أعتبر نفسي واحدًا من ركاب الطائرات المحظوظين، إذ لم يحدث إلا في مرات نادرة أن كان من نصيبي جار جعل رحلة الساعات تجربة جحيم حسب وصف أصدقاء تعذبوا مثل عذابي. كثيرًا ما اعتقدت أن رحلة الطائرة فرصة مثالية ليتعارف الناس أو للانفراد بكتاب أو أفكار. حدث هذا قبل أن يخترعوا لكل مقعد شاشة تعرض أشرطة من كل نوع ولترضي أذواق هواة المشاهدة وكذلك هواة الموسيقى والغناء. أحيانا أحاول أن أتصور كيف كنا نتحمل رحلة سفر تدوم لأكثر من تسع ساعات متصلة تنقلنا من مطار في مدينة خليجية أو من بيروت إلى مطار بكين في جمهورية الصين الشعبية، نتسلى بالنوم والقراءة ونتفادى إزعاج جيران المقاعد المجاورة. تمر علينا ساعات لا ننطق فيها بحرف إلا إذا كان من حسن حظنا وجود راكب في المقعد المجاور مستعد لتخفيف أعباء الرحلة بحديث متقطع في موضوعات متنوعة. انتهى هذا العصر أو كاد.
اصطحبتني المضيفة الاسترالية من باب الطائرة حتى مقعدي ولم تتحرك إلا بعد أن خلعت الجاكتة وتسلمتها. استأذنت لتطمئن إلى أن كعب بطاقة الركوب قد انسل في جيبها العلوي. عادت بعد ثوان ليتأكد اطمئنانها إلى أنني مرتاح في المقعد. سألتني عن حاجتي لشراب بارد والصحف التي أفضلها ثم استأذنت لتعود إلى مكانها على باب الطائرة تستقبل ركابا جدد وتوجه مضيفات أخريات لاصطحابهم إلى مقاعدهم. ثوان مرت وجاء الشراب البارد وصحفي المفضلة تحملها مضيفة صينية، عرفت فيما بعد أنها من تايوان. انشغلت في الدقائق التالية في ترتيب أوراق معدة للقراءة وبينها الصحف الأجنبية، وعلى غير العادة لم أنتبه إلى الركاب الجدد الذين وفدوا إلى المقصورة واحتلوا مقاعدهم فيها. كانت عادتي ألا أبدأ في قراءة الصحف إلا وقد اكتمل وصول الركاب لأختبر في التعرف على هوياتهم ذاكرتي وخبرتي.
بعد الإقلاع بساعة أو أقل قليلا من الساعة توقفت عما بدأت به وهو قراءة الصحف. مر بالممر مضيف ببشرة سمراء وعلى وجهه ابتسامة ضيافة تصلح لكل راكب على حدة. استجبت لابتسامته وطلبت فنجان إسبريسو يكون، إن أمكن، قويًا. وفي انتظار القهوة نهضت واقفا ثم خطوت خطوة إلى الممر ومشيت في المقصورة حتى نهايتها، عدت بعدها إلى مقعدي. كان المشوار كافيا لتعويض ما فاتني من إشباع رغبة التعرف على هيئة رفاق الرحلة ونوع اهتماماتهم. الغريب، وهو الذي لم يحدث لي في أي رحلة من قبل، أنني لم أكن قد رأيت بعد رفيقين هما الأقرب، ساكن المقعد الذي يفصله عن مقعدي ممر الطائرة، وساكن المقعد الملاصق لمقعدي من جهة اليسار. كنت دائمًا أحرص على أن تكون أولى مهامي إعداد “بروفايل” لكل راكب يحتل مقعدا ملتصقا بمقعدي أو يطل عليه من قريب. أديت مهاما أخرى ونسيت أولى المهام.
بالمقصورة حوالي خمسين مقعدًا، أربعون من ركابها منغمسون في مشاهدة الشاشة المغروسة في ظهر المقعد الأمامي. خمسة أو ستة ركاب غارقون في النوم. أربعة أو خمسة ركاب مصريون في العشرينات من أعمارهم وراكب ألماني الجنسية ويتكلم العربية بلكنة أردنية هؤلاء لم يرفعوا عيونهم عن مستندات وأوراق عمل يدققون فيها. لم أجد راكبًا واحدًا أو راكبة واحدة تقرأ في كتاب. رحت بالذاكرة بعيدًا إلى الثمانينات وبالتحديد إلى رحلاتي الشهرية من تونس إلى القاهرة وبالعكس على طائرة شركة الخليج أو الطائرة التونسية أو الطائرة المصرية. وقتها كان مألوفا أن أعود من رحلتي الذهاب والإياب وفي جعبتي قائمة بمعارف جدد من قارئات وقراء الكتب. بل أستطيع أن أشهد بأن بعض أقوى علاقاتي التي استمرت سنوات نشأت بسبب كتاب في طائرة الرحلة التونسية.
بعد رفع صينية الغذاء قررت، ولأول مرة، تقليد الأغلبية التي تشاهد الشاشة. اخترت فيلما أمريكيا يحكي عن مغامرة عنيفة ضد خطة تنفذها الاستخبارات الأمريكية في دولة أوروبية. اخترته حتى لا أضطر لوضع مكبرات الصوت فسيناريو هذا النوع من الأفلام متكرر وأستطيع تخمين تفاصيل الحوار. حاولت الاندماج مع الرواية فلم أتمكن. ظلت عيناى تزوغان من شاشتي لتستقر لحظات على شاشة جاري الألماني ومعروض عليها رائعة صوت الموسيقى. لا يعلم الكثيرون ومنهم ابنتي الأصغر وابنتها أنني حفظت كلمات أغاني الفيلم وألحانه واحتفظت بهذ السر لأكثر من ثلاثين عامًا. لم أرتح فيما يبدو إلى مشاهدة صوت الموسيقى بدون صوت فراحت عيناي تسترق النظر في شاشات أخرى ومنها شاشة جارتي الجالسة عبر الممر. كانت الجارة تشاهد فيلما عاطفيا، فهمت أو لعلي تذكرت جوهر حكايته التي تدور حول قضية “الانحراف في الحب”، بمعنى حاجة الحب مثل أي شيء آخر في هذا الوجود إلى التغيير الوقتي من أجل البقاء. تزعم كل امرأة تحاورت معها أن القضية مفتعلة، القضية في نظرها افتعلها الذكور ولم “تخل” على الإناث. حجتها بسيطة فالحب لا يتحمل التحول عنه ولو مؤقتا. الحب لا يتسع لعواطف عابرة والحب لا يتحول أو ينحرف إنما ينحرف به إنسان لا يحب. دفعني الفضول لأرى وجه هذه الراكبة المنشغلة بهذا الفيلم والساكنة طول الوقت والخافتة الصوت إن تكلمت مع مضيف أو مضيفة. خاب مصممو الطائرات الحديثة حين وضعوا بين كل مقعد والآخر حائل رؤية.. نهضت من مقعدي متوجها إلى الحمام على أمل أن المح في طريق العودة شكلها وأتعرف على عمرها. لمحتها تنظر في شاشتي ورأيت جارها على الناحية الأخرى ينظر في شاشتها. أدرت البصر يمينا ويسارا فرأيت أن قلة فقط هي التي تركز على شاشاتها. أغلبية الركاب مشدودة إلى الشاشات الأخرى ولو من غير صوت. صحيح ما قيل لنا ونحن صغار عن الأشياء في يد الآخر “عجبة”، دائما أحلى ومرغوبة أكثر.
لم أتوفق في محاولة رؤية وجه جارتي على الممر. توقفت عن السعي وعدت إلى مشاغلي وبين الحين والآخر استرق نظرة إلى صوت الموسيقى ثم أخرى إلى الانحراف في الحب. لا يعذبني ضميري فلا شك عندي في أن جيران صفي في الطائرة يختلسون لحظات ليشاهدوا مناظر عنف ومغامرات على شاشتي. مرت ساعة أخرى أو أكثر تناول خلالها الركاب وجبة الغذاء والشراب وبعدها أطفأوا الأضواء باستثناء القليل الخافت المنبعث من لمبات القراءة. فجأة عادت الأضواء وانقطع الإرسال وخرج علينا صوت قائد الطائرة معلنا اقترابنا من حالة انخفاض في الضغط ومحذرا لاحتمال وقوعنا في شبكة مطبات جوية. وما هي إلا دقائق معدودة ويتحقق الإنذار فتهتز الطائرة كالريشة وكالعادة ونتيجة تجاربي العديدة مع حوادث الطيران أتوقع الأسوأ وأقبض بشدة على ذراع المقعد وفي أحيان كنت أمسك بيد الجالس بجانبي. تعددت المطبات وراحت الطائرة تهوى وتصعد بغير نظام وتهتز بعنف أشد. اهتزت مرة بقوة إلى حد أن طار هاتفي المحمول ليقع في الممر بين المقعدين. لم تسعفني ذراعي فلم تصل يدي. نزعت حزام المقعد وارتبكت أوضاعي وطارت بعض أوراقي. مددت ذراعي مرة أخرى فوصلت يدي إلى أقصى ما أمكنها لتلتقي بشيء آخر. هناك على مقربة من أرض الممر بين المقعدين لمست بعض أصابع يدي أصابع يد ساكنة المقعد على الجانب الآخر من الممر ممسكة بهاتفي لتسلمه لليد الممتدة من ناحيتي. سلمت الجارة الهاتف وأمسكت باليد التي استلمته لتطمئن فيما يبدو لأنه صار في يد واثقة ومستقرة، ثم سحبت ذراعها بعد أن اطمأنت إلى أنها أمسكت بالهاتف قبل أن يدوس عليه عابر ممر، وقبل أن أتحول وأشيائي الكثيرة إلى حالة أشد ارتباكا.
خرجت من فمي حروف تعبر في مجموعها عن الشكر رغم كوني غير واثق تماما من اللغة التي تتحدث بها الراكبة التي أنقذت محمولي. هبطت الطائرة بسلام على أرض مطار الوصول. انشغلت بجمع أوراقي وأشيائي المبعثرة. انتهيت من لم الشمل لاكتشف أن معظم ركاب هذا القسم من الطائرة غادروا. استدرت وفي نيتي أن أكرر الشكر لجارتي. كان المقعد خاليا بدون أثر يدل حتى على أن راكبا شغله خلال الرحلة.
رحلت الجارة ولم تترك أثرا ولم أرى لها وجها أو أسمع لها صوتا. فقط تلامست الأنامل وأظنها لدرء الخوف تحاضنت لمدة ثانية واحدة أو أقل.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق