يكون نصاب المدينة حين يكون المرء نكرة مجهول الهوية، عصياً على السلطة في أن تعرفه وتراقبه، عصياً على المجتمع في أن يضبطه ويقرر سلوكه. ان يكون نكرة وان يحتمل امكانية العصيان، فهو يحمل امكانية الثورة. انه احتمال الميدان في المدينة.
كانت ثورة 2011 في المدينة. السلطة مركزها المدينة. والنكرات يتحولون او يكادون الى مواطنين مشاركين في الحياة العامة، ويهددون السلطة دائماً. السلطة تخاف المدينة دائماً؛ تسعى لتدميرها. الثورة المضادة بعد 2011 حرب اهلية، لكنها فعلياً وعمليا حرب على المدينة.
في المدينة عصيان الفرد على روح الجماعة، تمرّد على المجتمع. هنا تكون الاخلاق حيث المرء يسلك حسب ضميره لا حسب مشيئة خارجية، سواء كانت التقاليد المجتمعية، او الارادة السماوية، او ما تفرضه السلطة. لا تعريف للاخلاق من دون الضمير الفردي. الفرد حين يصير فردوياً يصبح مواطناً تتجسد الدولة فيه. تستحيل الدولة الا عندنا تنغرز في وعي المواطنين الافراد لا في وعي الجماعات سواء كانت دينية او اثنية او قبلية او غير ذلك. الفرد هو امكانية الدولة؛ الفرد هو تحقيق الدولة. لا فردية الا في المدينة.
في المدينة سياسة، هي موقف الفرد من السلطة في تحوّلها الى دولة. سياسة تحمي الاخلاق لانها تحمي الفرد. اسرار المدينة هي ما يجعل الفردية ممكنة، والتمرّد ممكناً، والمواطنة ممكنة. اسرار المدينة هي ما يجعل الفضاء العام (الاجتماعي) ممكناً. تنتقل اسرار المهنة الى باطن المدينة لتشكّل السياسة التي تحوّل الافراد الى مواطنين مشاركين في الفضاء العام، في السلطة، في القرار، في السياسة، في الديمقراطية، في الدولة.
في المدينة السياسة تحمي الاخلاق وتصونها وتجعلها ممكنة. لا حماية للاخلاق الا بتوليد الفردية وحمايتها. تعرف السلطة ان اخلاق المدينة هي التي تهدّدها، وتعرف ايضاً ان اخلاق الريف لاتهدّدها بل تدعمها. تأتي الثورة المضادة في غالب الاحيان من الريف. كل قوانين الانتخابات في كل بلاد العالم منحازة للريف كي يبقى الثقل التمثيلي لصالح المحافظين.
في المدينة، السياسة سر المهنة، حيث الاسرار تجعل المجهول متفوقاً على المعلوم. لا تخاف السلطة من المعلوم كما تخاف من المجهول. سر مهنة السياسة هي الديمقراطية. في الانتخابات يكثر شراء الاصوات لان الطبقة السياسية لا تريد المخاطرة وتعريض نفسها لاسرار لا تعرفها ولا تستطيع النفاذ اليها. في سر المهنة هذا تكمن روح المدينة؛ الباطن منها غير الظاهر. الباطن المجهول الذي يبعث على المخاوف لدى السلطة. ترتكز اجهزة المخابرات على التقارير والمعلومات ـ اي على المعلوم ـ تخاف مما يستعصي عليها، تخاف من مجهولات المدينة فتحاول تدميرها. لذلك تشكل الحرب الاهلية في المشرق العربي حرباً على المدن.
الحضارة العربية عبر التاريخ هي في الاساس حضارة مدينية. المدن تشمل العواصم السياسية وهي النقاط التي يلتقي فيها مجتمع التجار المتحرك. يتواصل الناس من الاطلسي الى الهندي عبر المدن. الحرب على المدن تهدف الى الغاء هذا التواصل. ما ينتج عن ذلك هو تشليع المجتمع وتفتيته. وبالتالي ابتعاد امكانية اعادة اعماره وعودته الى سويته المعتادة. فهل تنشأ قوى جديدة من قوى الريف التي تحتل المدينة؟
الحرب على المدينة هي ما يؤدي الى القضاء على الاقليات. الاقليات من الاديان يعيشون في اوهام انهم يحبون بعضهم. في المدينة وجود سياسي للاقليات، وجود يجعل استمرارهم ممكنا. تدمير المدينة هو ما يقضي على هذا الاستمرار للاقليات. في المدينة يندمج الناس ومن بينهم الاقليات في المجال العام، يشاركون في المجتمع، يستمر بقاؤهم بوجود المجتمع وتماسكه. المدينة وحدها تحمي الاقليات، تحتضنهم وتجعلهم جزءا مندمجا فيها. تستحيل التعددية الا في المدينة.
الناس في المدينة يحملون امكانية تحقّق الشعب في الفضاء السياسي حيث الميدان فوة لا تقهر. بالطبع يزداد القهر بعد انفضاض الميدان؛ حينها تزدهر الثورة المضادة. يشتد القمع والاكراه والقسر. الشعب امكانية تحملها المدينة وحدها. هي ليست مجموعة ارياف، مهما كثرت الاحياء. ولا بد ان تنفتح الاحياء على بعضها. لا بد ان يندمج مجتمع المدينة ويتماسك، لا بد ان يتطور. الخطورة في هذا التطور.
المدينة جملة تدفقات، تدفقات الافراد في الامكنة، وتدفقات الامكنة الى الافراد. كلمة مكان اصلها “كان” الزمنية التي اضيفت اليها “الميم” فتحولت من زمانية الى مكانية. هذا المكان يحضن التدفق، يثير الحركة. التدفق يستر الظاهر. يتحول الظاهر الى باطن، الى موطن الاسرار وما يخشاه اهل السلطة. عندما ينفجر مستودع الاسرار تحدث الثورة.
نصاب المدينة ليس مسألة عددية، بل هو نصاب الفرد في المدينة. سره التفكير في عقله الباطن‘ اي ما لا تكتشفه اجهزة المخابرات ولا اجهزة الاعلام.
سره هو المجهول وارادة الناس السياسية، اي السياسة التي تخشاها انظمة الاستبداد وقوى الثورة المضادة التي لم تستطع الانتصارعلى هذا السر او السيطرة عليه، فتعطي حينها اشارة الحرب من اجل تدمير المدينة. يكتمل طغيان الريف على المدينة بالثورة المضادة، وصولا الى الحرب الاهلية الراهنة. وما لا تستطيع السيطرة عليه دمّره.
الداعشية والقاعدة والتنظيمات المشابهة حركات ريفية انقضّت على المدينة. هي والسلطة في تحالف موضوعي (على الاقل) في عملية تدمير المدينة. في صراعهما قصف وتدمير وقتل وبراميل متفجرة واسلحة كيماوية. كل ذلك يطال المدينة ويدمرها للخلاص من امكانية الثورة.
في ميدان المدينة رفع شعار الكرامة والعدالة وسوية العيش. كان هذا شعار 2011 الذي أرعب الطبقة المهيمنة في الوطن العربي، طبقة المنظومة العربية الحاكمة. أقضّ الميدان مضاجعهم، فبادروا الى تدميره، والى شقّ الشوارع وزرع الحواجز الاسمنتية، بما ازال مهمة الميدان الاجتماعية والسياسية.
تكون روح المدينة دائماً كوزموبوليتية. تأتيها الافكار من القادمين اليها، وتشعّ منها مع المغادرين. حركة لا يمكن ضبطها. حركة بشّرتنا العولمة بها، ثم تراجعت عنها خوفاً من تأثيراتها. تشيد دول العالم الجدران لمنع الهجرات وتدفّق الافكار، ولمنع تدفق الناس، ومنع الاختلاط. تتدفق الافكار عبر الفضائيات، لكنها افكار مضبوطة ومبرمجة ومدفوعة الثمن. الافكار التي يحملها المهاجرون غريبة وخطرة ولا يمكن ضبطها. لكن المهاجرين ضرورة للعمل رخيص الاجر في البلدان الصناعية المتقدمة. وهاهم صاروا خطرا عليها بافكارهم المستوردة. كل مجتمع تقليدي يكره الافكار المستوردة. كل نظام استبدادي يكره الافكار التي لا يخترعها الطاغية. اما افكار البنى السفلية للمجتمع، وهي ما يشكّل سر المجتمع، فهي ما يشكّل خطراً اجتماعياً وسياسياً. تخون العولمة نفسها لانها لا تتحمل حركة المجتمعات السفلى.
نصاب المدينة هو روح الفرد، دماغ الفرد الذي لا يمكن النفاذ اليه. الدماغ محميّ ضد الجمجمة بطبقة سائلة تفصل بينهما. لا يمكن اختراق هذا الفاصل. هو السدّ المنيع في وجه الثورة المضادة.
ينشر التزامن مع الاعمار والاقتصاد