سؤال افتراضي مثل أمور وموضوعات كثيرة نناقشها هذه الأيام. بطبيعة الحال لا نتوقع أن تسقط أمريكا أو تتوقف تماما عن أداء دورها القيادي خلال شهور أو سنين قليلة، لكننا توقعنا أن تثار في أيامنا الراهنة قضايا عديدة تتصل بصعود الصين واقترابها المتزايد من مواقع قيادة في النظام الدولي. وبالفعل القضايا مثارة والحديث عن السباق إلى القمة يشغل العديد من صفحات الصحف ودراسات مراكز البحث في كافة أرجاء العالم، ربما باستثناء الصين صاحبة الشأن والمصلحة. هذا الاستثناء، في حد ذاته، كاف كمحور رئيس من محاور النقاش الدائرة حول سؤالنا الافتراضي، من يرث أمريكا؟ أملا في الاهتداء إلى إجابة ولتكن افتراضية هي الأخرى.
أمريكا، أقصد تحديدا الولايات المتحدة الأمريكية، حلت محل بريطانيا العظمى وريثا فعليا ثم شرعيا منذ فرضت على الساحة الدولية سلاما أمريكيا. استمر هذا “السلم الأمريكي” فاعلا بشكل أو بآخر وبدرجة أو أخرى من النجاح حتى عهد قريب عندما اتضح أن دولة أخرى، وهي الصين، استطاعت في سنوات قليلة أن تحقق درجات في النمو الاقتصادي والقدرات العسكرية والنفوذ الدولي، وهي السنوات ذاتها التي شهدت بدايات انحسار أمريكي مطلق في قطاعات، مثل البنية التحتية، ونسبي في قطاعات أخرى. تدل شواهد عديدة على أن المملكة المتحدة عاجزة بالتأكيد وحتى إشعار آخر عن لعب دور فاعل، ولو ثانوي، في النظام الدولي ناهيك عن استعادة إرث المسئولية المطلقة عن دور القيادة والهيمنة على السلم العالمي.
شواهد أخرى ظهرت على سطح معسكر الغرب خلال السنوات العشر الأخيرة جعلتنا نستبعد أن نرى في يوم قريب، نحن وبقية بنات وأبناء جيلي وربما بنات وأبناء الجيل التالي لنا، دولة غربية أخرى تسعى لاستلام هذا الإرث أو حتى تحلم بيوم تحل فيه محل بريطانيا العظمى وخليفتها أمريكا قائدا للغرب كله ومهيمنا على النظام الدولي أو على أغلب تفاعلاته الهامة. يتصدر أيضا قائمة هذه الشواهد مزاج أمريكي غير واثق من صلابة حلف الأطلسي ووحدته. هذا المزاج ينبئ كذلك عن عدم استعداد الأعضاء الأوروبيين في الحلف ترجمة التزاماتهم المعنوية لمساهمات مادية وعسكرية تخفف من العبء الواقع على إمكانات أمريكية متوالية الانحسار. تصدرت القائمة في الوقت نفسة موجة خلافات أوروبية الطابع والتاريخ، خلافات مصحوبة دائما بذكريات مؤلمة.
بمعنى آخر، إذا استبعدنا كندا وريثا محتملا لأمريكا، وأسباب الاستبعاد معروفة، وإذا استبعدنا بريطانيا ما بعد البريكسيت أو حتى قبله، وريثا آخرا، واستبعدنا فرنسا أو قيادة ثنائية من ألمانيا وفرنسا جربت نفسها بدرجات متفاوتة من الفشل، وريثا ثالثا، إذا استبعدنا كل هذه البدائل سوف نجد أوروبا أو الغرب بأسره مفتوحا أمام احتمالين كليهما مصدره دولة روسيا الاتحادية. احتمال قصير الأمد تعرض فيه روسيا مع المانيا على “بقية” الأوروبيين قيادة ثنائية تضمن حالة سلم تشارك فيها بالدعم فرنسا أو لا تشارك. واحتمال طويل الأمد حتى يتحقق أولا القبول بروسيا الاتحادية دولة غربية أو بالأصح أوراسية ويتحقق ثانيا حلم روسيا الأوراسي، ويتحقق ثالثا حلم قديم لجنرالات أوروبا، حلم الوصول بدفاعات أوروبا إلى عمق آسيا، أي إلى حدود العملاق الصيني.
يبقى لنا من الاحتمالات الاحتمال الأصعب حتى في ظل الأوضاع الافتراضية التي يجري التحليل في سياقها، وأقصد أن يسفر العجز الغربي عن صنع وريث مناسب لأمريكا، أو عن التوصل إلى صيغة قطبية ثنائية تشترك فيها الصين مع أمريكا يجري بمقتضاها تسيير نظام دولي جديد، حينذاك، أي في ظل هذا العجز الغربي ونتيجة له، سوف تجد الصين نفسها مجبرة على استلام الإرث وتولي مسئولية قيادة نظام دولي منفردة وفرض “سلم صيني” على العالم. واقع الأمر يزيد من صعوبة تحقيق أي من هذه الاحتمالات الافتراضية إلا أنه لا يجعلها مستحيلة.
نشأت في القرن الماضي قطبية ثنائية بين روسيا والولايات المتحدة في ظل تفوق نسبي لأمريكا على الاتحاد السوفييتي. كان لكل من القطبين رسالته الأيديولوجية المعلنة في وثائق وشهادات ولكن أيضا في ممارسات وسلوكيات. الرسالتان متناقضتان في العديد من منطلقاتهما وتطبيقاتهما الأمر الذي أسبغ على نظام القطبين والصراع والحرب الباردة الدائرة بينهما مشروعية من نوع خاص. وبالتالي كان منطقيا أن يكون انضمام الدول لقطب دون الآخر ما يبرره فضلا عن أهمية التمسك بالالتزام والولاء كشرطين ضروريين للاستمرار في ممارسة الخلاف بين أعضاء الحلفين. الواقع كما نراه ونلمسه عن قرب يستبعد أن تكشف الصين في الأجل المنظور عن رسالتها إلى البشرية، رسالة مختلفة جذريا عن رسالة أي دولة غربية تتقدم لاستلام الإرث منفردة أو بالشراكة مع الصين أو في مواجهتها كخصم أو عدو. كانت رسالة بريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر إلى إفريقيا والبشر عامة صريحة ومحددة، رسالة من الرجل الأبيض تدعو الشعوب الأخرى، غير البيضاء، للانضمام إلى مسيرة التمدن والتحضر. وفي القرن العشرين دعت أمريكا العالم إلى الالتزام بمنظومة قيم تمجد حقوق الفرد وحرياته وتقدم الحل الرأسمالي طريقا أمثل للرخاء، بينما دعا الاتحاد السوفييتي إلى الاشتراكية خيارا أمثل وأسرع وأكفأ.
أسأل وجاءني ما يشبه الجواب. ما مضمون الرسالة التي تنوي القيادة الصينية طرحها على البشرية بديلا أخلاقيا وسلوكيا لما يطرحه منافس غربي على إرث الولايات المتحدة صاحبة قرن السلم الأمريكي وشريكة الاتحاد السوفييتي في قيادة النظام الدولي خلال عقود أربعة. أتصور أن الصين لم تضع بعد صيغة رسالة إلى الشعوب تدعم بها جهودها لاستكمال مشوارها إلى القمة. ما تزال القيادة الصينية متمسكة بصيغة طرحتها على قادة عدم الانحياز ومضمونها التزام عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول. أظن أنه في حالة الإصرار عليه وحده رسالة من الصين وعينها على القمة لن يكون كافيا حيث أنه في أصله يتوجه إلى حكومات ولا يتوجه إلى شعوب. تستطيع أيضا أن ترفق بهذه الصيغة المبتسرة ما يقدم للنموذج الصيني في التنمية مع التركيز على كفاءة الاشتراكية التي سمحت للصين بالإنهاء على الفيروس قبل أي دولة غربية.
أخشى أن يزداد في قيادة الحزب الشيوعي الصيني التأييد لفكرة صياغة “رسالة آسيوية” صادرة إلى العالم من الدولة التي أثبتت نجاحا مبرزا في المواجهة مع فيروس الكورونا، وهي الصين. الخوف كل الخوف أن ينجر قادة العالم إلى ساحة حرب باردة جديدة طرفاها “الجنس الأصفر” الصاعد منذ عقد التسعينيات من القرن الماضي في جميع المجالات باسثناء مجال الحقوق والحريات، والطرف الثاني “الجنس الأبيض” المنحسر نفوّذا والمتهم بتجاوزات أخلاقية وعنصرية ضد الأجناس الأخرى في تناقض صارخ مع رسالته إلى العالم.
هناك دائما الكثير مما يقال ومما يجب أن يقال في مقال يطرح ويناقش أسئلة افتراضية وإجابات أيضا افتراضية، فما البال وقد تداخلت مختلف العوالم واختلط علينا واقعنا في كثير من مواقعه بعوالمنا الافتراضية؟!