أتساءل وآخرون عن دقة أو صحة تسريبات خطيرة تتردد على أمواج وسائط الاتصال. تخيلنا أن بعض هذه التسريبات أطلقته أجهزة إعلام واستخبارات بهدف جس نبض الناس وردود أفعالهم في حال تنفيذ سياسة بعينها. تخيلنا أيضا أن أغلب الناس تميل إلى تصديق هذه التسريبات. يعود هذا الميل في رأينا إلى أن أجواء التكتم والتعتيم صارت في حد ذاتها ثابتا من ثوابت العمل السياسي في السنوات الأخيرة، وأن تقدما كبيرا قد تحقق في صنع التسريبات وفي صياغتها وكذلك في فنون إخراجها. تخرج التسريبات مكتسية جاذبية أقوى وتعتمد في انتشارها على وسائل أكثر تطورا. تخيلنا أيضا أن وراء الظاهرة الانتشار الواسع لاستخدامات الذكاء الاصطناعي حتى أننا صرنا نشاهد رؤساء يعلنون حروبا وما هم وما يقولون في الحقيقة إلا زيف وبهتان.
لا شك عندي، وأظن عند آخرين، في أن تكثيف الولايات المتحدة وإسرائيل لجهودهما نحو صنع شرق أوسط مختلف يقف وراء الاهتمام المتزايد بصنع هذه التسريبات وتحليلها. الأمل كبير في، وكذلك الخوف من، أن تكون هذه التسريبات خرائط طرق ليمشي فيها أهل “الشرق الأوسط المختلف” نحو مستقبل لم يكن في الحسبان. الطرق وخرائطها لم تعد محددة ومحدودة كما كانت قبل عقدين أو ثلاثة، اختلفت بالتأكيد. اختلفت مداخلها واختلفت مشقات المشي عليها واختلفت مخارجها. بمعنى آخر، اختلف المستقبل المنظور عن المرسوم.
أما وقد اختفت الطرق البديلة تحت القصف العسكري أو السياسي أو بالإرهاب الجديد أو بمجرد الإهمال، لم يعد أمامنا طرق لنمشي فيها نحو مستقبل كان موعودا، المطروح علينا الآن هو الطرق المختلفة التي طرحتها، وتستمر في طرحها التسريبات الأخيرة، وأغلبها يؤدى إلى مستقبل، هو بطبيعة الحال، مختلف.
***
نمشي في السنوات الأخيرة على طرق غير مألوفة، تدفع شعوبنا، وتزعم أنها تحميها، تسريبات وسياسات لم تكن في بداياتها مفهومة ولا مبررة. أضرب مثلا أو أكثر. كنا في نظر أنفسنا بعد انقضاء المراحل الأولى من استقلالنا، كنا عربا. أكثر شعوبنا، وبخاصة شبابها، كان فخورا بهذه الصفة. كنا في نظرنا ونظر العالم الخارجي قوما بالمعني والمحتوى الأحدث لهذا المفهوم. مغاربة كنا أم خليجيون أم مصريون أم شوام دروز وشوام علويون، كنا عربا. لا يضيرني لو لاحظت أن العروبة والعرب صارتا تعبران في الوقت الراهن عن حال تراجع وشكوك وندم، هذه كلها وغيرها، اتهامات أو إدانات من صنع تسريبات وخطط وخرائط طرق رسمت لنا ومشينا عليها.
اختلفت الطرق. سار المغاربة على طريق والجزائريون على طريق ثم الليبيون على طريق ثالث. الآن يتحدثون عن طريق للخليجيين يختلف عن كل الطرق التي يمشى عليها غيرهم من العرب ويتحدثون عن طرق مخصصة لكل دولة خليجية أو أخرى، طرق مختلفة عن بعضها البعض. هناك من يحتج بالقول إن أغلب العرب، مغاربة أو شوام أو مصريون وسودانيون، هم الآن يركضون ويهرولون نحو المسالك التي تسلكها دول الخليج، أو، وعلى سبيل المثال والواقع المفروض، نحو الطريق الذي تقرر أن يمشي فيه الخليجيون وأهل المملكة المغربية، وأهل مصر وربما أهل سوريا الجديدة، طريق الإبراهيمي. صحيح هذا الاحتجاج أم غير صحيح، هو ما لا تنفيه التسريبات اليومية الصادرة من إسرائيل وهذه البلدان. بعض التسريبات تؤكده بتهديدات غزو أو فرط أو اغتيال وبعضها يأتي في حزم أكثرها خبيث ولئيم.
يعتقد البعض أن الأموال الخليجية المتناهية الحجم التي دخلت جيب الرئيس ترامب أو دخلت ميزانية واشنطن إنما هي من باب المقايضات، يعني يجب أن تنتظر الدولة صاحبة هذا المال من أمريكا مقابلا. يأتي الرد ساذجا لقوم يعلمون ويعرفون أن العلاقات بين الدول تبنى على مصالح وليس على مقايضات، ثم ألم تكن المقايضة في معظم حالاتها مصلحة في عرف أي علاقة دولية؟.
***
حديثنا عن العلاقات الدولية يجرنا إلى الجديد الطارئ عليها والدافع المنتظر لتحريك المياه الراكدة بفعل التسريبات وغيرها من عوامل انحدار القوة والمكانة. يجرنا حديثنا إلى قاعة مؤتمرات في الصين استضافت بالأمس القريب قادة الدول الأعضاء في منظمة شنغهاي. لغات المؤتمر عديدة بتعدد ثقافات عشرين دولة من أوراسيا وإفريقيا والشرق الأوسط. لهجة الخطاب أقرب ما تكون إلى لهجة سمعتها في مؤتمر عقد في القاهرة في أوائل الستينات من القرن الماضي، لهجة المتحدي الواثق مما يقول ومما ينتظر ومما يريد أن يفعل. سمعت الرئيس الصيني بصفته المضيف ولكن أيضا بصفته قائدا لمشروع نظام عالمي جديد، سمعته يقول إنهم بصدد أن يكون النظام الجديد عادلا. أما بصفته قائدا ومنظما لهذا المؤتمر فقد اختار أن يشير إلى أن المؤتمر يمثل ما يزيد عن نصف البشرية جمعاء. بمعنى آخر كاد يعلن نهاية عصر هيمنة الغرب، هيمنة دامت بدون انقطاع لقرون عديدة، ولعله بهذا المعنى أراد أن يعلن قرب ولادة نظام دولي لا يهيمن ولا يظلم ولا يتكبر ولا يسمح بإبادة سكان أصليين من أي ملة أو لون أو عرق.
يجرنا أيضا هذا الحديث إلى التأمل بعمق وتفاؤل في حالة الغليان في قاع النظام الدولي وعديد النظم الإقليمية. علمتنا التجربة أنه في حال الغليان جدير بالدول، وبخاصة دول الجنوب، التروي عند اتخاذ القرارات. جدير بها أيضا تجميع أشباهها من الدول صاحبة السمعة والمكانة والتجربة لتبحث جميعها معا عن صيغة مناسبة لما يجب أن تفعله لملاقاة هذا النظام الدولي الجديد على طريق هي وأشباهها من رسم خريطته. تابعت ناريندرا مودي، وأنا الغاضب نوعا ما عليه، يحدد بالدقة الواجبة مكان بلاده بين دول مجموعة شنغهاي. أعرف عن ثقة أن تجربة جواهر لال نهرو تنير له كل المصابيح اللازمة والتي ظلت بعده معتمة على امتداد عقود.
وقتها، أي قبل خمسة وسبعين عاما، انشغل نهرو وأشباهه برسم خارطة طريق تعتمد فلسفة سياسية مبتكرة عنوانها ” كيف تحافظ على أمن واستقلال بلادك وسط إرهاصات بناء نظام دولي جديد”. تأملوا واجتمعوا واستقروا على سياسة خارجية موحدة قوامها مبدأ عدم الانحياز. أما في زماننا والنظام الدولي الجديد على وشك البزوغ فقد خرج علينا الرئيس الهندي باقتراح الالتزام بسياسة خارجية قوامها “الانحياز المتوازن” لأقطاب النظام الجديد، ولكنه الانحياز المرن والفاعل في قضايا دولية بعينها والمخطط له بعناية. الانحياز المقترح يجب أن يستند إلى إرادة قوية وثروات طبيعية وبشرية هائلة وفلسفة سياسية حرة وواضحة واستعداد للضغط بقوة على أقطاب النظام الدولي الجديد من مواقع قوة وفهم وتحالفات متينة من داخل مؤسسات هذا النظام.
***
له ما يبرره هذا الحنين الملموس إلى كتلة عربية جاهزة بفلسفتها لتكون طرفا فاعلا في انتظار نظام دولي جديد. العرب لا شك يدركون أنهم لن يحظوا بما يضمن أمنهم واستقلالهم إلا بالتزامهم المعلن والقوي والعاجل بفلسفة تجتمع عليها كافة السياسات الخارجية للدول العربية، وأن الانحياز المتعدد والواعي والمتوازن هدف يستحق التأمل.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق