرتكب الأوليغارشيون الغربيون جرائم مماثلة، بل أفظع في خلال عملية مراكمة الثروة في النظام الرأسمالي. الأوليغارشيا تعبير أطلقه الأغريق للدلالة على نظام حكم أصحاب الثروات المالية وليس لنعت الأغنياء كأفراد. الثروة الفردية حق مقدّس في الغرب. يمتنع ذلك على الروس حتى ولو كانوا خارج روسيا، وحتى ولو كانوا معارضين لنظامها. الهستيريا ضرورية للتمويه والتعمية. تخاف الرأسمالية من إعلان حقيقتها. خاصة إذا كانت هذه الحقيقة فاشية. أما هبت الفاشية الامبراطورية (وذراعها الروسي) ضد الثورة العربية المطالبة بالديمقراطية وإسقاط الأنظمة، والمعتبِرة “إسقاط النظام” طريقا للديمقراطية؟ أوكرانيا ليست بعيدة جغرافيا عن المنطقة العربية. وفيها ثورة مضادة تشنها الأطراف الامبراطورية العظمى والعظيمى. صراع وقوده الشعب الأوكراني والشعوب الأخرى.
في التصويت الأخير في الجمعية العامة للأمم المتحدة، صوتت بضع دول لصالح روسيا، مثل سوريا (وهي محتلة)، وكوريا الشمالية (وهي معزولة)، وفنزويلا (وهي دولة فاشلة)، وكوبا (وهي لا تستطيع غير ذلك)، وأريتريا (بعد غزل عميق وطويل المدى مع إسرائيل). صوتت 141 دولة لصالح الامبراطورية العظمى، وبعضها دول لا يتجاوز عدد سكانها الآلاف. المهم أن نصف الأرض، أو ما يقارب ذلك، امتنع عن التصويت؛ الهند والصين. هل في ذلك ما يدل أن الحكمة تعود الى الشرق؟ علما بأن لدى هذين البلدين فاشيات من أنواع أخرى، لأسباب أخرى. أوكرانيا لا تعنيهما لبعدهما عنها. لكنهما وأوكرانيا في قرية كونية. فهل يستطيعان الوهم في البقاء بعيدا؟ عين الصين (وهي نووية) على تايوان لأسباب قومية. وعين الهند (وهي نووية) على باكستان (وهي نووية) لأسباب دينية. والمطلوب أن تكون عين باكستان على إيران لأسباب طائفية.
انتهت الحرب الباردة في بداية التسعينات. اعتبرت البشرية أن عصر الرعب النووي قد انتهى. إذا بهذه البشرية تخوض غمار هستيريا في سبيل الحرب هيأت لها هستيريا الكورونا. تتوالى الهستيريات. كأننا لا يراد لنا أن نفهم ما يجري وأسباب ذلك. وكأننا نحتاج الى معالجة نفسية. العقلانية وحساب المصلحة، مصلحة البشرية، غابا عن الشاشات والضمائر. تهدم البشرية ما بنت. ثم تعيد الأعمار. وما تنفق على “إعادة” الأعمار والسلاح والحرب يكاد يكفي لإزالة الفقر لو وزّع على الناس إحساناً وانفاقاً في العمل والإنتاج. لكن الإنفاق على التهجير هو الأولوية لدى أرباب النظام. يستقبلون المهجرين بالمساعدات. ويتحدثون عن البطولات. فكأن الحرب والدمار والقتل والتشريد ليس من أسبابها البطولات. التاريخ تكتبه البطولات. أذهاننا تبقى مشدوهة بالبطولات. تلك هي المثل العليا. ما تحتاجه البشرية هو العقلانية لا البطولة؛ لكن الأديان السماوية وغير السماوية، وقبلها الوثنية، وأساطيرها، ذات قوام مبني على البطولات والقديسين وأعمالهم الخارقة والأولياء وكراماتهم. ما أغنانا عنهم لو كنا من ذوي العقول. بعد نهاية الحرب الباردة وسيادة الرأسمالية بشكلها النيوليبرالي كتب أحدهم عن “نهاية التاريخ”. هي نهاية العقل أو ما تبقى منه.
ينشر بالتزامن مع موقع الفضل شلق