اتصلت بها، ففي هذا الشهر الكريم متسع للتوبة وإصلاح ذات البين. ذنبي أنني تأخرت شهورا في الاتصال بها للاطمئنان وتحديث المعلومات وتطييب الخواطر. قوبل اعتذاري بما يستحق من كاتبة عرفناها سلسة الكلمات رقيقة المشاعر. مرت دقائق ليست قليلة قبل أن تعلن أن عندها ما يدفع إلى القلق. نفرت عروق يداي وزاغ بصري. ففي هذه الشهور الفائتة سعت امرأة بعد أخرى وتعبت حتى تنفرد بي لتبلغني أن المرض العضال أصابها. لم أنطق. توقعت أن يسبق الإبلاغ إعلان الثقة فيما عرف أو شاع من علامات الشجاعة وفي صفات القلب الجامد وفي سمعة المحب الصامد. قطعت من جانبها الصمت الطويل بضحكة وصلتني حزينة. لم أستجب. تسارعت أنفاسي ولعلها سمِعتُها فأسرَعَت بالإعلان عن قضيتها. قالت بصوت صرخة “صديقتك التي هي أنا فقدت القدرة على الكتابة”، وراحت تبكي.
قضيت أنا الآخر أسبوعا لم أكتب فيه كلمة. جربت كل شيء. تناولت ما امتدت إليه يدي من منبهات. عاد الكهل كتلميذ غلبه الشك في شهر الامتحان حتى خُيل إليه أنه نسي كل ما درس قراءة وحفظا وتلقينا. خرجت مرارا إلى الطرقات الخالية من زبائن الفيروس، أمشي وأفكر، ثم أعود إلى مكاني عند شرفتي خاوي الوفاض أتنقل بين عشرة مقاعد اشتريتها قبل حلول الفيروس لأستعين بها في عقد لقاءات للنقاش وصنع الأفكار.. حزنت على حالي. هل هكذا تكون نهاية الكاتب. قبل أيام كان لديه ما يقول ليكتب وما يفيض عن الكتابة يوزعه مادة للحوار. اليوم لا شيء. مجرد إحساس، إحساس من جف حلقه تماما كوصف الأطباء لحال مريض الكورونا. الغريب في الأمر أن الجفاف بدأ أعلى الرأس، ولكنه جفاف على كل حال. فعلت ما يفعل كل البشر هذه الأيام إن استعصت على فهمهم أو ذاكرتهم فكرة أو كلمة. رحت أبحث في جوجل ربما للمرة العشرين في أقل من يوم، أبحث بين أعراض مرض من مسته عدوى الفيروس علني أجد ما يفيد أن الفيروس يصيب بالجفاف ليس فقط الحلق ولكن أيضا ينبوع الكلمات في مخ الضحية. ألقيت بجوجل جانبا ولجأت إلى القناة الإخبارية الأمريكية. شاهدت أربع نشرات أخبار متتالية. كان البطل في النشرات الأربع الرئيس دونالد ترامب. أثار في الصدر مواجع. لم أسمع خبرا أو رأيا يرطب الجفاف الطاغي. عدت إلى ما يكتبه الآخرون في انجلترا والهند وما يصرح به المسئولون في المجالس الدولية والإقليمية، لم أتوقف عند فكرة براقة واحدة تشدني لأكتب.
لن أفكر. لن أبحث عن موضوع أكتب فيه أو عنه. لن أسحب من كوم المقالات الأجنبية والعربية مقالا أو تحليلا. لن أقرأ. اخترت مقعدا مريحا ومددت الساقين ليرتاحا على مقعد آخر. اخترت أن أسرح في جمال زرقة السماء وروعة ألوان الشجر والزهور. حرضني شيطان على قطف زهرات، كل زهرة منها بلون مختلف. ندمت على ما فعلت. خفت أن يمتد إليها شره الفيروس بعد أن تخلت عن مناعتها المكتسبة من التربة والشمس وعيون تحب وأصابع تحنو. زال خوفي بعد أن تذكرت أن جوجل لم يضع الزهور والنباتات على قائمة الضحايا المحتملين لفيروس الكورونا. فيروس محير أليس كذلك؟ اختار من جسم الإنسان صدره. اختار مصدر الحنان والحب في هذا المخلوق العظيم والجميل ليرقد فيه أسابيع أو شهورا ثم يفتك به. هأنذا أحزن من جديد.
على مرمى البصر، يعني على بعد مائة متر لا أكثر، رجل يمشي في شرفة شقته ذهابا وإيابا. لم يمل المشي في مسافة هي بالضبط متران ونصف المتر. تعمد فيما يبدو ألا يضع في الشرفة مقعدا يغريه بالجلوس أو يعيق خط السير. كان يمكن أن يبقى ساكنا مغمورا في هذا الحي الناشئ لو لم يعلن الفيروس الحرب علينا جميعا فيقرر أن يدير أعماله من الشرفة. نعرف، ولا ندرك، أن للهاتف الذكي إمكانات وقدرات رهيبة ليس أقلها شأنا مكبر الصوت المغروس فيه. أجزم أنني، أو غيري في موقعي أو قريبا منه نعرف معلومات عن عمل هذا الرجل ما لم تعرفه زوجته، إن كان له زوجة. تابعت مفاوضاته لعقد أكثر من صفقة لشراء سلع مستوردة، صفقة منها تجاوزت أرقامها المليون. من لهجته تأكدت جنسيته، ومن لغات تفاوض بها تأكدت كثافة علاقات الشركة الخارجية، ومن تباين الأوامر الصادرة تأكدت ضخامة العمالة في شركته، ومن تفاصيل صغيرة تأكدت مكانته في سوق السياسة والوسطاء والعمولات.
في شرفة أخرى مقعدان تشغلهما في الصباح الباكر سيدتان أعتقد أنهما تجاوزتا الثمانين. عجزت عن تفسير ما يهمسان به في هاتفيهما. تصورت أنهما بحكم ما يصيب حاسة السمع لدى الكبار فإن الصوت الصادر عنهما سيكون عاليا بعض الشيء. مضت الأسابيع والسيدتان في شرفتيهما يتكلمان بصوت خفيض وفي هاتفيهما بالهمس. تمنيت لو تحليا بصوت جارنا رجل الأعمال فاستمعنا إلى ما يمكن أن تروياه من حكايات عن ماض كان غنيا. هذا الماضي لا يزال هكذا غنيا وعميقا وخصبا لمن يعرف كيف يغوص في ذكريات الناس وخصوصياتهم. ثروة في هذه الشرفة لم أستفد من وجودها.. حتى الآن.
في شرفة ثالثة وفي ليلة باردة امرأة ورجل. دارت بينهما مناقشة بدت من على البعد حارة. تدهورت لغة النقاش وارتفع الصوت حتى وصل ناحيتي. رأيت المرأة تنهض في انفعال وفي يدها هاتفه المحمول وما هي إلا لحظة وكان الهاتف يطير في اتجاه الحديقة التي تفصل بين شرفتينا. اختفي الرجل من أمام ناظري للحظات عاد بعدها ليظهر في الحديقة يبحث عن هاتفه حتى وجده. “صرخ صرخة مدوية” انحنى في إثرها يلملم قطع الهاتف وبما جمع انطلق عائدا نحو مدخل بنايته. سمعته يهدد ويتوعد. دخل واختفي. لم أره في الشرفة مرة أخرى ولا رأيت المرأة. نوافذ الشقة مغلقة معظم الوقت وستائرها مسدلة والظلام من ورائها بالليل دامس. لا حس ولا خبر. صبرت يومين وفي اليوم الثالث سألت الحارس. قال: “أرى الرجل كعادته يخرج ويعود بانتظام. أما المرأة فغريب سؤالك يا سيدي أرجو أن تثق يا سيدي في صدق شهادتي ثقة تامة.. هذه الشقة لم تدخلها أو تخرج منها امرأة منذ توفيت المرحومة، أي منذ عامين”.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق