أطلقوا على يوسف السباعي لقب “سكرتير عام مصر” لأنه شغل منصب “الأمين العام” في عدد من المؤسسات على فترات متتالية، وأحيانا جمع بين العديد منها في الوقت ذاته. بعد استقالته من الجيش وهو برتبة عميد سنة 1956 تم تعيينه في منصب الأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (لاحقا تولى رئاسته برتبة وزير). ثم الأمين العام لمنظمة تضامن الشعوب الإفريقية والآسيوية، ولاتحاد الكتاب الأفرو آسيويين. وكان رئيس نادي القصة ونادي القلم واتحاد الكتاب. تولّى رئاسة تحرير مجلة “آخر ساعة” ورئاسة مجلس إدارة “دار الهلال” ورئاسة مجلس إدارة ورئاسة تحرير “الأهرام”. كما انتخب نقيبا للصحفيين عام 1977. ولا ننسى أنه تولّى منصب وزير الثقافة. إضافة إلى شهرته كأديب عرفت رواياته الرومانسية الرواج الكبير واقتبست جميعها تقريباً في أفلام سينمائية. إلى جانب مسرحياته وسيناريوهات الأفلام التي كتبها.
عرفته سنة 1972. كان تلفزيون لبنان يستعد لإنتاج حلقات تتضمن مقابلات مع شخصيات شهيرة لبنانية وعربية، في برنامج يقدمه اللبناني رياض شرارة والمذيعة السورية المقيمة في القاهرة رشا مدينة. وكُلفتُ إدارة انتاج ما سوف يتمّ تصويره في مصر. توجهت إلى القاهرة ومعي قائمة بها 40 اسماً لمشاهير، ينبغي أن أتصل بهم وأن اتفق معهم على التصوير، على أن أخبر إدارة تلفزيون لبنان بأنني انتهيت من إعداد برنامج العمل وبوسع المخرج ألبير كيلو ورياض شرارة الحضور.
وكان اسم يوسف السباعي في القائمة. كان آنذاك رئيس مجلس إدارة “دار الهلال”. حصلت على رقم الهاتف من أحد أعداد مجلة “المصور”. اتصلت به وعرّفت عن نفسي وعن مهمتي وطلبت موعداً. سألني “إنت بتتكلم منين؟” قلت “من فندق هيلتون النيل” قال “إنت جاهز دلوقت؟”.. قلت “نعم” قال “تعال دلوقت.. دار الهلال مش بعيدة عن ميدان التحرير.. نحن في شارع المبتديان المتفرع من القصر العيني”.
استقبلني بابتسامة و”أهلا”.. قلت له: بصراحة، أنت أول شخصية سهّلت مهمتي بعدما كدت أيأس من تسويف الاخرين”. قال: “حين كنت في عمرك كنت أنزعج للغاية من الذين يُخرِجون روحي قبل إعطائي الموعد. أنت كلمتني والساعة 9.. نظرت في المفكرة فإذا أول موعد في الساعة العاشرة.. ولذلك قلت لك إنْ كنت قريبا من دار الهلال فتعال”.
ظل هذا الانطباع الإيجابي عن يوسف السباعي محفوراً في ذاكرتي حتى آخر أيامه. وفي الزيارة التالية إلى القاهرة مررت بمكتبه وكان الحديث عن السينما. قال إن تحويل رواياته إلى أفلام سينمائية ضاعف من رواجها. وكنت أعرف أن الأفلام المقتبسة عن رواياته شارك هو فيها بكتابة السيناريو أو الحوار أو كلاهما. لكنني سألته عن عمله في السينما كمحترف متخصص في كتابة النص السينمائي بمعزل عن رواياته. قال: “الحكاية بدأت سنة 1950. وكان ذلك أول احتكاكي بالسينما. يومها كتبت فكرة فيلم “أخلاق للبيع” الذي أخرجه محمود ذو الفقار. الفكرة فقط. السيناريو والحوار كتبه أبو السعود الإبياري. أنا راقبت كيف تحولت الفكرة إلى سيناريو. الفيلم الثاني (1954) كان “آثار على الرمال” عن رواية لي. وحوار الفيلم من كتابتي. لكن السيناريو اشتغله مخرج الفيلم جمال مدكور. تناقشت معه، استفسرت، وتعلمت. ثم كانت أفلام مع عز الدين ذو الفقار عن رواياتي لكنني اشتركت معه في السيناريو والحوار. وطبعا أنا من الأساس من هواة السينما، وحرصت على مشاهدة الأفلام المأخوذة عن روايات أعرفها، منها: أوليفر تويست، والفرسان الثلاثة، ووداعا للسلاح.. ورحت أقارن بين الرواية وسيناريو الفيلم وأنتبه إلى كيفية تحويل الرواية إلى فيلم”.
وفي جلسة ثانية دار الحديث عن السينما، وكنت مهتما بدور يوسف السباعي السينمائي إذ لم تسلط عليه الأضواء كفاية، على عكس الكاتب الروائي الشهير. قال: “بعدما أدركت سرّ الكتابة السينمائية، كتبت السيناريو لقصص مؤلفين آخرين. فيلم “بهية” قصة حامد عبد العزيز، أنا كتبت السيناريو والحوار. فيلم “شباب اليوم” قصة وسيناريو محمود ذو الفقار وعبد العزيز سلام وأنا كتبت الحوار. وهناك أفلام اقتبستها من روايات أجنبية وكتبت لها السيناريو والحوار مثل “الليلة الأخيرة” الذي أخرجه كمال الشيخ. وفي فيلم “وا إسلاماه” كتب القصة علي أحمد باكثير والسيناريو الأميركي روبرت أندروز، وأنا كتبت الحوار. وهناك الأفلام الجماعية.. فيلم “جميلة” مثلا وهو عن المناضلة الجزائرية جميلة بو حيرد. أنا كتبت القصة أما السيناريو والحوار فكتبه نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني. ثم عهد يوسف شاهين مخرج الفيلم إلى وجيه نجيب إعادة صياغة السيناريو بما يتناسب مع أسلوبه. نفس الحكاية في فيلم “الناصر صلاح الدين”. أنا كتبت القصة والحوار، أما المعالجة السينمائية فاشتغل عليها نجيب محفوظ وعز الدين ذو الفقار الذي كان سيخرج الفيلم، لكن بعد مرضه رشح يوسف شاهين ليحلّ محله. يوسف شاهين اشتغل على السيناريو ومعه عبد الرحمن الشرقاوي”.
من لقاءاتي التالية به، في القاهرة أو في بيروت، أدركت أنه إنسان ساخر وصاحب نكتة. ولم أستغرب ذلك عند كاتب المسرحيات الكوميدية “أم رتيبة” و”جمعية قتل الزوجات” و”وراء الستار”، وعند كاتب الروايات التي ظهرت فيها روح الفكاهة واضحة مثل “السقا مات” و”أرض النفاق”. وحين سألته ذات مرة رأيه في ما يقال عنه من أنه “الراوي الرومانسي” قال: “يمكن لأن أول رواياتي التي اقتبست في السينما كانت روايات عاطفية: آثار على الرمال.. إني راحلة.. ردّ قلبي.. بين الأطلال… لكن “ردّ قلبي” مثلاَ فيها سياسة وسوسيولوجيا.. ثم أني كتبت روايات عديدة لا أثر للرومانسية فيها مثل “السقا مات” و”أرض النفاق” و”نحن لا نزرع الشوك”.. وغيرها”.
في 1973 اتفقت مع يوسف السباعي على تحويل روايته “آثار على الرمال” إلى مسلسل تلفزيوني أكتب له أنا السيناريو والحوار، وكان في نيتي التقدم بالمشروع إلى تلفزيون الكويت. أعطاني تفويضاً للتصرف بالرواية، لكنني اتفقت لاحقا مع تلفزيون لبنان الذي أنتج المسلسل. وكان من إخراج إبراهيم الخوري وبطولة منير معاصري وإلسي فرنيني. وكان مؤلف الموسيقى التصويرية الخاصة بالمسلسل ملحن شاب في السابعة عشرة من عمره، هو زياد الرحباني، وكانت المرة الأولى التي يؤلف فيها موسيقى تصويرية، بل كانت المرة الأولى في التلفزيون اللبناني التي يتمّ فيها تأليف موسيقى خاصة بمسلسل درامي، إذ جرت العادة قبل ذلك التاريخ على استخدام موسيقى معروفة تنقل من أسطوانات. وكان زياد الرحباني قدمّ من قبل مسرحيته الأولى “سهرية” ولحن أغنية “سألوني الناس عنك يا حبيبي”، ويستعد للمسرحية الثانية “نزل السرور”.
في سنة 1974 تأسست لجنة مهرجانات عنجر الفنية في لبنان. وعنجر هي البلدة الواقعة على الحدود بين لبنان وسوريا، وسكانها من المنحدرين من أرمينيا. وكانت رئيسة اللجنة زوجة نائب أرميني، ونائبة الرئيسة السيدة منى الهراوي، زوجة نائب زحلة آنذاك ورئيس الجمهورية لاحقا إلياس الهراوي. وكنت على صلة وثيقة بآل الهراوي فسألتني السيدة منى رأيي وقالت إن الميزانية المالية لديهم ليست ضخمة. قلت سأتصل بوزير الثقافة المصري يوسف السباعي. وافق على دعم المهرجان الفني الوليد وتقرر إرسال فرقة رضا العريقة للفنون الشعبية على نفقة الوزارة المصرية. رحّبت سيدات لجنة مهرجانات عنجر وشكرت السيدة هراوي الوزير السباعي، الذي قدّم خدمة جليلة أخرى إذ اتفق مع شركة مصر للطيران على نقل الفرقة بكاملها مقابل وضع دعايات لها. وكان أن أحيت فرقة رضا المهرجان لمدة أربعة أيام صارت خمسة بفضل الإقبال المنقطع النظير بحضور 3 آلاف متفرج كل ليلة! ونجح المهرجان الذي تكلف قروشا بفضل دعم يوسف السباعي.
صُنّف يوسف السباعي سياسيا في خانة اليمين، والواقع أنه لم يكن يساريا. بيد أنه كان على علاقة جيدة بالعديد من مثقفي اليسار. وقد أخبرني كاتب شيوعي أنه حين خرج من المعتقل سنة 1964 كان متورم القدمين، وفشل في الحصول على منحة للعلاج في موسكو رغم وجود علي صبري رئيسا للحكومة. أخبر يوسف السباعي الذي حمل الملف فوراً إلى منزل الرئيس جمال عبد الناصر (زميل الدراسة في الكلية الحربية) وحصل على قراره بسفر الكاتب إلى موسكو للعلاج.
كما كان يوسف السباعي على علاقة وثيقة بالاتحاد السوفياتي وقد نال وسام لينين سنة 1970. وقد تابعت أعمال مؤتمر اتحاد الكتاب الأفرو آسيويين الذي عقد في بيروت سنة 1974 وفيه شنّت وفود العراق وسوريا وليبيا هجوما عنيفا على السباعي بسبب استقالة أحمد عباس صالح مضطرا من رئاسة تحرير مجلة “الكاتب” الصادرة عن وزارة الثقافة. والذي دافع عن الوزير السباعي بقوة كان الكاتب الشيوعي عبد الرحمن الشرقاوي. ولم تكن الحملة في الواقع بسبب إجبار أحمد عباس صالح على الاستقالة، بل بسبب قرب يوسف السباعي من الرئيس أنور السادات. وفي ذلك المؤتمر تدخل السوفيات لصالح السباعي فعملت الوفود المعترضة على التهدئة.
ولدى الزيارة الشهيرة التي قام بها الرئيس السادات إلى إسرائيل في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977 كان يوسف السباعي في الوفد المرافق. لسبب بسيط، وهو أنه جرت العادة منذ أيام الرئيس عبد الناصر أن يصطحب رئيس الدولة في زياراته الرسمية إلى دول أخرى وفدا إعلاميا يتشكل من رؤساء تحرير الصحف القومية. وكان يوسف السباعي آنذاك رئيسا لتحرير “الأهرام” ونقيبا للصحافيين، وبهذه الصفة انضم إلى الوفد الرسمي.
وفي 18 فبراير/شباط 1978 اغتيل يوسف السباعي أمام متجر بيع الصحف في فندق هيلتون في نيقوسيا عاصمة قبرص وكان يحضر مؤتمر منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الآسيوية بصفته الأمين العام. لم تكن لديه حماية أمنية ولم يطلبها. وكانت مرافقته للرئيس السادات في زيارة إسرائيل هي ذريعة الاغتيال. والواقع أن الوفد المرافق للسادات ضم اثنين من كبار صحافيي التطبيع هما موسى صبري وأنيس منصور. والأول هو الذي أعاد صياغة الخطاب الذي ألقاه السادات في الكنيست، وكان بطرس غالي كتب النص الأولي الذي لم يعجب السادات بسبب أكاديميته. اغتيل يوسف السباعي ولم يبلغ الحادية والستين من العمر.