علينا، نحن العرب خارج مصر، الاعتراف بحقيقة أننا نتلقى، هذه الأيام، من شعب مصر وقواه السياسية عموماً، ومن هذا التمسك المبدئي بالاحتكام إلى الدستور واحترام أحكامه، سواء أكانت ضد فريق سياسي أو ضد قرار متسرع لرئيس الدولة، دروساً في خطورة دور الدولة، التي نفتقر إلى وجودها بمؤسساتها الشرعية الفاعلة، والأهم: إلى موقع الدستور في بناء الدولة.
ونعترف نحن العرب خارج مصر، أننا قد نسينا أهمية الدستور وقدسيته ووجوب الالتزام بمبادئه ونصوصه لكثرة ما خرج عليه حكام الانقلابات او المصادفات، سواء بالتحايل على نصوصه أو بتعديله إذا ما استوجبت مصالحهم مثل هذا التعديل لإضفاء الشرعية على كل وأي خروج على الشرعية، تارة بذريعة «التفرغ لمواجهة العدو» وطوراً بحجة ان «أوضاع البلاد من الدقة والحراجة بحيث تستوجب إعلان حالة الطوارئ» وبالتالي تعليق العمل بالدستور.
على هذا فلقد عاش العرب، خارج مصر، الأيام القليلة الماضية، مسمرين أمام شاشات القنوات التلفزيونية المختلفة، الحكومية منها والخاصة، يستمعون إلى نقاش راق حول خطورة الخروج على الدستور ومحاولة التملص من أحكامه، خصوصاً أنها في حالة مصر، تتصل بموقع رئاسة الدولة، وبسائر المؤسسات التشريعية المنتخبة والتي كان للمحكمة الدستورية العليا قراراتها الجريئة بإسقاط «الشرعية» عنها، لا سيما قرار الرئيس محمد مرسي بدعوة مجلس الشعب، الذي طعنت المحكمة بنيابة ثلث أعضائه وبالتالي جعلته في حكم المنحل أو المعطل، في انتظار استكمال عديده.
وبقدر ما أثار الخبراء في القانون الدستوري من الإعجاب في شجاعة تصديهم للخطأ او للتجاوز على الدستور، حتى لو اتصل الأمر بقرار صادر عن رئيس الجمهورية، فإن العرب في مختلف ديارهم قد شهدوا لقضاة المحكمة الدستورية العليا دفاعهم القانوني عن موقفهم وقراراتهم التي من شأنها ان تبدل وتغير في ما كان يخطط لإخضاع مصر- مرة أخرى – الى حكم متفرد، لا يتورع عن الخروج على الدستور من اجل إكمال سيطرته على مصر، مفترضاً انه إن لم يفعلها الآن فلسوف تضيع منه الفرصة إلى الأبد.
لقد أكد القضاء المصري جدارته بأن يصدر أحكامه بالشجاعة المطلوبة، وإن هي تعارضت مع رغبة «الرئيس» ومع تطلعات «الحزب الحاكم» لأن يفرض سيطرته المطلقة على الدولة المصرية… وهذا نصر جديد ومؤزر لشعب مصر المتحضر، والمؤمن بالقانون أساساً للدولة الديموقراطية والعادلة.
ولكن… لماذا هذا التعجل بفتح سلسلة من الحروب، مع حلفاء المعركة الرئاسية، الذين طالما مثلوا وما زالوا يمثلون قوة وازنة في «الميدان»، والذين باركوا للدكتور مرسي فوزه وتقبلوا مبدأ المشاركة مع «الإخوان» في سلطة العهد الجديد، تقديراً منهم لخطورة المرحلة الحرجة التي تعيشها مصر، والضغوط الهائلة التي تتعرض لها من أطراف عديدة، عربية وغربية – اميركية تحديداً، ومن ضمنها إسرائيل- لمنعها من استكمال الثورة الشعبية العظيمة القادرة والمؤهلة لإعادة بناء مصر التي تركها الطغيان دولة هزيلة، بلا دور، مدمرة الاقتصاد، ومضرب المثل في الفساد وخراب ذمة السلطان!
ومن حق المواطن العربي خارج مصر، الذي رأى في الثورة وميدانها الذي احتشدت فيه قوى التغيير، أملاً بغدٍ جديد للأمة كلها، أن يرفع الصوت بالاعتراض على كل ما من شأنه تهديد ذلك الأمل، وتحويل الثورة الشعبية الأكثر قرباً من المثال المرتجى إلى صراع على السلطة، فكيف وقد أطلت نذر التسلط والتفرد ولو عبر التصادم مع الحلفاء الذين لولاهم لما كان الفوز، ولربما اقتيد الدكتور محمد مرسي نفسه إلى المعتقل الذي احتجز فيه قبل سنة وبعض السنة مع غيره من قيادات المعارضة التي حققت له ـ ولها ـ الفوز التاريخي.
من حق هذا المواطن العربي أن يسمع من الدكتور محمد مرسي ما يطمئنه وهو يتسلم رئاسة مصر، الدولة العربية الكبرى وذات الحق الشرعي بالقيادة، عربياً، خصوصاً انه قد رحب به رئيساً متجاوزاً موقفه العقائدي من فكر «الإخوان المسلمين» ومنهجهم في العمل السياسي الذي طالما اتسم بقدر من الغموض، واتسمت تحالفاته بكثير من الانتهازية، كما ظلت علاقاته الخارجية، لا سيما مع الإدارة الاميركية، موضع الريبة، وهي ريبة يزيد منها تجنبه تحديد أي موقف من إسرائيل (التي ما تزال في موقع العدو القومي) بالنسبة للأكثرية الساحقة من العرب، الذين دفعوا وما زالوا يدفعون من دمائهم، في فلسطين اساساً، كما في لبنان، ثمناً باهظاً لاحتلالها واعتداءاتها.
وبغير تقصد المزايدة على الأشقاء في مصر فمن البديهي أن إسرائيل التي «اجتاحت» مصر، سياسياً واقتصادياً طيلة أربعين عاماً أو يزيد، ستحاول ـ أقله – الحفاظ على «مكاسبها» التي جنتها، بإرهاب «العهد الجديد» مباشرة أو عبر الضغوط الاميركية، التي يمكن إدراج عرب النفط ضمنها، لعدم التعديل أو التغيير في اتفاقات الإذعان التي سبق ان انتزعتها من حكم الطغيان، وبالتالي الامتناع عن الخروج من السياسية العبثية تجاه شعب فلسطين التي تتلطى خلف تأييد «السلطة».. وهو تأييد «غالباً ما تحول إلى ضغوط على هذه «السلطة» لكي تقبل ما كان لا بد من رفضه، أو لكي لا تتطرف في مواقفها حتى لا تحرج الحاكم في القاهرة.
فواقع الأمر أن «الإخوان المسلمين»، ومعهم السلفيون، لم يسمحوا للناس، داخل مصر وخارجها، بفرصة لالتقاط الأنفاس ومحاولة تقبلهم في صورتهم الجديدة: فوق قمة السلطة في اعرق دولة عربية، وقد رفعهم إليها «الميدان» بالملايين من الشعب المصري الآتين من انتماءات وتوجهات فكرية وسياسية متعددة، وليس بقوة تنظيمهم الحديدي وإمكاناته المادية غير المحدودة فحسب.
إنهم يتبدون في عجلة من أمرهم، ويتصرفون بمنطق: هبت رياحك فاغتنمها… والآن الآن وإلا ضاعت الفرصة التي قد لا تتكرر أبداً!
لقد اندفعوا متعجلين بأكثر مما تسمح لهم الظروف الدقيقة، بل الحرجة التي تعيشها مصر، وبما يفوق قدراتهم الذاتية على مواجهة «حلفاء» اللحظة الانتخابية التي حكمها منطق ضرورة التخلص من حكم الطغيان ومن عودته متلصصاً تحت شعارات الديموقراطية والإصلاح والقضاء على الفساد.
… ولأنهم لم يتقبلوا منطق المشاركة مع القوى السياسية الأخرى التي لم تكن يوماً في موقع الحليف، بل لعلها كانت اقرب إلى موقع الخصوم والذين اضطروا إلى التلاقي معها في لحظة سياسية حاسمة، فقد حاولوا ـ متسرعين – وضع الجميع أمام الأمر الواقع، وإجبارهم على التسليم بسلطتهم وإلا اتهموهم بخيانة العهد والتمرد والمروق والتنكر لأبسط مبادئ الديموقراطية.
لماذا اندفع الرئيس الإخواني إلى هذه المغامرة الخطرة، وهو الذي حاول في كلماته الأولى أن يُطمئن الجميع، ولا سيما الشركاء في «الميدان» والذين أعطوه من أصواتهم حوالي الثلثين من مجموع الأصوات التي جعلته رئيساً، والتي كان يكفي أن يمتنع عشرها عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع لتنتقل الرئاسة الى منافسه الشرس؟
لماذا قرر الرئيس محمد مرسي، الذي أقسم اليمين أمام المحكمة الدستورية العليا، مرتضياً – بالبهجة – حكمها بأنه الفائز بالمنصب الفخم، أن يباشر معاركه مع هذه المحكمة بالذات، التي أكد قضاتها المميزون عراقة القضاء وحيدته وترفعه عن الخضوع للسلطة التنفيذية، كما عن تهديدات «المتضررين»، مقدمين صورة مشرقة عن مصر- الدولة الأولى في هذه المنطقة، التي صاغ رجال القانون الكبار من أبنائها معظم الدساتير العربية، بغض النظر عما تنفذه السلطات منها أو تتجاهله بالقفز من فوقه لممارسة التسلط؟
ومن دون الحاجة إلى المقارنة مع الأوضاع الشاذة في العديد من الدول العربية، التي لا يحكمها دستور أو قانون، وتتوارثها عائلات حاكمة تحتكر السلطة والثروة والسلاح، وتطلق جلاوزتها ضد من يحاول الأخذ بأبسط أسباب التقدم الاجتماعي، فضلاً عمن قد يحلم بمبدأ تداول السلطة، فإن شعب مصر قد أكد ـ مرة جديدة – إيمانه بالدولة، خصوصاً أن مؤسسة القضاء ظلت منيعة على الإفساد، وحمت له حقوقه الديموقراطية حتى في مواجهة الرئيس المنتخب.
لقد رأى العرب، خارج مصر، ان المحكمة الدستورية العليا قد حمت بأحكامها، التي لا تقبل الاعتراض، ثورة «الميدان» ومطالبه وأولها: إنهاء عصر الطغيان وإقامة دولة لكل مواطنيها يحكمها الدستور ويرعى حقوق مواطنيها القانون، بديلاً من التجاوز على الدستور والقانون الذي مكن لحكم الطغيان وتسبب في خراب «المحروسة» سياسياً واقتصادياً واجتماعياً.
ولأن العرب خارج مصر ينظرون إليها بوصفها «الدولة»، في حين ان كياناتهم نتيجة مساومات بين قوى الاستعمار الخارجي وحفنة من المتطلعين إلى السلطة في الداخل، فهم يرون في ثورتها الآن قيادة التغيير بالديموقراطية من اجل الغد الأفضل في كل الأرض العربية.
بالمقابل، فقد استهجن العرب خارج مصر، هذا التعجل الذي يظهره تنظيم «الإخوان المسلمين» للإطباق على السلطة، بمختلف مؤسساتها، حتى لو قاد إلى الخروج على الدستور وأحكامه، والى التصادم مع مختلف القوى السياسية التي حالفته فنصرته، وكان الحديث متواصلاً عن قرب التفاهم على إقامة حكومة وحدة وطنية يشارك فيها جميع الحلفاء، بما يدفع عن «الإخوان» تهمة السعي إلى التفرد في الحكم وممارسة الدكتاتورية وإنما بالشعار الديني هذه المرة.
ربما لهذا استعاد العرب، خارج مصر، سيرة «الإخوان المسلمين» وصراعهم من اجل السلطة، قبل الدكتور محمد مرسي، الذي جاء قراره حول المجلس الدستوري يعيد إلى الذاكرة بعض أسوأ محطاتها.
وسيظل العرب، خارج مصر، يتطلعون إلى مصر وميدانها وقضاتها الذين نصروا الثورة بالدستور، واثقين من أن الحكمة لا بد ستنتصر في النهاية.
وفي تقدير العرب خارج مصر أن «الإخوان» الذين تعجلوا هذه المعركة من اجل التفرد بالسلطة، سيدفعون ثمناً سياسياً غالياً، في مصر وخارجها.
وعسى أن يتنبه الإخوان إلى هذا الخطأ الفادح قبل فوات الأوان حتى لا يتسببوا في ضياع الثورة وإنجازاتها العظيمة، ومن بينها وصولهم الى سدة الرئاسة في «المحروسة» التي يصعب عليها أن تقبل العودة إلى الخلف بينما ميدانها قد وعدها باقتحام المستحيل… وصولاً إلى الغد الأفضل.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية