مرة أخرى، تعود إلى ساحة العمل السياسي حركات دينية أو شبه دينية، سلفية أو إخوانية، مصفحة بالشعار الإسلامي، لتواجه القوى والأحزاب ذات الشعارات القومية، أي التي تعلي راية العروبة أساساً والوطنية عموماً.
عشرات التنظيمات السياسية والعسكرية، المسلحة غالباً، إخوانية وسلفية، تخوض غمار حرب ضروس للاستيلاء على السلطة بأي وسيلة متاحة: شبك تحالفات سياسية عارضة مع قوى مهمشة أو ضعيفة أصلا لكنها تفيد في التمويه، نفاق العسكر، مداهنة أهل السلطة القائمة وتطمينها إلى أنها ستكون سنداً لها في مواجهة «المنافقين» والخصوم العقائديين، خصوصاً من أهل اليسار المتهمين بنقص الوطنية والتبعية «للخارج الشيوعي» برغم انتهاء عصر الشيوعية واندثار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.
وبين تراجع التنظيمات ذات الشعار القومي والتقدمي و«اجتياح» المنظمات حاملة الشعار الإسلامي المشهد السياسي، يعيش الوطن العربي بمختلف أقطاره في المشرق والمغرب فوضى شاملة فكرياً وسياسياً، تتناول الدين ومفاهيمه الموروثة ومحاولات التجديد فيها أو تحريفها بما يخدم الصراع في هذه اللحظة.
لقد سقطت أو أسقطت الرايات التي رفعتها الأحزاب العقائدية ذات يوم، فوق سرايات الحكم، وتكشف الفقر في صياغاتها الفكرية وطغيان الحماسة على الوقائع الصلبة في تكوين المجتمعات، والتي تتطلب وعياً تاريخياً وقدراً عالياً من الثقافة السياسية.
في المقابل، ازدهرت بعض المفاهيم، بل المدارس الدينية، وأعيد الاعتبار إلى شعارات وتنظيمات دينية وطائفية، وسرت موجة من «التبشير» الجديد بين المسلمين، بأنماط من التفكير من موروثات عصور التخلف الفكري والجهالة السياسية.
بل إننا نشهد وقوعات قد تلتبس مع ما يحتويه التاريخ الذي كتبه غيرنا من فصول الصراع بين العباسيين والفاطميين والمماليك، في ظل الحملات الصليبية التي تمكنت من اختراق مجتمعات هشة و«أنظمة حكم» مقتتلة على السلطة، خصوصاً وقد سادت مذاهب وتشققات وبدع غيبت الهوية العربية للخلافة وانتقال مركز السلطة إلى جيوشها التي غلبت على تكويناتها ومواقعها القيادية، هويات غير عربية.
لقد عاد الماضي يحكم الحاضر، إلى حد كبير، ويكاد يتحكم بالمستقبل، في ظل انقسام سياسي حاد وصراعات بين الأنظمة التي عادت تطلب – علناً – قدراً من الحماية والتسليم بوجودها بشروط قوى الخارج الأجنبي (وغير المسلم بطبيعة الحال).
وبعيداً عن الأنظمة التي لطالما وُصفت بالرجعية واتهمت في وطنيتها، فإن بعض السلطات الجديدة التي استولدتها الانتفاضات الشعبية عبر فوضى «الميدان» وغياب التنظيم القائد أو تحالف التنظيمات التي لها حق القيادة على قاعدة برنامجها السياسي الواضح والمحدد، تعاني اضطراباً فكرياً وسياسياً وتفتقر إلى دليل عمل، فضلاً عن «المرجعية» صاحبة الحق في القرار.
ولعل هذا الواقع الميداني هو الذي شجع الأنظمة الموصوفة بالرجعية، والتي يغطي الذهب قصورها الفكري وتشددها بتطبيقات تكفيرية متعنتة، على التقدم نحو السلطات المؤقتة التي استولدها «الميدان» عارضة عليها المساعدات المذهبة تمهيداً لاحتواء اندفاعتها الثورية وتدجين تطلعها إلى التغيير الجذري الذي بشرت به «الميادين» وهو ذاته الذي دفع بالملايين إلى الشارع طلباً لإسقاط الطغيان والمباشرة ببناء نظام يلبي مطالب الشعب ويحقق طموحاته.
ما العمل والمطالب الشعبية ثقيلة وشاملة لمختلف وجوه الحياة، ومؤسسات الدولة شبه المفلسة منهارة، والاحتياجات ضاغطة، و«الدول»، وبالذات منها الولايات المتحدة الاميركية، متربصة باحتمالات التغيير وساعية إلى احتواء الطوفان الجماهيري بالنصائح والإيحاءات الواضحة: لن تستطيعوا الإنجاز من دون مال، والمال عندي وعند الأنظمة التي أملك قرارها، وبالتالي فلا بد من قدرٍ من الاعتدال، ولا بد من التخلص من بعض شعارات الشباب الثائر الذي لا يتقن فن الحساب، ويفترض أن الثورة بقرة حلوب ما إن تقوم حتى يتوفر الطعام وتنهض مشاريع البناء في الأنحاء جميعاً وتشاد المصانع ويدخلها العمال أفواجاً، وتقوم الجامعات من رقادها ويرتفع مستوى التعليم فلا يعود المواطن مضطراً إلى تأمين الدروس الخصوصية لأبنائه.
لقد اختلفت المعايير باختلاف الزمان: لا وجود للاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. وقد ذهب عصر النخوة والشهامة اعتماداً على روابط الإخوة بين العرب. الثورة بحاجة إلى الذهب لكن الذهب يقتل الثورة. فالمطلوب حماية الثورة من أصحاب الثروة، وهم ـ في المدى المنظور ـ من يقدر على تأمينها، علماً بأن هذا التأمين ـ إذا ما تم بالفعل ـ فإنه سوف يقضي على الثورة.
وما ينطبق على أصحاب الثروة ينطبق بالضرورة على المؤسسات الدولية: البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. فهذه ليست جمعيات خيرية، ولا من ذوي القربى الذين قد تحركهم الشهامة ورابطة الرحم وعاطفة الإخوة.
كيف يمكن بناء دولة بأموال أعداء الثورة؟
وكيف يمكن أن نطمئن أصحاب الثروة بأن الثورة لن تتعرض لهم ولأحوالهم بسوء؟! هل يمكن حصر الثورة ضمن حدود الكيان؟ ومن يستطيع بناء الأسوار التي تضمن لأصحاب الثروة بأن الثورة لن تقترب من حدودهم وبالتالي من ثرواتهم وامتيازاتهم الهائلة؟ كيف يمكن أن يتحول الفقير، إلا بثورته، إلى ضمانة للغني بثروته، والثورة ما قامت إلا لاستخلاص حقوق الفقراء من دولتهم التي كان أهل الطغيان، بالتعاون مع السماسرة في الداخل ومعهم أهل الثروة في الخارج، قد نهبوها فوزعوها مُنحاً وهبات وعطايا على بعض المحيطين من رعاياهم وعلى العديد من متمولي الأقطار النفطية لقاء عمولات مجزية؟!
لا بد من «وسيط نزيه» يوفر الضمانات المطلوبة للطرفين. ولا يصلح لمثل هذه المهمة الإنقاذية إلا «الاميركي» الذي يأخذ وهو يدّعي انه جاء ليعطي، والذي له مطالب سياسية لا يمكن تمويهها على «الميدان».
هي معضلة معقدة: تشتري المال بالثورة.. أو تبيع الثورة لأصحاب الثروة. ولكن من هو «صاحب الثورة»؟ وهل الثورة عقار أو مساحات من الأرض عليها أكوام من البشر إذا دفعت مالاً ملكت الأرض ومن عليها؟!
إن المال يُستخدم الآن كدواء يشفي من الثورات باستنزافها على مهل. فصاحب الثروة يستطيع أن ينتظر ما دام بلا منافس أو مضارب يزايد عليه في سعر الشراء. أما أهل الثورة فيتعجلون الإنجاز، والإنجاز صعب ولسوف يحتاج زمناً، وليس ثمة من يبيع الزمن!
من قال إن الميدان قد أغلق؟!
الحقيقة الجارحة أن «الميدان» يحتاج إلى الزمن من اجل الإنجاز الذي يتعجل الناس تحقيقه. والزمن من ذهب، والذهب عند أعداء الميدان، بالمصلحة كما بالفكر.
يبقى الأمل أن يكمل الميدان دورته، فلا يظل محصوراً في بلاد الفقراء، ويفرض على أهل الثروة أن يشتروا منه أمانهم بالذهب. لكن الحسبة هذه معقدة، والتفاوض فيها صعب، لأن الرهان على المقادير. وأهل الذهب يفترضون أنهم قادرون على شراء المقادير، أو اقله، تعديل مساراتها، وبالتالي ما كان يحلم به أهل الميدان، وهم الذين ما زالوا حاضرين لحماية هذا الحلم.
والكفاح دوار.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية