في غضون الأيام القليلة الماضية سمعت أو لعلني قرأت رأيا في مجال التعليق على تعدد مظاهر التسيب والاستهتار في العلاقات االدولية المعاصرة توقفت عنده طويلا. خلاصة الرأي أن العالم صار في حاجة ماسة إلى مزيد من العنف. صاحب هذا الرأي لعله ضمن تيار فكري يعتقد أفراده أن البشرية تعيش مرحلة هي الأقل عنفا في تاريخها الطويل، وأن هذا الميل المتدني لعدم استخدام العنف ربما يقف وراء معظم مظاهر التسيب والاستهتار التي باتت تعكر صفو الإنسان وسعادته وتهدد علاقات الدول بعضها بالبعض الآخر. لست من أعضاء هذا التيار ولست من أنصاره.
أعرف العنف حين أراه. رأيته خلال حياتي في صور شتى. رأيته في حرب عالمية وحروب إقليمية عديدة وحروب أهلية لا أذكر عددها وحروب بالوكالة تمارسها دول عظمى وصغرى وأشباه دول. جربوه في الشارع تحت بيتي وفي الميدان قلب مدينتي. عرفته يطل من عيون آلاف الأطفال في عشوائيات معظم المدن التي زرتها، وأعلم علم اليقين أن الخوف منه يسكن قلوب ملايين النساء، خوف من رجال أخذوا على عاتقهم منذ فجر البشرية مسؤولية قمعهن والتفنن في وسائل إخضاعهن.
أتفهم حجة أصحاب الدعوة إلى زيادة العنف لوقف التسيب والفوضى، أتفهمها إذا جاءت في إطار منظومة قانونية. العدالة مثلا شرط لا غنى عنه لنجاح هدف زيادة العنف للقضاء على جرائم المجتمع كالفساد والجريمة المنظمة. الشفافية شرط آخر. شرعية أو دستورية جهة تطبيق العنف والمبادئ وتنفيذ الأحكام شرط ثالث وهكذا. هذه الشروط وغيرها ضرورية لتحقيق أفضل النتائج لأمن المجتمع ورفاهية مكوناته وسعادة أعضائه إذا احتاج المجتمع السياسة إلى جرعة إضافية من العنف المشروع. شروط وجرعات يقررها المشرع.
المشكلة التي نحن بصددها هنا لا تتعلق بحال الدولة، فالدول مسؤولون من البشر ومؤسسات لهم ولها حق وسلطة تنفيذ القانون إذا تجاوز العنف المجتمعي مداه. هناك أيضا حق الاحتجاج مكفول في بعض الأحيان إن تفاقم التسيب وزادت الفوضى أو راح أصحاب المصالح يصفون الحسابات بينهم باستخدام أدوات العنف وبعيدا عن سلطة الدولة. المشكلة التي اهتم بطرحها هنا هي المتعلقة بحال تسيب رهيب في احترام قواعد التنظيم الدولي وفوضى زاحفة في كافة أرجاء المجتمع الدولي يهددان معظم مؤسساته. حال خرق متفاقم لعديد مبادئ وأخلاقيات التعايش بين الدول. لم أتفق يوما ولا أتفق الآن مع الزعم السائد بأن معظم ما يجري بين الدول لا يهم بالضرورة المواطن العادي في دولة أو أخرى. درست، وأنا طالب، حالات لحكام يجرون بعض علاقاتهم الخارجية في الكتمان طمعا في تفادي إغضاب شعوبهم. أذكر أن دراستي ودراسات آخرين أكدت أن التكلفة في المحصلة النهائية كانت باهظة. أذكر تحديدا حالة بعينها. كثيرون من أبناء جيلي صعقتهم إزاحة ستار الكتمان خلال الاستعداد لحرب سيناء الثانية في عام سبعة وستين عن اتفاق مع الأمم المتحدة وقعته مصر قبل تسع سنوات ينقص قليلا أو كثيرا من سيادة مصر على شبه الجزيرة. كانت تكلفة هذا الكتمان حقا باهظة. تثبت التجارب، واحدة بعد الأخرى، أن ما تفعله الدول في سياستها الخارجية بيمينها تسترده بشمالها إن عاجلا أم آجلا. وبالعكس، وكما اتضح جليا قرنا بعد قرن وعاما بعد عام، ما تفعله الدول داخليا وما ترسيه من علاقات مع مواطنيها يؤثر مباشرة، أو بعد حين، على مجمل أنشطتها الخارجية وهيبتها ومكانتها بين الدول. أكتب هذا وفي ذهني تحديدا محاولة لفهم العلاقة بين الطبيعة الراهنة لعدد معتبر من أنظمة حكم غير خاضعة للقانون أو غير ملتزمة بمبادئ الديموقراطية في معظم أنحاء الشرق وأيضا في الغرب والمثال الأبرز يشرحه بكل الوضوح الممكن السلوك السياسي للرئيس ترامب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى الحال الراهنة لوضع دولي يتفاقم فيه التسيب وتكثر في أشتاته متعمقة مظاهر الفوضى.
لجأت إلى أستاذ جليل من أساتذة القانون الدولي أسأله السبيل إلى وقف التسيب ووضع حد للفوضى الضاربة أطنابها في كل القارات. تحدثنا مطولا عن حال العالم، سمعته يستخدم تعبيرا تحاشيت استخدامه في كل ما كتبت عن حال التردي التي تدنت إليها العلاقات بين الدول وبين البشر. وصف سلوكيات بعض الدول وهي كثيرة بالفجور. جاء وصفه هذا قبل أن أعرض لحال العلاقات الدولية الراهنة ضاربا المثل بعدد مختار من الأزمات. مثلا استخدم الرئيس دونالد ترامب سلاح المقاطعة الاقتصادية كما لم يستخدمه رئيس أمريكي من قبل. استخدمه في فنزويلا ليفرض إرادة الولايات المتحدة قبل أن تتوفر أي شروط تشجع على التدخل القانوني في شؤونها.
أنشب حروبا تجارية ضد حلفاء أمريكا في أوروبا ثم تراجع مؤقتا أو قليلا ليركز على حربه مع الصين. انقلب على اتفاقيات دولية عديدة وقعها أسلافه وبخاصة تلك التي وقعها الرئيس السابق باراك أوباما. لا أحد يخفي اقتناعه بأن ترامب في كثير مما فعل كان يشبع مقتا شخصيا أو مصلحة خاصة أو يرد جميلا. ومع ذلك لا يمكن إنكار حقيقة أن ترامب ركب موجة الشعوبيات القومية أو دعمها أوساهم في إطلاق عقالها ليس فقط في أوروبا ولكن أيضا في إيران والصين والهند وروسيا. هكذا تعقدت علاقات كانت في الأصل ذات حساسيات خاصة وهكذا تعمق القلق وعدم الاستقرار. هكذا أيضا يتهدد سلام العالم على حطام اتفاقات ومؤسسات وأعراف دولية.
دعونا نضيف بعض ما أوجعنا كشعوب عربية. إن ما فعله ترامب بفلسطين يتدنى إلى مستوى غير إنساني أو لعله من نوع الفجور الذي تحدث عنه صديقي رجل القانون الدولي. كان للفلسطينيين في القانون الدولي سند وأمل حتى بعد أن تقطعت بهم سبل العرب أو كادت. امتدت إليهما يد ترامب وأيادي مجموعة من مقاولين أشرار أحاطوا بالمقاول الأكبر، اشتركوا مجتمعين في قطع أي صلة رحم بين القانون الدولي وشعب فلسطين. كان للرئيس الأمريكي وجماعته الأمريكية على درب الفجور محطات بدأت بالتخلي عن حل الدولتين أعقبه قرار القدس عاصمة أبدية لاسرائيل ثم وقف تمويل وكالة غوث اللاجئين وسحب صفة التمثيل لفلسطين في واشنطن وابتزاز وتهديد النخبة الفلسطينية الحاكمة والاعتراف بالجولان هضبة إسرائيلية. أغلبها محطات كان الظن أو الأمل أنها محصنة بالقانون الدولي ضد التسيب والفلتان والمقت الشخصي ومصالح الفساد.
ترامب واجه القانون الدولي، وبفضله وبفضل تطورات أخرى يعيش العالم أياما كأيام عاشها قبل أربعمائة عام أي قبل نشوب حروب الثلاثين عاما. أملنا أن ينهض رجال ونساء القانون الدولي في انتفاضة تسعى لإنقاذه من براثن حكام مغامرين قرروا أن يعودوا بالبشرية إلى ما قبل اتفاقات ويستفاليا. أملنا أن ينهض حراس القانون الدولي والعاملون في محرابه بالأمم المتحدة وأجهزتها المنتشرة عبر العالم وبخاصة في محكمة العدل الدولية وفي كل منظمة إقليمية تدعو في ميثاقها إلى الالتزام بقواعد ومبادئ السلم الدولي والتعاون العالمي والإقليمي واحترام سيادة الدول..
أملنا أن ينهض كل هؤلاء ويرفعون الصوت العالي والمخلص احتجاجا على دول تخون العهود وتتنكر لمواثيق وقعت عليها ودول تحرمهم حقهم أداء وظائفهم على خير وجه.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق