تتزاحم قوى كونية عظمى وقيادات عربية، بينها الملكي المذهّب والإسلامي المموه بالقدسية، والمستولد حديثاً من رحم العصر الأميركي والخارج مدحوراً من المواجهة مع المشروع الإمبراطوري الإسرائيلي على نعي «العروبة» وكل ما يمت إليها بصلة مثل «القومية العربية» وصولاً الى إنكار وحدة الوجدان العربي.
يتم طمس أية ملامح محتملة للعروبة في أي عملية تغيير جرت او يجري الإعداد لإتمامها في هذا القطر او ذاك من الأقطار العربية، مشرقاً ومغرباً.
تُصَفَّح الثورة بالشعار الإسلامي وقد أعيدت صياغته بما يتناسب مع «قيم العصر»… الأميركي، وهكذا يصبح «مدنياً» وتسقط منه «الأحكام الشرعية» التي تخص المرأة وقواعد السلوك.
من باب أولى أن تسقط فلسطين من البيانات التأسيسية وخطاب الاحتفال بالنصر، وأن يعاد الاعتبار الى اليهود المحليين كمواطنين صالحين متساوين في الحقوق والواجبات مع أتباع الديانات الأخرى، بينما يختفي أي ذكر لإسرائيل.
لكأنما هذه الثورات التي تزلزل الأنظمة العربية فتسقطها إنما تهبط من الفضاء الخارجي، لا تنبع من ارض الناس ومن قلوبهم ومن آمالهم وأمانيهم المكسورة، ومن طموحاتهم الى مستقبل أفضل يرون أنفسهم جديرين به، ولديهم كل الاستعداد لأن يقدموا التضحيات الغوالي من أجل بنائه.
وبالتأكيد فإن «الثوار» الذين فاجأهم السقوط السريع لبعض أنظمة الطغيان لم يكونوا قد اعدّوا أنفسهم لاستلام السلطة. ولقد أربكهم ذلك السقوط المباغت فزاد اضطرابهم وتشققت صفوفهم التي اجتمعت تحت راية المعارضة ولم تكن قد تلاقت على قواسم مشتركة فكرية وسياسية، كما أنهم – بمجموعهم – لم يكونوا يملكون مشروعاً سياسياً وبرنامجاً للحكم. حتى أعظمهم تجربة، كالإخوان المسلمين في مصر، لم يكن جاهزاً لاستلام السلطة وتحمل مسؤوليات العهد الجديد بكل أثقال تركة النظام المتهالك الذي كان يمسك بمفاصل البلاد جميعاً في الإدارة والعمل الشعبي عن طريق تنظيمه الحكومي من دون ان ننسى القوات المسلحة، وهو من اختار قياداتها العليا وفق معاييره وارتباطاته السياسية ومنظوره الى بلاده والمنطقة من حوله.
كانت التعبيرات السياسية عن العروبة في أسوأ حالاتها: الأحزاب التي طالما حملت الرايات قد التهمتها السلطة، فدمرت المؤسسة السياسية وحقرت الشعار حينما جعلته مجرد ستارة تموه الحكم الفردي وتغطيه عبر أشكال تنظيمية مفرغة من أي مضمون.
تساوت أحزاب السلطة، وبمعزل عن شعاراتها، في انها القناع الشعبي للحكم الدكتاتوري… وهكذا دفعت الوطنية والعروبة الضريبة مرتين: اذ هي مستبعدة عملياً عن القرار الذي سوف تتحمل – معنوياً – مسؤوليته السياسية.
أي ان العروبة، وهي حاصل جمع الوطنيات، كانت الضحية الأولى للأنظمة التي حكت باسمها, من ظل على إيمانه بها صيَّره النظام معارضاً ورأى فيه الخصم وكاشف تزويره، وبالتالي فقد خصه بالاضطهاد حتى يتسنى له الادّعاء بأنه الممثل الشعبي الوحيد للإرادة الوطنية وللقضية القومية.
صحيح أن الأنظمة القائمة كانت ترى في التنظيمات الإسلامية، والإخوان في الطليعة، خصوماً، لكنها سرعان ما اكتشفت أن المساومة معهم ممكنة، وبالتالي فمن السهل شراء صمتهم او حتى تأييدهم بقبولهم في النادي، عبر السماح لهم بحرية حركة محدودة، وإشراكهم في البرلمان المعين، مقابل أن يتولوا الدفاع عنه والتوحد معه في معاركه ضد خصومه العقائديين في الأحزاب ذات الهوية الراديكالية، وطنية وعربية بالضرورة، وتبرير سياسته التي قاتلوها ذات يوم، لا سيما ما يتصل بالصلح مع إسرائيل (التي لم تعد «العدو») والتعامل التجاري معها بمنطق الأمر الواقع.
صارت العروبة – بما هي الوطنية – طليعة أعداء النظام وموضع حربه المفتوحة… وقد انطبق هذا التوصيف على الشيوعيين والماركسيين عموماً بعدما أنجزوا نقدهم الذاتي لانحرافهم في الماضي، وعادوا الى الشارع الوطني كمناضلين من اجل التغيير، التحاقاً بالإرادة الشعبية.
في مصر، على سبيل المثال، لم يتبق في الشارع كتنظيمات علنية او شبه علنية الا الفرق الإسلامية المختلفة، منظمة أو شبه منظمة، وأبرزها الإخوان.. أما الأحزاب العقائدية ذات الشعار العربي فقد أحرقتها السلطة، في العراق وفي سوريا وفي اليمن. انتهى الشيوعيون مع سقوط حكمهم في الجنوب بمجزرة ذهبت بالحزب جميعاً، ثم دخل من تبقى منهم نعيم السلطة في الشمال، جنباً الى جنب مع القبائل وبعض الفرق الحزبية العربية.
بالمقابل فإن الحركة الناصرية لم تكن في أي يوم حزباً. كانت تحزباً للقائد، ولنظامه استطراداً، فلما رحل جمال عبد الناصر انتبه الناصريون أنهم بلا رأس وبلا قيادة فعلية، خصوصاً بعد انقلاب السادات في 15 أيار (مايو) 1971.
وإذا كان يمكن اعتبار الناصرية في مصر حزب الحاكم أيام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، فإن الحركات التي تحمل هذه التسمية مباشرة او بالتورية في مختلف الأقطار العربية ولا سيما في الشرق قد فقدت «المركز» كمصدر وموجه ومثال. وهكذا فقد تحولت الى تجمعات محدودة التأثير، لا سيما أن نظام الخلف في مصر قد اندفع الى أبعد مما قدرت الأحزاب والحركات السياسية وقوى النخبة… فقام أنور السادات بزيارة تتجاوز أي خيال الى الكيان الإسرائيلي، ثم اندفع الى معاهدة الصلح، وسط تهالك عربي عام، عكسه غياب الشارع وكذلك تواطؤ العديد من الأنظمة العربية بالصمت الذي يدل على الرضا او بالمواجهة اللفظية عبر تكتلات مؤقتة بين معترضين (جبهة الصمود والتصدي) جمع الخوف أطرافها أكثر مما جمع بينهم الإصرار على مواصلة النضال ضد إسرائيل.
وفي مواجهة معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلي تصرفت أنظمة الرفض بعدائية استنفرت عصبية المصريين، إذ أحسوا ان «العقوبة» إنما تطالهم أكثر مما تطال النظام الذي خرق المحظورات وكسر المحرم.
ثم كانت الحرب على العراق بعدما غزا صدام حسين الكويت، وانقسام العرب معسكرات، انضم بعضها الى الجيوش الأميركية وهي تقاتل لطرد الجيش العراقي من الكويت… وانتهت بمكافأة سياسية كانت محكومة بالفشل تمثلت في مؤتمر مدريد للسلام الذي أريد منه تهدئة الغاضبين من الأنظمة العربية بمكافأة قد تختلف شكلاً عن معاهدة الصلح المصرية – الإسرائيلية ولكنها لا تقدم حلاً لجوهر المسألة، أي حقوق الفلسطينيين في أرضهم.
وهكذا توفر المبرر لقيادة منظمة التحرير لكي تذهب الى صلح منفرد آخر بالشروط الإسرائيلية عبر اتفاق أوسلو الذي يمكن تلخيصه بأنه قد ادخل «الثوار» السابقين الى»سلطة» في ظل الاحتلال الإسرائيلي، لا تقرِّب الفلسطينيين من حلم الدولة وإن كانت تباعد بينهم وبين سائر إخوانهم العرب… فمع الإقليميات والكيانيات تضيع وحدة المصير، بل يسعى كل نظام عربي الى توفير الضمانات التي يحتاجها لاستمراره ولو على حساب وحدة الأمة او أمنها القومي او مصالحها المشتركة.
[[[[[[
من مصر، الى ليبيا، الى تونس، الى الجزائر فالمغرب، ومن فلسطين الى سوريا يتبدى وكأن الشارع العربي لم يعد فيه من التنظيمات ذات الحضور الشعبي إلا الإسلاميون.
إن الأصوات ترتفع في أنحاء عدة تنادي بحكم الشريعة.. وإن ظل الأعظم وعياً من القيادات الإسلامية ينادي بالجبهة الوطنية ويتعهد بعدم الانفراد بالسلطة، وإصراره على إشراك «سائر المناضلين» معه في بناء العهد الجديد.
وإذا كان الإسلاميون يتبدّون موحدين في تونس وفي ليبيا التي لم تعرف الحزبية إلا حديثاً، فإنهم في مصر، تنظيمات عدة، وإن ظل أبرزهم الإخوان، في حين ان هذه الحركة التي كانت تسعى الى الأممية تعاني من انشقاقات تضع بعضها في مواجهة البعض الآخر، أما في الأردن فهم يحاولون الحفاظ على وحدتهم عبر التوحد في معارضة النظام ما عدا رأسه: الملك.
وباختصار، يبدو وكأن العروبة قد اندثرت مع الأنظمة التي تهاوت فسقطت او هي على وشك السقوط، في حين ان العروبة كانت الضحية الأعظم لتلك الأنظمة التي سرقت منها راياتها والشعارات وحكمت باسمها بعدما اضطهدت قياداتها بالسجن او بالنفي او بإغراءات السلطة.
ربما لهذا تتبدى الأنظمة الملكية التي تتستر بالشعار الإسلامي وكأنها في موقع المنتصر ورائد «الربيع العربي» وقاعدة إمداده بالمال والسلاح.. والدعم الدولي!. فاجتماعات المعارضين تتم في العواصم المذهّبة، وفيها تصاغ البيانات الثورية، وعبر اجتماعاتها فيها يتم استدراج التدويل وتشريعه وتمويله أيضاً.
إنها فرصة نادرة لهذه الأنظمة المذهّبة كي تخوض معركتها الأخيرة مع العروبة، التي كانت ترى فيها التهديد الجدي لعروشها، اذ هي تتيح لها الفرصة للظهور بمظهر راعي عملية التغيير وقائد حملة الاندفاع الى الغد.
وماذا تريدون من العروبة أكثر من الكوفية والعقال المذهّب والعباءة من حرير؟
أليس هذا هو بالضبط الربيع العربي: ولبس عباءة وتقرعيني؟
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية