باختصار… ُُقضِيَ الأمر وافرنقع العرب فإذا بلادهم أرخبيل من الجزر المتباعدة:
انفصل الأغنياء بذهبهم، الأسود منه والأبيض، في الجزيرة والخليج، وإن استخدموا بعضه لتدجين الانتفاضات او لتغذية حركات التمرد في الدول العاصية والمارقة – في تقديرهم – على الدين الحنيف.
وعادت دول شمال أفريقيا العربية تحاول إحياء الاتحاد المغاربي مع توسيعه ليشمل موريتانيا المنسية، بالانبعاث الإسلامي، وقد تم تزيينه بورد الربيع العربي الذي جاءته هويته من خارجه.
أما دول المشرق المحيطة بفلسطين، فقد حوصرت في انتظار أن يتوب أهلها ويرجعوا الى بيت الطاعة، معلنين براءتهم من شبهة العلاقة مع إيران التي حلت محل إسرائيل بوصفها العدو القومي منذ فجر التاريخ، بينما اليهود من أهل الكتاب.. ثم إن أرض الله واسعة تتسع لدولتهم الصغيرة التي يمكن التفاهم معها عبر القيادة العليا في واشنطن، فضلاً عن كونها الحليف الطبيعي في مواجهة المد الفارسي.
أسقطت الهوية الجامعة، وعادت دول هذه المنطقة التي استولدت على عجل، بعضها على قاعدة طائفية، وبعضها الآخر على قاعدة نفطية، وبعض ثالث من حول قاعدة عسكرية او حتى على قاعدة من غاز الى التباعد والمخاصمة… بالسلاح!
فجأة عادت ترتفع شعارات السيادة والاستقلال والقرار الوطني الحر في دول، كنا نحسب انها مستقلة وسيدة قرارها ولها مقعدها في الأمم المتحدة – بمنظماتها كافة – وفي الجامعة العربية وفي المؤتمر الإسلامي الخ…
وتهاوت جامعة الدول العربية مخلية مكانها أو مسخرة اسمها وتاريخها لنفوذ مؤسسات مستولدة حديثاً، أو كان لها وجود رمزي وغير فاعل، قبل ان «تجير» صلاحياتها الى الأمم المتحدة ومجلس الأمن فيها، تحت ضغط «عروض لا يمكن رفضها» جمعت من حولها أكثرية «الأصوات» من دون ترهيب او إغراء!
صار مجلس التعاون الخليجي، بقدرة قادر ومن غير تمهيد مسبق، مجلس قيادة الربيع العربي. لقد وجد من ينبه أركانه المتكاسلين فوق ثرواتهم الخرافية، الى ان الذهب يعوض الضآلة ويذهب بالعجز ويؤهل أصحابه لأن يكونوا قيادة سياسية، بل وعسكرية، وحتى فكرية، لموجة التغيير التي تجتاح المنطقة جميعاً.
وهكذا اندفعوا الى صدارة المسرح صارخين «الأمر لي»! مستفيدين من واقع ان الذهب أقوى تأثيراً من العقائد والأفكار، وانه يستطيع – إذا ما تجلبب بالإسلام – ان يفعل ما عجزت عنه القومية والاشتراكية والليبرالية.
بالمقابل ذهب أهل المغرب العربي يعيدون إحياء إطار سياسي ظل بلا روح لعقود، منفصلين عن سائر أشقائهم التائهين الآن في غياهب انتفاضاتهم، متخذين من الشعار الإسلامي الذي أعيد اليه الاعتبار بالديموقراطية منطلقاً جديداً «لبعث» الاتحاد المغاربي.
لا يهم أن يكون السودان قد سقط سهواً في هوة التشطير، وأن تندثر «دول» مستولدة قيصرياً كجيبوتي والصومال وجزر القمر، فلا تستذكر إلا بوصفها اصواتاً مرجحة لقرار أهل النفط في الحرب ضد أشقائهم الفقراء.
من له الحق في الاعتراض على أن تصبح إسرائيل، والحال هذه، مصدر القرار في مختلف شؤون هذه المنطقة وقضاياها، خصوصاً أن واشنطن سارعت الى احتواء الربيع العربي وتدجينه عبر التخلي عن رجلها في تونس، زين العابدين بن علي، وعبر إصدارها الأمر لصديقها في القاهرة حسني مبارك بالتنحي، وفتح الخطوط مع «الإسلاميين» – كأحزاب وتنظيمات – بعد اطمئنانها إلى «اعتدالهم» في ما يخص القضية الفلسطينية، وبالتالي الى تخفيف العداء تجاه إسرائيل في خطابهم السياسي، وتقديم إيران الى الصدارة بوصفها العدو القومي تاريخياً، وإبراز الاختلاف في المذهب وكأنه خروج على الإسلام؟
صارت إيران، والحالة هذه، العدو المشترك لكل من «العرب» والإسرائيليين، ومعهم بطبيعة الحال الولايات المتحدة الاميركية التي كان من السهل على رئيسها أن ينسى تعهداته السابقة، وأن يبتلع وعوده «التاريخية» حول حق الفلسطينيين بدولة على بعض البعض من أرضهم.
وهكذا تجيء زيارة رئيس وزراء دولة العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موعدها تماماً، فاللحظة الانتخابية في الولايات المتحدة الاميركية هي موعد متجدد مع الحظ، ويستطيع الصديق الأعز والأوفى أن يحصد من الجوائز فوق ما يتوقع، وأن يطلب فيحصل على ما كان مستحيلاً، وأن يبدل في القرار الاميركي بالاستناد الى دعم مفتوح من الكونغرس، توفره المنظمات الصهيونية التي دأبت على استغلال معركة الانتخابات الرئاسية لتغليب المطالب الإسرائيلية على المصالح الوطنية الأميركية… فسيف الصوت اليهودي قاطع، ولا يملك المرشح للرئاسة إلا الاندفاع في المزايدة على منافسيه حتى تفقد القدرة على التمييز: أيهم الأكثر تطرفاً في الولاء لإسرائيل من الآخر او الآخرين من المرشحين؟
منطقي، والحال هذه، أن يتصرف رئيس حكومة العدو الإسرائيلي نتنياهو في واشنطن بوصفه «السيد» أو «القائد» لأنه الصوت المرجح في الانتخابات الرئاسية الاميركية باعتباره حامي المصالح الاميركية العظمى في المنطقة الأغنى بثرواتها في العالم.
ثم إنه في هذه اللحظة المرشح لقيادة معركة القرن الحادي والعشرين التي سيتقرر فيها مصير الكون: الهجوم على إيران لتدميرها قبل أن تنجز مشروعها لإنتاج السلاح النووي.
الجديد أيضاً أن نتنياهو سيتحدث الآن من موقع «الحليف الموضوعي» لأهل النفط في الخليج في مواجهة الخطر الإيراني الداهم.. وربما ادّعى انه مفوض منهم ويتحدث باسمهم باعتباره حامي حماهم من النووي الإيراني، وهو بهذا إنما يؤدي واجب الحليف الجبار بسيفه الاميركي الطويل بطول الشرق الأوسط وعرضه.
ومما يسهل على نتنياهو مهمته «التاريخية» أن «الربيع العربي» قد أزهر فأثمر حاملاً الى السلطة رموز الإسلام السياسي، وهم – موضوعياً- حلفاء بالمصلحة إن لم يكن بالطبيعة، أو فلنقل إنهم أصدقاء مستجدون للإدارة الاميركية بعدما بذل الجميع جهوداً حثيثة لإنهاء «سوء التفاهم» الذي عكر العلاقات لزمن طويل… وهكذا فقد تم التلاقي مجدداً، وهذه المرة على ضرورة مواجهة «الخطر الإيراني» أو «المد الشيعي»… خصوصاً بعدما انكشفت الأغراض وبانت المقاصد الخفية عبر السلوك الوحشي للنظام السوري ذي الهوية الطائفية المعروفة ضد الشعب السوري بأكثريته، التي تبرع أهل النفط في الخليج برعايتها والتقدم لحمايتها، ولو بالسلاح، معززين بتأييد الحكم في تركيا بهويته الإخوانية المعلنة.
هي الحرب، إذن… وإذا كان العنوان إسقاط النظام السوري والمقصد تدمير قدرات إيران النووية، فإن الهدف الفعلي هو تكريس التلاقي في المصالح بين الثلاثي الجديد: الولايات المتحدة الاميركية وإسرائيل والإسلام السياسي الذي أسقط شعارات التحرير وأغفل ذكر فلسطين من أدبياته وهو يتقدم في اتجاه السلطة.
وذريعة من يقصدون الحكم الآن، في أكثر من بلد عربي، تحت الشعار الإسلامي: أمهلونا ريثما ننتهي من تصفية تركة نظام الطغيان في الداخل، وبعد ذلك يمكننا العودة الى ميدان العمل من اجل فلسطين!
[[[[[[
والحقيقة، التي قد تطمسها التطورات أحياناً، أن عرب النفط بالذات قد أرعبتهم الثورة الإسلامية في إيران منذ تفجرها في شباط / فبراير 1979… وإنهم – وتحت الرعاية الاميركية دائماً- قد لعبوا الدور الحاسم في تحريض الرئيس العراقي آنذاك صدام حسين للهجوم على إيران، متعهدين بأن يدفعوا كلفة الحرب، ومن بعد الانتصار، كلفة إعادة بناء العراق الذي ستلحقه – بالتأكيد – أضرار فادحة نتيجة مواجهة اكبر دولة في الإقليم.
ولم يكن صدام حسين بأحلامه الإمبراطورية يحتاج الى كثير من التحريض، خصوصاً وقد ضمن مصادر مؤثرة للدعم، وبات بإمكانه أن يقاتل الثورة الإيرانية وهي بعدُ وليدة تحت عنوان «القادسية»، مستعيداً تاريخ تدمير الإمبراطورية الفارسية بالفتح العربي تحت الشعار الإسلامي.
وحين أقر الخميني بالهزيمة وقبل قرار وقف إطلاق النار، متجرعاً الهزيمة العسكرية المرة، والتفت صدام حسين طالباً مكافأته، قال له أهل النفط: ولكننا دفعناها نقداً وسلاحاً… فكانت مغامرته الحمقاء بغزو الكويت مما استنفر العرب جميعاً فشاركوا- تحت القيادة الاميركية – في الحرب على العراق بذريعة تحرير الكويت، وهي وصمة العار التي ستظل محفورة في التاريخ العربي الحديث.
[[[[[[
التاريخ يعيد نفسه.. لكن الإعادة، كما المرة الأولى، سيدفع ثمنها العرب من دمائهم ووجود كياناتهم السياسية ومن مستقبلهم في أرضهم، فحين يكون عدوك هو حليفك ومصدر خلاصك، لا يحق لك أن تعترض على النتيجة الطبيعية: أن ينتصر مشروعه السياسي على مشروعك، وأن تصير تابعاً له، بالغة ما بلغت ثروتك. فالثروة وحدها لا تصنع أوطاناً ولا تقيم دولاً، فضلاً عن أنها لا تحرر أرضاً أو إرادة محتلة.
ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية