ليس أبرع من أهل النظام العربي في تحميل رعاياهم نتائج سياساتهم الخاطئة التي تجاوزت بمخاطرها إضعاف الدول التي يحكمون واستنزاف مواردها الى تهديد مستقبل هذه الكيانات السياسية، بل الى تفكيك أواصر الوحدة بين أبنائها.
وها هم أهل النظام العربي، في المشرق كما في المغرب، يتبارون الآن في تحذير رعاياهم من مخاطر الفتن الطائفية والمذهبية التي تتهددهم في حاضر وحداتهم السياسية الهشة كما في أمن مجتمعاتهم التي يضربها التفكك والتشرذم وتسحبها الأحقاد في اتجاه الحروب الأهلية.
من أقصى المغرب الى أدنى المشرق لا يسمع هؤلاء الرعايا الغارقين في الهموم الثقيلة لحياتهم غير التنبيه والتحذير بل التهديد بأن القادة وأولياء الأمر من الجنرالات الذين نالوا رتبهم العالية خارج الحروب مع العدو وحراس الليل والقيمين على مواعيد الشمس إشراقاً وغياباً، والخبراء في استكشاف النوايا والعباقرة في كشف المخبوء من الخطط والترتيبات الانقلابية… كل أولئك في غاية اليقظة بحيث لا يخطر خاطر في بال «مدبري الفتن»، ولا تجول فكرة شريرة في رأس مجرم فظ إلا وتكشفها «الأجهزة الأمنية» المتيقظة على مدار الساعة.
…حتى اذا فجر «الارهاب» مسجداً أو حسينية أو كنيسة هب أهل النظام ليتهموا «الأصوليات» التي تحترف القتل الجماعي مفترضين انها تستهدفهم هم، وهكذا يحولون الضحايا الى رصيد جديد للحكم الذي تسبب في قتلهم.
يصح القول الآن «كلنا في الهم شرق».
الى ما قبل أربعة عقود كان لبنان وحده هو المعتل.. ونتيجة اعتلاله والتخوف من انتشار علته القاتلة، أي الطائفية وما يشتق منها من أمراض، تبرع العديد من أهل النظام العربي بمهمة علاجه: بالنصائح والمواعظ بداية، ثم بالانخراط المباشر في الصراع الذي سرعان ما اكتسب أبعادا دولية، من ضمنها الإقليمية طبعاً… وهكذا انهمر السلاح ثقيلاً وخفيفاً على الشواطئ والمطار وعبر المنافذ البرية.
فلبنان السبعينيات كان قد تحول الى المقر المؤقت للكفاح المسلح الفلسطيني الذي انتبه حملته الى ضعف دولة المضيف فانزلقوا نحو أن يكونوا السلطة فيه… لكن ذلك حديث آخر وان كانت دلالته الأخطر: ان الثورة والطائفية لا تلتقيان، فإذا ما تواجهتا حققت الطائفية نصراً ساحقاً على الثورة فدمرتها.
في غمضة عين تحول الوطن الصغير والجميل، لبنان، الى محرقة هائلة للمبادئ والأفكار ولأحزاب التغيير نحو الأفضل. تهاوى النموذج الفذ بتركيبة الرعايا فيه حيث تختلط الأديان وتتمازج الطوائف وتتزاوج المذاهب، فضلاً عن تداخل الأعراق والعناصر.
كان في تقدير أهل النظام العربي أنهم – ببراعاتهم الشخصية وبمكانتهم الرفيعة لدى أصحاب القرار الكوني، أي الاميركيين ومعهم دائماً الإسرائيليون – يستطيعون حصر الحريق في لبنان. لكن هذا التقدير سقط، اذ ان الشرر الذي تطاير من لبنان قد وصل الى الأنحاء جميعاً، خصوصاً أن الفلسطينيين كانوا ضحيته الخطيرة الثانية، بعد اللبنانيين، وان مشروعاً للصلح المنفرد كان قيد الإعداد، تخرج بموجبه مصر من الصراع العربي – الإسرائيلي، فيختل التوازن بأشكاله كافة: العسكري والاقتصادي والاجتماعي والنفسي، وهو الأخطر.
ولم تكن مصادفة أن يقول الرئيس المصري الراحل أنور السادات في تصريح شهير الى مجلة «الحوادث» في العام 1978، وبعدما افترض الجميع ان الحرب الأهلية في لبنان قد توقفت تماماً، كان بين ما جاء فيه: لا شيء انتهى في لبنان، ولسوف تجري فيه، بعد، أنهار من الدماء.
.. وكانت معاهدة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي في العام 1979 وتجددت الحرب في لبنان لسنوات طويلة تخللها الاجتياح الإسرائيلي في العام 1982 الذي اقتحم العاصمة بيروت وأخرج المقاومة الفلسطينية لتصير لاجئة سياسية في تونس.
الفتنة ليست هواية… إنها خطة مدروسة لها أهدافها المحددة، ولها من يرعى التنفيذ حتى إنجاز المهمات المطلوبة!
بعد الحرب الأهلية في لبنان جرى على ألسنة العديد من المسؤولين العرب، والأجانب، تعبير «اللبننة» وليست مبالغة الافتراض ان الوجه الأخر لهذا التعبير هو «الاسرلة»، فكل فتنة في الأرض العربية تصب في خدمة إسرائيل.
… ها هي «اللبننة»، سرطان يضرب في مشارق الارض العربية ومغاربها.
تعذرت محاصرة «الفتنة» في بلد واحد، وجعلها عجز الأنظمة عن حماية مجتمعاتها بالإنجاز في مختلف المجالات، تتوسع وتنشر نارها في هشيم الكيانات المستنبتة لإغراض لا تخص أهلها.
وها هي الفتنة تضرب في مصر، مفيدة من انشغال السلطة بشؤونها، مستعدية عليها مختلف التيارات «المعتدلة» التي كانت قد جربت احتواءها، فنجحت الى حد كبير في الانتخابات الماضية التي حملت الى مجلس الشعوب ممثلين للإخوان المسلمين والناصريين وبعض الرموز التقدمية، بينما غيبت الجميع عن المجلس الحالي.
وكان أول ضحايا التفجير مجلس الشعب الجديد الذي انكشفت غربته عن مجتمعه فإذا هو شاهد زور!
[[[[[[
«اللبننة» لا تتصل فقط بتدبير الاشتباك بين الطوائف والمذاهب بل هي قابلة للتمدد أيضا داخل الأعراق والعناصر المكونة للمجتمعات التي ظلت – عبر التاريخ – صلبة في تماسكها… ثم ان لكل بيئة عربية الصنف الملائم من أصناف الفتنة.
لكن أصناف الفتنة جميعاً تنبع من صلب النظام القائم ومن غربته عن واقع مجتمعه أو عجزه عن معالجة مشكلاته وأسباب ضعفه.
إن الفتنة تضرب في السودان الآن عبر اختلاف العرق بين مكونات شعبه، لكن وحدة الشعب كانت معتلة من قبل تعاظم المد الانفصالي. فالحكم العسكري الدكتاتوري الذي اغتصب السلطة بالسلاح كان يعتبر المعارضة خروجاً على «الشريعة»، وهكذا فهو أخرج معارضيه جميعاً، والمسلمين بداية، من جنة إيمانه.
كذلك فإن الفتنة تضرب الآن وحدة اليمن… ولعل أطرف ما في مأساة مملكة بلقيس التي كانت تميز ذاتها بلقب «السعيدة» ان حاكمها يسعى سلفاً لتمديد ولايته بدءاً من العام 2013، بينما تهتز – منذ سنوات – ركائز الدولة التي تم توحيدها بالسلاح.
أما في العراق فالفتنة التي فجرها الاحتلال الاميركي مع اجتياحه تلك الأرض التي كان الطغيان قد جعلها خرابا، تجوس الآن أنحاءه من أقصى شماله الى أقصى جنوبه بعدما فرز الاحتلال «الشعب» طوائف ومذاهب وعناصر لتنشغل بالتنازع على السلطة عنه. كان على كل طامح أن يرفع طائفته ومذهبه أو عنصره علماً، وأن يطالب بحقوق خاصة ليس كمواطن وليس كقائد سياسي عراقي، ولكن كزعيم عشيرة أو قبيلة أو فخذ أو بطن من «حامولة» يطلب «حصة» قومه في السلطة التي صارت ائتلافاً خارج السياسة وخارج موجبات بناء الدولة.
… وهكذا ربحت إسرائيل المزيد من الحروب على الأمة العربية من دون ان تخوضها، وها هي تحصد النتائج الثمينة بينما تتفاقم خسارة الشعب الفلسطيني في حقه في أرضه التي تستنبت فيها المستوطنات بوتيرة هائلة السرعة حتى لا تبقى فيها سماحة تكفي لإقامة دولته – الحلم.
الفتنة تضرب في مشارق الأرض ومغاربها،
على ان أخطر ما تتعرض له الأمة جميعاً هو ان تمتد ألسنة الفتنة الى مصر التي قدمت عبر التاريخ النموذج الفذ لصلابة الوحدة الوطنية.
كان العرب عموماً يهربون بانقساماتهم، الدينية والطائفية، السياسية والعقائدية، الى مصر فتكون الراعية لإعادة التوحيد بين المختلفين في أقطارهم جميعاً.
لذلك فإن حادثاً واحداً مؤشر على التباعد بين المصريين لأسباب تتصل بالدين من بعيد أو قريب إنما يؤكد على خلل في أداء السلطة، اذ تتبدى طرفاً فتخسر صورتها الوحدوية الجامعة ويفتح الباب لمزيد من التدخل الأجنبي، والأخطر لمزيد من التوغل الإسرائيلي.
والانقسام الطائفي الذي له من يرعاه بين «الدول» ويوظفه لصالحه، لا يحل بالأمن فقط، بل بمعالجة أسبابه الفعلية التي تكون بالأصل اجتماعية، ثم يصار الى استثمارها في السياسة.
ان تهديد مصر في وحدتها هو الخطر الأعظم على الوجود العربي… ومناخ المنطقة عموماً مثقل بأسباب التوتر الطائفي. فتراجع الفكرة القومية أمام المشروع الإسرائيلي الذي أعلن عن هويته الدينية علناً، الدولة اليهودية، أفسح في المجال للحركات الأصولية المتعددة المنبت والتي تأخذ جميعها الى الفتنة.
ان حماية الوحدة الوطنية في مصر ضمانة للمستقبل العربي جميعاً وليس لمستقبل المصريين وحدهم. فمصر هي القدوة في المنعة وتماسك مجتمعها ورسوخ دولتها.
والفتنة لا تعالج بالشرطة والأجهزة الأمنية.
وهذه تجارب الدول العربية في المشرق تؤكد الحقيقة التي لا مفر منها: الدولة العادلة هي الضمانة لسقوط الفتنة، خصوصاً متى عززت قرارها بالتفاف الشعب حوله. وأول شروط هذا الالتفاف ان يعامل الناس كمواطنين لا كرعايا لطوائفهم تهيمن كبراها على الأصغر بذريعة أنها مضمونة الولاء للنظام بينما الباقيات مشكوك في وطنيتها لاختلافها في الدين أو في المذهب.
ومن مصر وفيها تعلم العرب أن الدين لله والوطن للجميع.
ومن حق العرب أن يخافوا على مصر وأن يخافوا منها، الآن، وهي ترتج بضغط مخاطر انفجار الفتنة، خصوصاً اذا ظلت المعالجات محصورة بالمواعظ وصور اللقاءات بين رجال الدين والخطب الرسمية التي يتهم فيها المسؤولون «الخارج» وينسون أنفسهم بوصفهم المرجع الأول والأخير عن بقاء الدولة في موقعها الموجد والجامعة بالعدل والقيم على المساواة بين مواطنيها.
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية