كان كبقية أيامي خلال آخر عامين يوما طويلا. أعود منهكة جسديا ونفسيا. أخلع بعض ملابسي وأرتدي أخرى. أدخل المطبخ وأفتح الثلاجة فأجد ما تعودت أن أراه ولكن بأحجام أو كميات متغيرة. يتسرب إلى نفسي الملل وأنا أقف أمام ثلاجتي ذات المحتوى المتواضع ورغما عني يصدر السؤال السخيف كثير التردد، أمن أجل هذا أقضي ساعتين أقود سيارة هي أيضا منهكة وأصعد الدرج مع آخرين متعبين بتعب مثل تعبي إلى مكاتب عملنا. هناك نقضي ثمان ساعات نكد في عمل مزمن. أسمع من رئيسي كلاما حلوا لا علاقة لأكثره بعملي، كلام حلو لا يشجي أو يحرك حسا. على كل حال هو الوحيد بين رجال العمل الذي استمر يقول لنا كلاما حلوا. لم نعد نسمع من غيره من الزملاء كلاما حلوا من أي نوع. نسمع نحن معشر نساء العمل الكلام الحلو الذي لا يتوقف رؤساؤنا عن النطق به ونتوتر. أما كلام زملائنا فكنا نسمعه ونرتاح. كان كلامهم كعطر ناعم يفوح من باقة الورد التي تعودنا أن نضعها في زهرية على مائدة تتوسط صالة العمل، عطر يفوح على امتداد اليوم يلم ويحضن وأحيانا يبهج.
أقول كان وكنا وكانوا لأن لا شيء ولا أحد بقي على حاله، حتى نصفنا الآخر في هذه الحياة وأقصد الرجل، صار في حسابات أغلبنا، أغلب النساء، يحتل أقل من النصف المقرر له بديهيا. تذكر يا صديقي أياما، بل عقودا، بل أقصد قرونا، كنتم يا معشر الرجال تحتلون النصف الذي تستحقون وتجورون على النصف الذي هو من حق المرأة. تفهمنا وتحملنا وتأقلمنا ولكننا بالغنا في كل هذا. هل كنا حقا من الضعف الذي يعرضنا للتهلكة في ظروف مناخية قاسية وبيئة صعبة وبشر لم يتحضر فرضينا بتجاوزكم كل الحدود في علاقتكم بنا. الخوف من عالم تفترس الكائنات بعضها البعض الآخر دفعنا لقبول عيش الحريم. ارتخينا فاستسلمنا لواقع فرضته علينا يا رجل، أو لواقع شاركناك كتابة نصوصه. ألم نكن نحن أصحاب لقب “سي السيد” والمنظومة التي يمثلها. من غيرنا كان يستطيع إعدادك وتأهيلك لتستحق هذه المكانة الأعظم وتفيها حقها من التبجيل؟. وقارك نحن رسمناه ثم صغناه ثم دربناك عليه ثم فرضناه معك على كل عيالك واهل الحي. صدقني، جعلناك رجلا ثم سيد الرجال حتى تنمرت وطغوت.
جاء قرن في الزمان ويوم غضبنا فيه غضبتنا العظمى، رحنا نبحث في ماضيك عن شيء لا نعرفه، شيء غاب عني أنا الأم والشقيقة والحبيبة والزوجة والابنة والزميلة والصديقة. ذهبنا إلى كل الأرجاء نجمع أخطاءنا وزلاتنا نحن النساء ونتعرف على الشيطان الذي أوقع بيننا وفتح فجوة تعصى على الردم.
تسألني ماذا جرى لسي السيد؟ تقول أنك بعد بحث اكتشفت أن آخرين مثلك في مجتمعات عربية عديدة يسألون السؤال نفسه، أين اختفى الرجال بمواصفات “سي السيد المصري”. لن أجيبك إجابة شافية ولكن أترك لنساء غيري الفرصة ليحكين عن تجاربهن في عصر “ما بعد سي السيد” علك تجد إجابة. تذكر ولا شك صديقتي، وهي أيضا جارتي في السكن. أتصلت بي ليلة أمس. ما أن سألتها عن أحوالها العاطفية حتى اندفعت تحكي مرتبكة ومتأثرة. تقول إنها عادت من يوم ممل في العمل وقد قررت أن تفعل شيئا مختلفا عما تفعله كل يوم. تذكرت أنها تعرفت قبل أسابيع خلال اجتماع عمل إلى رجل في منتصف العمر، أو تجاوز المنتصف فبدا مقتربا من الخمسين. يومها عرض عليها استكمال حوار دار بينهما خلال لقاء في مكان عام. قررت أن تتصل به وتعرض استكمال الحوار وتتركه يقترح المكان والوقت. تقول إنها ما كانت تختار الخروج مع رجل على هذا النحو لو أن الملل لم يتمكن منها. خرجت ولييتها ما خرجت. كانت تجربة من كافة نواحيها كاشفة. الرجل، وهو مطلق ومن طبقة فوق مستوى الطبقات الصاعدة حديثا ويحتل منصبا يؤهله لمناصب اخرى أرفع، يقترح على امرأة حرة متعلمة تعليما راقيا وتؤدي مهام مرموقة وتعرف كيف تعتني بجمالها وملبسها وافقت على الخروج معه وأن تقابله بعد هبوط الليل في محل هو بين المقهى والمطعم تصدر من جنباته موسيقى صاخبة بل وعنيفة إن صح وصف موسيقى بالعنف. لم يعرض أن يمر عليها أو أن ينتظرها عند مدخل “هذا الشيء” فلا يتركها تدخله منفردة تبحث بين الموائد عن رجل هي في الواقع لا تذكر جيدا تفاصيله. اختار مكانا يؤمه ذوي الدخل المنخفض وأغلبهم من أعمار أقل كثيرا من عمره وأقل من عمرها. لم تعرف إن كانت الدعوة تقتصر على تناول مشروبات أم يدخل فيها عشاء.
جلس وطلب لنفسه مشروبا باردا فطلبت لنفسها مشروبا ساخنا. جلست في مواجهة مرآة لتتساءل طول الوقت عما تفعلة امراة إلى هذا الحد جميلة وأنيقة مع رجل إلى هذ الحد غير مكترث براحتها وحاجتها ورغباتها، قضت اللقاء وعيناها مثبتتان على المرأة في المرآة وعيناه، كما لمحت بطرف عينها، تلاحقان نساء بعضهن مراهقات وأغلبهن باحثات عن مغامرة. خرجت من اللقاء بانطباع أن الرجل لم يتعب على حاله بعد أن قرر الخروج مع امرأه بمواصفات معينة. لم يرتد ما يليق بعمره، لم يستعد بموضوعات للحديث، لم يلتزم مراسم التعامل الاجتماعي في حضور نساء.
وهذه حكاية من صديقة أخرى. حكت أنها تزوجت صغيرة. تزوجت عن حب من رجل يحمل مؤهلات “سي السيد”. كان طموحا وناجحا وشهما. لم أشعر بالخوف يوما وأنا معه. كم تفاخرت به أمام شقيقاتي وزميلاتي أمد إليهم عند حاجتهن شهامته وحمايته. في البداية كان زوجي “مشروع سي السيد ” وبفضلي صار “سي السيد صغيرا” ومع الأيام أصبح “سي السيد كبيرا” بحجم الحارة ثم بحجم الحي. لاحظت أنه مع كل انتقال من درجة إلى أخرى كان اهتمامه بالنساء يزداد. تصورت أنه من نفوذه وشخصيته ووقاره يحصل على الانبهار والملاحقة ومن الشعبية والإعجاب تتضاعف طاقته وقوته وتتراجع مكانة اهل بيته. تحملت سي السيد عقدا من الزمن وتطلقنا ثم تحملته عقدا آخرا وتطلقنا. أنا الآن أعود اليه. أشفق على رجل كان “سيد الرجال” في زمانه وانحطت أحواله. أنهكته المخدرات وأهلكه الشراب. صار عليلا ومنكسرا. صار، وهو التطور االفتاك، صار عالة على نسائه. لم تعد سمعة سي السيد تكفي لتلبية حاجاته ورغباته. رأيته على هذه الحال فاستعدته على أمل أن أعيده رجلا كما بدأ. خانني التوفيق. الرجل إذا سلك طريق العوز والضعف والاتكال على غيره فقد رصيدا هاما من “رجولته” كما عرفها وعرفها من كانوا حوله. أعدته ليعيش في ٍأحضاني ولو شبح رجل، ولكنه عاد، وهو في منتصف العمر، عجوزا يلهث وراء النساء ويستجدي ثمن ما يطفئ به جذوة إدمان أو يشبع رغبة لا ترحم.
أغلبنا فقد الأمل. نشعر كما لو أن إعصارا هب فأطاح بعديد القيم. لنا معركة مع الرجال لم نطلق شرارتها بعد. بيننا من تدعو لانتهاز فرصة ضعفه لنفرض التسوية التي نحلم بها. وبيننا من تحذر من طباع خيانة وسلطة مستبدة لن تدع المرأة تحصل على ما حرمت منه منذ البداية، ما هي إلا نكسة يعود منها الرجل أشد تسلطا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق