تمور الأرض العربية، مشرقاً ومغرباً، بالانتفاضات الشعبية العارمة بعد ركود سياسي استطال دهراً حتى تبدى، وكأن الشعوب العربية قد تم تدجينها حتى يئست من قدرتها على التغيير فاستسلمت لأنظمة القمع التي استولت على السلطة بمغامرات عسكرية أو بمصادفات قدرية كان تغييب الشعب شرطاً لنجاحها ومن ثم لاستمرارها.
لم يكن لأي نظام من تلك الأنظمة التي هبت في وجهها الانتفاضات فأسقطتها، أو هي تكاد تسقطها، «شرعية» شعبية حقيقية، بل هي – في الغالب الأعم – انقلابات عسكرية سيطرت على البلاد بالقوة، ثم أورثها الراحلون أو المرحلون قسراً لأزلامهم أو لأبنائهم، أو استولى عليها من كان الأسرع في القفز الى سدة السلطة.
وليس سراً أن هذه الانتفاضات التي اجتمعت لإنجازها جماهير متعددة الانتماءات والتوجهات، والتي فوجئت – على الأرجح – بنجاحها السريع، كما في حالة تونس ثم مصر، لم تكن قد أعدت نفسها لاستلام السلطة، ولا هي تملك برنامجاً واضحاً أو خطة عمل محددة لما بعد سقوط الطغيان. وها هي «جماهير سوريا» تكاد تكون بلا رأس وبلا قيادة موحدة وبلا برنامج، لا يمكن أن يغني عنه شعار إسقاط النظام، وكذلك فإن «جماهير اليمن» وان جمعتها جبهة تشكلت من متفقين «ضد الرئيس»، مختلفين على من وما بعده، تواجه – مجتمعةً – مشكلة تقديم النظام الذي تريد، من دون تعريض البلاد لحرب أهلية لا تبقي ولا تذر.
بديهي وقد زلزلت الانتفاضة الأرض أن تعود القوى القديمة التي اختفت أو تماوتت أو غيبها بطش النظام، الى السطح، بشعارات ايديولوجياتها العتيقة وقد أدخلت عليها بعض التطوير في الأسلوب وأعادت صياغتها بحيث تتقبلها الأجيال الجديدة التي تحمل عنها صورة غير مشجعة، يستوي في ذلك «الإسلاميون» بفصائلهم المختلفة ومن ضمنهم «السلفيون» أو المتطرفون يساراً الى ما بعد الشيوعية، فضلاً عن الطوائفيين.
ولقد ساعد على مثل هذه العودة أن الأنظمة التي أسقطتها الانتفاضات أو هي في الطريق الى السقوط، قد رفعت شعارات مضللة استهلكت عبرها القيم الوطنية وأحلام التقدم والاشتراكية، والعروبة والإسلام والديموقراطية والليبرالية الخ ..
بل ان الواقع قد كشف ان تلك الأنظمة ليست فاسدة فقط، بل هي مفسدة أيضا ومدمرة لخصومها، وبالتالي للحركة الشعبية عموماً، بحيث إنها جعلت المجتمعات تعوم في الفراغ السياسي المطلق… وهكذا عادت الى السطح بعد الثورة، كل تلك «البواقي» من التنظيمات المحظورة قبلها، وظهرت بالمقابل تنظيمات جديدة لما تستكمل شروط القيادة.
على أن المؤكد ان هذه الانتفاضات الشعبية المجيدة قد أفقدت «العسكر» شرعية دوره كقيادة للثورات… فمعظم الأنظمة التي تهب في وجهها الثورات هي أنظمة عسكرية، أو أن العسكر هم الذين مكنوها من السلطة. فلا أحزاب، ولا تنظيمات شعبية جدية، بل ان النقابات أو الاتحادات أو الجمعيات هي مجرد واجهات للحزب الحاكم الذي أنشأه العسكر على عجل ليموهوا وجوههم وإضفاء طابع شعبي على تسلطهم منفردين بحكم البلاد والعباد.
ولقد تكرر مشهد السقوط الذريع للحزب الحاكم في تونس ثم في مصر (وفي ليبيا، وان كانت التسمية هي «اللجان الشعبية»)، وها هو النظام في سوريا يتبدى مكشوفاً بقوته العسكرية وأجهزته الأمنية بينما اختفى الحزب الذي يضم – نظريا – أكثر من مليوني مواطن فضلاً عن سيطرته – نظريا – على الاتحادات المهنية والنقابات وصولاً الى تنظيمات الشبيبة والجمعيات الخيرية الخ. كذلك الأمر في اليمن، حيث تبدى واضحاً ان الحزب هو «حزب الرئيس» وان السلطة هي التي تشكل قاعدة متماسكة، فإن تهددت تحول الى خليط من أبناء العشيرة وسائر المستفيدين من السلطة، وتهاوت الشعارات الاشتراكية والتقدمية والوحدوية، فإذا هي مجرد واجهات تزيينية لحكم الفرد – الرئيس – القائد – شيخ القبيلة، أمير المؤمنين – الأمير – الملك – السلطان كما كان يجمع في شخصه الرئيس (الجريح الآن) علي عبد الله صالح.
ومن أسف أن هذه الأنظمة قد شوهت، ولعلها دمرت، شعارات الاشتراكية والعروبة وأساءت الى الإسلام عبر استخدامه في قهر المؤمنين.
الأسوأ أن بعض القادة الذين تحاصرهم الانتفاضات في قصورهم يزعمون أنهم لا يجدون قوى فاعلة تستطيع الادعاء أنها تمثل شعبها، وإنهم بالتالي لا يجدون من هو صالح لمحاورته حول الإصلاح المطلوب! وهكذا لا يتبقى غير الرصاص يدوي في البلاد التي أفرغها النظام الدكتاتوري من قواها الحية.
على ان الأخطر ان في ذلك جميعاً شيئاً من إعادة الاعتبار الى الأنظمة المدموغة بأوصاف «الرجعية» والمموهة دكتاتوريتها بالحق الإلهي أو بقاعدة «أخذناكم بالسيف… «وهي الأقلية» إجمالا وقد كانت ولا تزال تناهض تلك الشعارات – المطالب، كما أنها تتصدى الآن لقيادة الهجوم المضاد على الانتفاضات الشعبية عن أحد طريقين: النفاق المكشوف، مصحوبا بالاستعداد لتقديم ما يلزم من القروض والهبات ومحاولة تبرئة «حليفها» النظام القديم او استصدار عفو عنه… وعنها!
بديهي ألا يجد نظام الطغيان من يتحاور معه.. فهو قد استطاع ان يحكم دهراً لأنه شطب الآخرين جميعاً فألغاهم: بعضهم باتخاذه واجهة لبعض الوقت، وبعضهم الآخر بسجنه معظم الوقت أو بفرض الصمت عليه حتى الامحاء.
وبديهي أن تتصدى القوى ذات الشعار الديني، والتي نالها ما نال غيرها من التنظيمات الشعبية وأكثر من الاضطهاد والقمع، للمطالبة بتعويضها عن التغييب القسري في الماضي بحضور يتجاوز قدراتها الى حد مصادرة المستقبل، او المشاركة المؤثرة في صياغته.
في ظل هذا الاضطراب الشعبي العام، سواء في الدول التي أنجزت انتفاضاتها إسقاط النظام او في تلك التي لا تزال تدفع ضريبة التغيير من دون أن تتمكن من إنجازه، تجد الإدارة الاميركية مساحة واسعة للدخول الى المسرح من باب الحديث عن دعم الثورات والإيهام بأنها تتبناها، بل وتكاد تقول – أحيانا – انها هي من أوحى وشجع وحرض، وبالتالي فهي مستعدة لان ترعى الحكومات الجديدة التي جاءت بها جماهير الميدان.
أكثر من ذلك: توفد هذه الإدارة مسؤولين كباراً وبحاثة ودارسين فينزلون الى الميدان يصورون ويحاورون الشباب، يلتقطون الصور التذكارية معهم توكيداً لإيمانهم بالثورات!
أما الذروة في ادعاء أبوة الانتفاضات فهي الإطلالات شبه اليومية لوزيرة الخارجية الاميركية السيدة هيلاري كلينتون، والتي تقدم فيها ما يشبه البلاغات العسكرية عن مسار حركة التغيير في هذا البلد العربي أو ذاك، محذرة القيادات، محددة لهم مهلاً للانحياز الى شعوبهم المطالبة بالإصلاح، والاعتراف بالمعارضات وإشراكها في السلطة.
تأتي هذه الإطلالات استكمالاً لما كان بدأه الرئيس الاميركي باراك أوباما من الترحيب بالانتفاضات الشعبية العربية الى حد تبنيها مع تحذيرها من اتخاذ سياق يؤدي الى إلغاء الاتفاقات المعقودة مع إسرائيل أو تشجيع المناخ المعادي لإسرائيل، حتى لو تمثل ذلك في دعم مطلب منظمة التحرير الفلسطينية باللجوء الى الأمم المتحدة لتأكيد حق الشعب الفلسطيني في دولة له فوق بعض أرضه ولو ضمن حدود 1967.
في هذا السياق، تأتي حملة الإدارة الاميركية على المقاومة في لبنان، عنيفة بل شرسة الى حد اتهام المجاهدين تحت راية المقاومة للاحتلال الإسرائيلي بما يسيء الى رصيدها الوطني الذي حققته عبر تحرير الأرض المحتلة، ثم عبر الصمود للحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز – يوليو – 2006، وبالتالي فإن واشنطن تدخل طرفاً في الحملة المنظمة التي يمكن تلمس بعض عناوينها في محاولات إثارة الفتنة الطائفية لامتصاص اندفاع الانتفاضات نحو أهدافها الأساسية، في إقامة أنظمة وطنية – ديموقراطية قادرة على التمييز بين الصديق والعدو وبين ما يحقق خير بلادها وما يسيء اليها.
بالمقابل فإن الإدارة الاميركية لا تجد ضيراً في تشجيع العودة المدوية إعلامياً لحركات إسلامية تم تدجينها عبر عقود من الاضطهاد الى المسرح السياسي والى المشاركة في بناء النظام الجديد، عبر تزكية النموذج التركي كبديل من الأنظمة الدكتاتورية التي أطاحتها الانتفاضات…
على أن هذه الإدارة ذاتها سكتت ولا تزال ساكتة على الاضطهاد الدموي للأكثرية الشعبية في البحرين التي عندما عجزت القوات العسكرية للنظام عن شطبها كلياً من الخريطة السياسية، اتخذ مجلس التعاون الخليجي قراره الخطير بإرسال «قوات درع الجزيرة» لاجتياح المعارضة في البحرين باسم حماية المصالح الاستراتيجية لتلك الدول الغنية، وان كان استخدم «الأطماع الإيرانية» كذريعة لتبرير الغزو، والتغطية على وحشية النظام.
طريق الثورات حافل بالمصاعب والألغام والحساسيات ومؤامرات النظام القديم وما خلفه من تفسخ في المجتمعات وانهيار القيم.
وأعظم ما في الثورات أنها تتحدى الصعوبة بوعي الشعب وخبراته الهائلة التي تجمعت عبر مقاومته الطويلة للنظام القديم بكل أسباب هيمنته البوليسية وجهده في إفساد الناس وتحقير القيم والمقدسات.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية