إنها نقطة البداية لتاريخ سياسي جديد في مصر، كما في الوطن العربي الكبير جميعاً.
فأن يصل تنظيم «الإخوان المسلمين»، بشخص الدكتور محمد مرسي، الى سدة الرئاسة في «المحروسة» ليس بالأمر العارض بالنسبة للمجتمع المصري ولسائر المجتمعات العربية من حوله… بغض النظر عن الملابسات والتحولات التي واكبت المعركة الرئاسية، أو طرأت على «الميدان» وقواه متعددة الانتماء والتوجه، وأساساً على سلوك «المجلس العسكري» ومن يمثل، وفرضت هذه النتيجة.
وبالتأكيد فإن عيون العالم كله، والعرب بالذات، تتركز الآن على مصر، وعلى حركة الصراع السياسي فيها، وعلى التحولات التي ستطرأ على سلوك الرئيس الجديد بدءاً من لغته، مروراً بموقع الشركاء المفترضين في خطابه وفي قراره، وصولاً إلى موقع المرأة في «عهد» الإخوان، وقيافتها التي قد تتبدى غير مألوفة بالنسبة للسيدة الأولى في دولة عصرية كانت رائدة التقدم الاجتماعي في الوطن العربي جميعاً.
إنها التجربة الاولى للإخوان المسلمين في سدة السلطة، ومع الانتباه الى الدور القيادي لتنظيم الإخوان في سلطة ما بعد ثورة البوعزيزي في تونس، والى محاولاتهم إثبات شراكتهم في سلطة ما بعد علي عبدالله صالح في اليمن، وسعي «الإسلاميين» عموماً إلى تأكيد حضورهم في ليبيا ما بعد القذافي، فان تسلم إخواني منصب الرئاسة في مصر نقطة تحول خطير في تاريخ الوطن العربي كافة.
ولأنها التجربة القيادية الاولى، وفي البلد العربي الأسبق الى الدولة، صاحبة التاريخ العريق والدور القيادي الذي شغر بعد تغييبها عنه مرة بالتفرد نتيجة انفراد الحاكم بقرار يمس بسلامة الأمة جميعاً، ومرة ثانية بتسليم الحاكم ـ الوريث بهذا الغياب لأنه اعجز من أن يقوم به، وان تذرع بان مشكلات العرب لا تنتهي، وان مصر مشغولة بذاتها وبهموم فقرها الثقيلة، وكأن من حقه من مسؤولية القيادة بغض النظر عن أعبائها.
ولأنها التجربة الاولى فلسوف يرصد خطواتها العالم كله، والعرب جميعاً، والمصريون أساساً، ليكتشفوا هؤلاء القادمين من خارج «النادي السياسي» الذي استمد شرعيته من «الثورة»، التي كثيراً ما كانت ـ لاسيما خارج مصر ـ قناعاً تنكرياً لانقلاب عسكري سرعان ما استولد انقلاباً ثانياً فثالثاً… وربما كان للإخوان بعض الدور في بعضها..
ولأنها التجربة الديموقراطية الأولى التي أعطت ثمارها السياسية بالانتخاب وليس بالانقلاب، فالجميع يريدون لها النجاح، بمن في ذلك الخصوم التاريخيون لـ«الإخوان» فكرياً وسياسياً… والمؤكد ان الكل قد وضع تحفظاته جانباً، وتجاوز ذكرياته عن التاريخ الملتبس لهذا التنظيم العريق، والذي كثيراً ما وشحته الدماء، وقرر فتح صفحة جديدة معهم خضوعاً لمبادئ الديمقراطية، مع التمني بأن يكونوا اليوم ـ وقد وصلوا إلى سدة السلطة ـ غير ما كانوه أيام التنظيم السري ومشتقاته في فترة الاضطهاد الطويلة.
فصورة «الإخوان» في الذهن العربي، أنهم انقلابيون، وأنهم أهل عنف، لا يتورعون عن اغتيال الخصوم، وأنهم نشأوا ـ إلى حد كبير ـ في العتم… وأنهم مختلفون، في الشكل والمضمون، عن الأكثرية الساحقة من أبناء مجتمعاتهم التي يريدون «هدايتها» بالقوة إذا لزم الأمر… وان لهم نظرياتهم المتــحفظة وسلوكهم المفرد، حتى لكأنهم يأتون من عالم آخر، ويتحدثــون بلغة مختلفة عن الــعالم الذي يعيــشون فيه, والذي يتطلــعون إلى تغيــير الــقيم والمفاهيم فيه بحيث تنسجم مع طروحاتهم الإيمانية.
ولقد تبدى الارتباك في لغتهم الانتخابية وهم يحاولون بث الطمأنينة في صفوف الجماهير التي قد تحفظ لهم عمق إيمانهم لكنها لا ترى رأيهم في شؤون حياتهم الدنيا، ولا تقبل نظرياتهم الانقلابية، وترفض مقولاتهم التي تكاد تحصر الإيمان فيهم مما يدفع إلى الشك في تدين الآخرين… أي الأكثرية!
كذلك فان محاولة خروجهم من الماضي قادمين إلى العصر قد تبدت واضحة خلال المناورات التي سبقت وواكبت المعارك الانتخابية (مجلس الشعب والشورى) والجولة الأولى من معركة الرئاسة، ثم طرأ عليها تبدل جذري في الجولة الثانية والحاسمة والتي انتهت بفوز الدكتور محمد مرسي.
وبالتأكيد فان المصريين خصوصاً والعرب عموماً قد رحبوا بهذا التحول في الخطاب الإخواني. فالكل يعرف أن «الإخوان» حزب كبير، بل تيار عريض، قد يجد تأييداً واسعاً، ولكنه بالمقابل قد يواجه أكثرية لا تقبله، أو لها تحفظاتها عليه، لأنها قد ترى فيه تهديداً للمجتمع المدني وطموحه إلى التقدم واللحاق بالعصر.
وبالتأكيد فان المصريين خصوصاً، والعرب عموماً، يتابعون بدقة واهتمام، كل تصرف وكل كلمة في أي خطاب للرئيس الجديد وصحبه من قيادات الإخوان الذين قد يرون في أنفسهم الآن أنهم قد باتوا في موقع «الخليفة» أو «الحاكم بأمر الله» وان على الرعية الطاعة والا…
على هذا، فان أمر اليوم يجب أن يتمثل في الخروج من الشعار الحزبي إلى المسؤولية الوطنية والقومية (فضلا عن الأممية).
ليست هذه مسؤولية الرئيس فحسب، بل هو واجب التنظيم جميعاً إذا كان «الإخوان» يريدون نجاح هذه التجربة الرائدة التي يعود الفضل فيها الى جموع الشعب المصري، وليس الى تنظيمهم القوي والغني، واسع الانتشار في الداخل والخارج، وصاحب الحظوة في دوائر سياسية كثيرة، عربية وأجنبية.
وبرغم فوز الدكتور محمد مرسي بمنصب الرئيس فليس الإخوان المسلمون هم الحزب القائد، ولا ينبغي لهم أن يكونوا، فضلاً عن أنهم لن يستطيعوا تطويع مجتمع سبق إلى التطور والتقدم العديد من مجتمعات أوروبا فضلاً عن محيطه العربي، والمقارنة غير جائزة مع المجتمعات الإسلامية الأخرى التي كان معظمها لم يعرف «الدولة» أصلاً، فضلاً عن الدولة العصرية.
لم يكن الإسلام حزباً سياسيا، ولن يكون، في أي يوم. انه أسمى من ذلك بكثير. إنه دين هداية للناس كافة وليس للحكم الإسلامي مفهوم واحد، ولا يمكن له أن يكون. فالرسالة تتجاوز السلطات وأنماط الحكم جميعاً.
على هذا فأبسط واجبات الرئيس الجديد خاصة وتنظيم الإخوان المسلمين عامة أن يحفظوا لشعب مصر نبله وتجاوزه عن الكثير من صفحات تاريخهم معه، ومواقفهم من العديد من القضايا التي كان يفترض انهم يحفظون قداستها، كما يحفظها…
وبغير رغبة في التشهير فلا يمكن نسيان «تواطؤ» الإخوان مع أنور السادات ومساهمتهم في تغطية انحرافه بمصر، متسلحاً بدماء الشهداء الأبرار الذين أنجزوا «العبور» العظيم، ثم مع «وريثه» حسني مبارك، في فترة أخرى، في تزوير إرادة الشعب وإفساد الحياة السياسية والسكوت عن الطغيان، إلى حين إخراجهم من «جنة» المشاركة «الرمزية» في السلطة بغير دور في القرار، بحيث تم «طردهم» منها في آخر انتخابات في عهد مبارك.
لقد تجاوز الشعب المصري عن كثير من السياسات المنحرفة للإخوان، وأعطاهم من أصواته ما مكنهم من فوز لم يكونوا يحلمون بمثله في أي يوم.
لكن هذه الأصوات أمانة، وليست حقاً شرعياً، بلا مقابل.
لعله أراد أن يمتحن صدق ولائهم لمصر، الوطن والدولة والدور. لعله أراد تعويضهم سنوات الاضطهاد، متجاوزاً عن خطاياهم وأخطائهم، ولو إلى حين. لعله أراد منحهم الفرصة لكي يتغيروا بما يتلاءم مع إرادته وتوجهاته ومصالحه وتصوره لغده الأفضل.
لقد عرف الشعب المصري، عبر تاريخه الطويل، بالاعتدال في مواقفه وفي سلوكه، وحتى في إيمانه… وظل التعصب الديني غريباً عنه.
وها هي الفرصة قد حانت ليتغير «الإخوان» بما يتناسب مع تجاوز الشعب لتطرفهم وتحولاتهم وبعض الانتهازية التي شابت مواقفهم خلال عهد الطغيان، ثم خلال المرحلة الانتقالية، والتي خذلوا فيها شباب «الميدان» وتجاوزوه في مساوماتهم ـ مع المجلس العسكري ـ طلباً للسلطة، كلها أو بعضها.
ومع التفهم للشبق إلى السلطة عند هذا التنظيم العريق، فان بين شروط النجاح أن يتخففوا الآن وقد تسلم رجل منهم الموقع الأول في الدولة من هذا الشبق، وان «يغيروا ما بنفوسهم» ويتغيروا فيمدوا أيديهم إلى من نصرهم فرأسهم، ليقيموا حكماً بالشراكة لدولة هي صاحبة الحق المطلق بالقيادة في منطقتها.
إن من مصلحة الشعب المصري، وبالتالي من مصلحة العرب عموماً، أن تنجح عملية التغيير في مصر، لان نجاحها سيفتح باب المستقبل الأفضل أمام العرب جميعاً.
إنها فرصة لن تتكرر أمام الإخوان، فإما أن يثبتوا أهليتهم، عبر شراكة حقيقية مع القوى الشعبية التي أنجزت التغيير بالثورة، وإما أن يتنكروا لمن رفعهم إلى هذا الموقع السامي، متسببين في ذلك بفتح الباب أمام الحرب الأهلية والخراب.
إنهم الآن حيث لم يحلموا يوماً: في قمة السلطة… وذلك بفضل الميدان وملايين المصريين الذين خاضوا فيه معركة التغيير العظيمة. وعليهم أن يعترفوا بذلك الفضل عبر مد اليد ـ بإخلاص ـ إلى أصحاب الدور الحاسم في التغيير، أي جموع الشعب المصري بقواه الحية من الوطنيين.
إن أهداف الثورة بعيدة عن مدى الذراع، وامكانات الدولة التي هشمها الطغيان، تعجزها عن تحقيق الطموح الشرعي إلى الغد الأفضل، إلا إذا تضافرت قدرات الشعب، جميعاً، بمختلف فئاته وقواه وأحزابه وتشكيلاته السياسية على إنجاز النهوض المنشود.
لـ«الإخوان» الرئاسة، أما الحكم فللقوى الحية المؤهلة في هذا المجتمع الغني بكفاءاته. ولا بد من قدر من التواضع، لا التنازل، من اجل توفير القدرة على الإنجاز.
ولقد أثبت المجتمع المصري رحابته وسعة صدره وقبوله برئيس حزبي، وليس بحكم الحزب الواحد الذي جربه طويلاً فكانت نتائجه تدميراً للحاضر والمستقبل.
والآن، الدور على «الإخوان» ليثبتوا أنهم على قدر هذه المسؤولية التي منّ عليهم بها شعب مصر العظيم، وسوف يحاسبهم على نتائجها اشد الحساب.
… ويبقى أمر « العروبة»، ولكنه حديث يطول..
ينشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية