فيلمون وهبي فنان ثلاثي الأبعاد: ملحن وممثل وصاحب أغان نقدية ساخرة. من هزلياته الغنائية الشهيرة التي نظمها ولحنها وغنّاها: “سنفرلو ع السانفريان” و”كشوا الدجاج من قدام البيت” و”بسيطة”.. و”عندك بستان يا سعدى” التي غنتها صباح أيضا. ومن أدواره الشهيرة: شخصية سبع في الدويتو مع منصور الرحباني “سبع ومخول” وقد أُنتج العديد من هذه الاسكتشات في حلقات إذاعية وتلفزيونية. كما تألق فيلمون وهبي الممثل الكوميدي في مسرحيات الأخوين رحباني، وفي مسرحيات معينة قامت ببطولتها صباح. أما ألحانه فهي البعد الأول، عرفت النجاح ونالت الإعجاب منذ إذاعتها لأول مرة. ألحانه أدّاها أشهر نجوم الغناء. أذكر على سبيل المثال: “يا أمي طلّ من الطاقة” (صباح) “برهوم حاكيني” (نجاح سلام) “بتروح لك مشوار” (وديع الصافي) “يا هلا بالضيف” (سميرة توفيق) “هدّوني هدّوني” (نصري شمس الدين). وباقة كبيرة من أغاني فيروز، منها: “جايبلي سلام”، “يا دارة دوري فينا”، “ليلية بترجع يا ليل” و”يا مرسال المراسيل”.
إنجازات فيلمون وهبي الفنيّة معروفة لدى الجميع، لذلك سأتطرق إلى البعد الرابع، إلى فيلمون الإنسان. رب العائلة، الأب الطيب، الذي تزوج من جانيت خوري سنة 1946 وكانت مغنية واسمها الفني تغريد الصغيرة، وأنجبا أربعة: البكر اسمه عماد والثاني يدعى سعيد على اسم أبي فيلمون وآخر العنقود اسمه ربيع. والإبنة الوحيدة اسمها ألحان. واسمها الكامل: ألحان فيلمون وهبي.
فيلمون العصامي، الذي لم تسنح له الفرصة لدراسة الموسيقى في كونسرفاتوار، ولم يتعلم كتابة النوتة الموسيقية، عوّض ذلك بفضل موهبته الفطرية الفيّاضة التي جعلته يبدع الألحان الجميلة السهلة، التي يستوعبها الجمهور من أول استماع ولا يلبث أن يرددها. كان يعزف على آلة العود لكنه لم يكن محسوبا في قائمة عازفي العود البارعين. كان يلحن بالدندنة وبنقر اصابعه على الطاولة وحين يولد اللحن يعزفه على العود ويسجّله. كان أولاده قد اشتروا له آلة تسجيل ودرّبوه على استخدامها، لكنه كثيرا ما كان يستنجد بهم طلبا للعون التقني! كان يسلّم اللحن إلى الأخوين رحباني وهما يقومان بمهمة تدوين النوتة والتوزيع الموسيقي. ومثل هذه المهمة قام بها آخرون ومنهم سليم سحاب، عندما لحّن فيلمون وهبي لفيروز مجموعة من الأغاني خارج الإطار الرحباني وكانت من نظم جوزف حرب، ومنها “ورقه الأصفر” و”طلع لي البكي” و”أسوارة العروس”.
وفيلمون هو الملحن الذي بدأ حياته المهنية منشداً. اعتُمِد مغنيا في الإذاعة اللبنانية سنة 1937 وهو في التاسعة عشرة من عمره (مواليد 1918) وفي السنة ذاتها سافر إلى فلسطين وكان يغني في ملاهي ومسارح تل أبيب ويمشي على الأقدام إلى يافا ليسجل أغانيه في إذاعة الشرق الأدنى. وبعد سنوات شعر أن طريق الغناء وعرٌ في وجود نجوم كبار من وزن محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وأدرك أن درب التلحين أسهل وأرحب خصوصا وهو يملك الموهبة. وكانت أغنية “على مهلك يا مسافر” باكورة ألحانه. ومن ألحانه المبكرة أغنية “يا با قلبي ما ادري إيش بي” التي أنشدتها نجاح سلام. ثم ما لبث فيلمون وهبي أن أصبح في مطلع الخمسينات من مجموعة الملحنين الذين وضعوا أسس الأغنية اللبنانية الحديثة مع الأخوين رحباني وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وحليم الرومي.
وفي حياته كما في ألحانه ظلّ فيلمون وهبي إبن كفرشيما البلدة التي ولد وعاش عمره فيها. كفرشيما التي أنجبت العديد من الأدباء والفنانين، منهم: ناصيف اليازجي وولده إبراهيم، وآل تقلا مؤسسو جريدة “الأهرام” القاهرية، والمفكر شبلي الشميل، والشاعر المهجري إلياس فرحات، والشاعر والصحافي جورج رجي، وملحم بركات وعصام رجي وماري سليمان، وفيها عاش حليم الرومي وولدت وترعرعت ابنته ماجدة.
ومن بلدة كفرشيما صديق لفيلمون وهبي اسمه أبو نمر يملك محطة بنزين. أتذكّره الآن لأنه في بعد ظهر ذات يوم في صيف 1976 كنت أحتسي القهوة مع “أبو عماد” في صالون “فندق الشرق”، أوريانت بالاس، مقر إقامتنا آنذاك في دمشق، أطلّ أبو نمر مستعجلا وطلب من فيلمون وهبي أن يلحق به بسرعة بحجة أنه ركن سيارته في مكان ممنوع الوقوف فيه. وما كان من فيلمون إلا أن لبّى النداء وأسرع خارجا مع “أبو نمر”. وبعد سهرة طويلة عدت في أواخر الليل إلى الفندق فوجدت زوجة فيلمون وابنته ألحان ساهرتين جالستين في الصالون حزينتين باكيتين قلقتين بسبب اختفاء فيلمون وقد سألتا عنه الأصدقاء والمخافر والمستشفيات ولم يعثر عليه أحد! قلت: رأيته ذهب مع “أبو نمر”. فهتفت زوجته وقد تنفّست الصعداء “إذاً هو راح إلى الصيد”! وارتاحت الزوجة والإبنة وذهبتا إلى غرفتهما. وفعلا كان فيلمون وهبي قد رافق “أبو نمر” في رحلة صيد وعاد مع بزوغ فجر اليوم التالي! ومن شدة إلحاح “أبو نمر” نسي أبو عماد أن يخبر أهله عن مشروع الصيد!
كان الصيد شغفا كما كان التلحين والأداء التمثيلي. وهو اعتاد منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي أن يقوم برحلات الصيد إلى سوريا. وكان يحب سوريا البلد والناس. وذات مرة سمعتُ بعض الألسنة الخبيثة تلوك شائعة سخيفة مفادها أن فيلمون وهبي هو رجل المخابرات السورية، بدرجة عميل أو متعامل. واستشطت غضبا لأني أعرف الرجل على حقيقته. كنت في الفندق نفسه شاهدا على زيارات قام بها مسؤولون سوريون، عسكريون ومدنيون، إلى فيلمون وهبي. أسماء معروفة جيدا لدى اللبنانيين لأنها كانت ترد في نشرات الأخبار آنذاك. هم الذين كانوا يأتون لزيارته يستمتعون بمجلسه اللطيف الحافل بالسخريات والطرائف ويستمعون إلى ما جدّ لديه من ألحان. ولم يكن للسياسة دخل في هذه السهرات. وهو لم يسعَ في يوم إلى التقرّب من أحد.
وقلت ردّا على الشائعات البائخة: فيلمون وهبي يتردد على سوريا لأجل الصيد من أيام حسني الزعيم. وبعد سقوط عهد الزعيم عرفت سوريا من الحكام: سامي الحناوي، فوزي سلو، أديب الشيشكلي، شكري القوتلي، جمال عبد الناصر أيام الوحدة ورجل سوريا القوي في عهده عبد الحميد السراج، ثم وقوع الإنفصال وعهد مأمون الكزبري ومعروف الدواليبي، ثم مجيء حزب البعث إلى السلطة بتنويعاته المتخاصمة المختلفة من أمين الحافظ ومحمد عمران، وبروز ميشيل عفلق وأكرم الحوراني وصلاح البيطار، مرورا بنور الدين الأتاسي ويوسف زعيّن وصلاح جديد، إلى حين إمساك حافظ الأسد بزمام السلطة. توالى حكام وأنظمة وعهود. وظل فيلمون وهبي يتردد على سوريا بانتظام. زال الرجال عن العروش وبقي فيلمون وهبي ضيف الشام الدائم. ولو كان عميلاً لأحد هذه الأنظمة لكان النظام التالي اعتبره من أزلام العهد البائد ولكان عاقبه بعنف وربما قصف عمره. كان فيلمون وهبي يحب سوريا والشعب السوري، ومن وفائه ظلّ محبّا.
وما سبق لا يمنع أن الرجل كان صاحب آراء سياسية. لكنها كانت لبنانية محلية. وقربي من فيلمون وهبي سمح لي بأن أعرف ميوله. هو كان من أنصار الرئيس فؤاد شهاب، معجبا بنزاهته، ومقربا من الدائرة المحيطة بالرئيس، ومنها الياس سركيس الذي أصبح لاحقا رئيسا للجمهورية (1976 ـ 1982). كان فيلمون وهبي مقتنعا بأن النهج الشهابي هو الأفضل لحكم لبنان. لكن هذه القناعة لم تأخذه إلى الانغماس في العمل السياسي. ولم يطلب من الأصدقاء وهم في موقع السلطة أيّ خدمة.
وحدث أنه في 30 كانون الأول / ديسمبر 1961 جرت محاولة انقلاب عسكري للإطاحة بحكم الرئيس فؤاد شهاب قادها ضباط ينتمون إلى الحزب القومي السوري الاجتماعي. لكن المحاولة لم تنجح. فنشط جهاز المخابرات المعروف بالمكتب الثاني وتم إلقاء القبض على عسكريين ومدنيين من المنتسبين إلى الحزب القومي السوري بينهم قيادات وكوادر حزبية عليا وأودعوا السجن. وفي تلك الأيام بلغت أنباء المداهمات والاعتقالات مسامع فيلمون وهبي، وكانت أسماء بعض الفنانين ضمن قائمة المطلوب اعتقالهم. فما كان من فيلمون إلا أن توجه ليلاً إلى منزلي الملحنَيْن زكي ناصيف وتوفيق الباشا، وهما حزبيان، ونصح لهما بالتواري عن الأنظار تفاديا للاعتقال. طغى الالتزام الإنساني على الميول السياسية، وحرص فيلمون وهبي على إنقاذ صديقين قديمين تربطه بهما أواصر الزمالة المهنية أيضا. وقد سمعت تفاصيل ذلك من زكي ناصيف ومن توفيق الباشا. ولاحقا لم يتم اعتقالهما لأنهما برغم الالتزام الحزبي لم يشتركا في محاولة الانقلاب.
وإذا استكملنا استعراض ملامح شخصية فيلمون وهبي فلا يمكن تجنب الإشارة إلى ظرفه، وسرعة البديهة لديه، وحضور النكتة والتعبير الساخر. ذات مرة استاءت إحدى الأمهات في كفرشيما من مشاغبة ولدها الصغير فعاقبته بأن ربطته إلى سور الحديقة المنخفض. وتصادف بعدها أن مرّ فيلمون وهبي بذلك المنزل فاستنجد به الطفل وقال “عمو أبو عماد.. فكّ الحبل الله يرضى عليك”، فأشفق فيلمون على الطفل وحلّ وثاقه ومضى. وانذهلت الأم حين رأت طفلها يركض مطلق السراح، وعلمت أن الذي فكّ الحبل هو الفنان الشهير والتقته في ساحة البلدة وعاتبته قائلة: “ولو يا أبو عماد! هيك بتفك حبل الصبي؟!” فعلق قائلا: “أنا بفكّ مشانيق ما بدك ياني فكّ صبي!”…
وذات يوم كنت في باريس أتمشى في جادة الشانزيلزه مع فيلمون وهبي. صادفتنا سيدة لبنانية من سيدات الطبقة المخملية. وانهالت على فيلمون بعبارات المديح باللغة الفرنسية مبدية إعجابها بتمثيله وأغانيه، وهو يرد عليها باقتضاب لكن باللهجة اللبنانية. وهي استرسلت بالفرنسية وهو عمداً يجيبها بالعربية وباختصار شديد. ثم أطلقت عبارة الوداع وكانت طويلة، وإذ مدت يدها للسلام عليه مدّ يده ونطق بالفرنسية بكلمة واحدة قائلا “فريجيدير”! ذهلت السيدة من هذا التعليق أما أنا فضحكت طويلا وجرفتني القهقهات بعيدا.
ولكي يبدد فيلمون وهبي ذهول السيدة أطلق عليها مجموعة من الكلمات الفرنسية غير المترابطة من نوع “بونجور”، “أورفوار”، “أونشانتيه”، “ميرسي” ومضى وهو يتمتم بالعربية كلمات غير مفهومة لكن تعابير وجهه كانت تنمّ عن الاستياء.
الفنان الذي أطرب الناس بألحانه وزرع البسمات في وجوههم بطرائفه، عاش الأشهر الأخيرة من عمره في حزن وهو يصارع الداء الخبيث، إلى أن توفي يوم الخامس من تشرين الثاني / نوفمبر سنة 1985 عن عمر ناهز السابعة والستين.
(نعيد نشرها تكريما لهذا الفنان الشعبي الظريف والطيب وساكن الوجدان بألحانه)